الأربعاء، 5 نوفمبر 2008

حوار مع جالا فهمي


أجرى الحوار: محيي الدين إبراهيم - محمود عبد الوهاب
noonptm@gmail.com
انا بطبيعتي وبكل الخلفيات التي ذكرتها لك عن طفولتي ونشأتي ارفض دور المرأة المغلوبة على أمرها، المسألة دى مزعجة جداً، خاصة إن المرأة العربية كانت مؤثرة جداً في صناعة التاريخ الإنساني قبل المرأة الغربية بآلاف السنين، فهل يصح أن تتحول ببساطة الى ارتداء هذا الدور الهامشي.


إنها اميرة السينما المصرية إنها جالا فهمي ابنة المخرج أشرف فهمي، التي حيرت النقاد بتعدد مشاربها الثقافية والفنية وتنوع اعمالها التي غرقت في اعماق المجتمع المصري وصورته كأروع مايكون التصوير وبلمسة من روح هذة الفنانة المتألقة جالا فهمي. واميرة السينما المصرية جالا فهمي من مواليد 1962 حصلت على ليسانس الآداب قسم اللغة الإنجليزية عام 1986، وعملت في الاذاعة التليفزيونية بالاضافة إلي ممارستها للتمثيل، بدات حياتها الفنية في سن مبكرة، كانت لا تزال في الثانية عشر من عمرها . ثم عادت كمذيعة لبرنامج إذاعي بعنوان حكايات راوية وفكرى، ومنه إلى التلفزيون ثم تفرغت للسينما وذاقت طعم النجاح فى مجموعة الافلام الممصرة التى قدمتها مع المخرج شريف شعبان.
بعضهم قال أن جالا فهمي اشبه بعالم كامل ولكن يمشي على قدمين هل هذا صحيح؟
صحيح.. فأنا وخلال النصف الأول من حياتي كنت احيا في مدينة " سانتياجو" بدولة شيلي وبعدها عشت مع الأسرة في مدريد اسبانيا وطبعاً اتحدث الاسبانية كأولاد بلدها واتمتع بصداقة فنانيين وشخصيات اسبانية كثيرين، ولأن ماما خريجة آداب قسم فرنساوي فكان من الطبيعي أن تحتل فرنسا جزء كبير من حياتي فقد كنا نزورها كثيراً اثناء تواجدنا بأسبانيا ومازلت حتى الآن ازورها كثيرا وساعدني ايضا على محبة هذا البلد كوني اتحدث الفرنسية بطلاقة، واتذكر أن جدتي وهي خريجة مدارس فرنساوي كانت لاتتحدث معي في البيت وانا طفلة إلا بالفرنسية وهي ايضاً التي صممت على ان تدخل ماما آداب قرنساوي، ولما درست آداب انجليزي اصبحت ثقافتي تتنوع مابين العربية والأسبانية والفرنسية والإنجليزية وهي امور ساعدتني كثيراً فنياً واجتماعياً في التعريف بوطني بل انني الآن احاول التعريف بالثقافات من خلال استثمار درايتي الكاملة باربعة لغات عالمية في محاولة مني للتقريب بين الثقافة الشرقية والغربية عن طريق افلامي وايضاً عن طريق المهرجانات التي احضرها في شتى بلدان العالم.

معروف عنك انك صريحة جداً .. هل هذه الصراحة سببت لك متاعب؟اساساً الصراحة والحقيقة اصل المتاعب، وانا انسانة مستقلة، تعلمت من كثرة الحياة بالخارج كيف يكون الإنسان مستقلاً في قراراته، وهذا لايعني الإستبداد بالرأي بالعكس، ولكن قدرتك على قبول الاستشارة المنطقية، يعني ليس كل مايقال لك تقوم بتنفيذه ولكن تقبل منه الحدث المنطقي وإلا ستتحول الأمور كلها إلى فوضى.




ولكن هذا الامر – المنطق يعني – اصبح امر متعب جداً في ايامنا هذه؟ولذلك فانا من وجهة نظر البعض شرسة.


وهل جالا فهمي فنانة شرسة؟شوف يامحيي ، انا جدي احمد بك فهمي كان عميداً لكلية الطب وكان رحيما جداً وعطوفا لأقصى حد هذا بجانب روحة الرياضية العالية إذ كان رئيساً لنادى الصبد وهو ماأكسينا روح التفاؤل وحب الحياة والتعامل مع الأمور ببساطة وتعاون ناهيك طبعاً عن كون عائلتي كلها عاشقة للفن والفن اولاً واخيراً تهذيب للعقل والسلوك، وهذ ورثته ايضاً عن والدى الفنان والمخرج اشرف فهمي والذي تشربت منه سلوكيات كثيرة في غاية النبل فإلى جانب انسانيته البديعة قد كان يتوجها دائما بثقافته إذ كان حاصلاً على شهادات عليا من مصر وامريكا في التاريخ والسينما من اعرق الجامعات المصرية والأمريكية، هذه كلها اصول ونسب أو كما يقول اهل بلدي " سلسال " واعتقد انه طيب ويحمل كل مقومات السلوك الانساني الرفيع الذي تربيت فيه ووعيته، ربما انا مختلفة لكن لست شرسة.

المخرج اشرف فهمي كان صاحب صالون ادبي وفني .. ماتأثير هذا الصالون على جالا قهمي ؟تأثير عظيم جداً، بل انه اصبح جزءاً من تكويني الشخصي كجالا فهمي على المستويين الانساني والفني، انت لايمكن تتخيل وانا طفلة وارى في بيت بابا وفي غرفة الصالون امثال محمود مرسي وعادل ادهم وشادية ونادية لطفي ونبيلة عبيد نجلاء فتحي ويسرا عالم راقي من اعلام السينما والفن في عالمنا.

هل جالا فهمي كفنانة تأثرت بالفنانة لبنى عبد العزيز؟ليه بتقول السؤال ده؟

ادوار جالا فهمي كلها ادوار متمردة على وضع المرأة أو النظرة العامة تجاه المرأة في الشرق اليس كذلك؟
انا بطبيعتي وبكل الخلفيات التي ذكرتها لك عن طفولتي ونشأتي ارفض دور المرأة المستكينة او المغلوبة على أمرها، المسألة دى مزعجة جداً، خاصة إن المرأة العربية كانت مؤثرة جداً في صناعة التاريخ الإنساني قبل المرأة الغربية بآلاف السنين، فهل يصح أن تتحول ببساطة هكذا الى ارتداء هذا الدور الهامشي، بل ليس هامشياً وحسب بل ايضاً يضاف عليه الضعف وكونها كائناً ثانوياً، لبنى عبد الغزيز تمرددت على هذا الوضع وماجدة الصباحي كانت رائدة التمرد على هذا الوضع وانا ايضاً متمردة عليه ولكن لكل منا وجهة نظره حسب مناخة ولغة الجيل الذي يتحدث معه وقضايا زمنه وان كان هناك تأثير كما تفضلت بالسؤال فهو ليس عيباً خاصة انهن فنانات عظام وان كنت لم اضعهن امامي لانني امارس شخصيتي الطبيعية في الحياة التي ربما تتشابه مع منهجهن في الحياة وهذا شئ كويس وليس عيباً.



غنيتي لفلسطين جالا؟أغنية فيديو كليب بعنوان "الشعب الصامد" تأليف أحمد فؤاد نجم وإخراج جميل مغازي، وهي أغنية تحيي صمود الشعب الفلسطيني، وكنت أنوي ضمها إلي ألبوم غنائي لي سيطرح في الأسواق قريبا ولكن رأيت أن أسرع بتسجيلها وتصويرها وإهدائها إلي الفضائيات العربية لإذاعتها مشاركة مني في دعم الصمود الفلسطيني وفضح ممارسات إسرائيل العنصرية ضد الفلسطينيين.


هل يضاف لرصيدك الفني كونك فنانة ثورية؟انا جالا فهمي فنانة مصرية حرة ومن سلالة احرار ومؤمنة جداً بوطني وبقضاياه، ولو كان هذا الإيمان يقع تحت مسمى ثورية فانا ثورية، لانك كفنان ان لم تؤمن بقضاياك وقضايا وطنك ستصبح مجرد حالة تظهر ثم تموت وتتلاشى ولايذكرها احد كأنك لم تكن، الفنان الحقيقي هو الفنان الذي يحمل مسئولية وطنه من خلال فنه، وأنا أؤمن بأن حريتي في قلبي، وفلسطين يامحيي جزء غالي جداً من هذا القلب.


وماهي المسئولية تجاة الوطن من خلال ماسوف تقدمينه للجمهور في المستقبل؟فيلم يغوص في اخطر قضايا الشباب ويسلط الضوء عليها لينتبه الجميع إلى وجه الخطر الذي إن تغاضينا عنه ربما يؤثر على الوطن ومصر تأئيراً سلبياً لاتحمد عقباه.


ممكن نتعرف على العمل؟مستحيل .. ده مفاجأة


يعني فيلم الموسم؟هذا اتركه للنقاد .. لكن انا كفنانة لااستطيع حرق الفيلم قبل عرضة.


نوع من الالتزام؟تقدر تقول كدة.

هل جالا فهمي راضية عن احوال السينما في مصر؟الفنان المصري فنان عظيم عالمياً لكن النهاردة يتم استغلاله بصورة غير مرضية دفعت كثير من نجومه للإعتزال أو دفعتهم للقيام بعمل واحد كل ثلاث سنوات مثلاً.


من الذي يقوم باستغلاله وماهي طرق الإستغلال؟عندك مثلاً قنوات الافلام المتخصصة والتي يديرها امراء عرب، القنوات دي عايزة افلام من كلاس سي بمعنى افلام لايزيد انتاجها عن نصف مليون جنية وبوجوه غير معروفة، والنتيجة ان كل الافلام الموجودة على الساحة افلام درجة ثالثة وبوجوه ليس لها تاريخ وربما اكبر مثال مهرجان دمشق الذي شاركت فيه مصر بأفلام تسئ لتاريخ القنان المصري، وهو امر مقصود للإساءة الى الفنان المصري وتاريخه وريادته، وانا اقول ياجماعة إذا كنتم تريدون وجوهاً جديدة وبنصف مليون جنية للفيلم فلتتيحوا لي الفرصة بإعطائي هذا المبلغ وانا انتج افلاماً عظيمة بخريجي معهد السينما بدلا من الأفلام التجارية وستكون من اروع ماتنتج السينما في وقتنا الحالي لان معاهدنا الفنية تفرز فنانون شبان رائعون.


ولكن بالنسبة للسينما لم يعد هناك افلاما تحمل مسمى فيلما فنياً خالداً؟مانا قلت لك .. الافلام كلها تجارية من طراز سي ، اوكي ياجماعة .. لتكن افلام تجارية من طراز سي ، لكن اجعلوا بينها ولو فيلما واحدا يحمل فنا .. يحمل خلودا، يحافظ على مجد الريادة للسينما المصرية، لانه على سبيل المثال امريكا تنتج 1200 فيلماً في العام الواحد ولايحصل على الاوسكار الا فيلما واحدا، نريد في مصر فيلما واحدا كل عام يظهر قيمة الفن المصري قبل ان نبكي في المستقبل على اللبن المسكوب ولانجد على سبيل المثال إلا فيلم على شاكلة "حاحا وتفاحة" للدخول به مهرجانات امثال مهرجان كان وبرلين، دي فضيحة.


هل هذا يدفعنا للإيمان بأن هناك يد تخرب صناعة السينما في مصر؟لا.. ولكن اياد تريد الربح السريع وليس الخراب لإن لو خربت صناعة السينما في مصر لن يجدوا فنانا عربيا يحمل مايحمله الفنان المصري من تاريخ وخبره وتنوع، اكرر ليس هناك تخريب ولكن رغبة في التربح السريع.

فنان شاب ترى فيه جالا فهمي فناناً متميزاً؟محمد سعد .. فنان شاب يحمل كل مقومات الفنان المتميز .. محمد سعد لو قام بأدوار تراجيدي سيبكيك بجد .. ولكن اعتقد انه لم يحن الأوان بعد.


هل اي فنان يمكن أن يمثل ادواراً كوميدية ؟لا طبعاً .. الكوميديا يلزمها ايقاع وسرعة بديهه وخفة ظل، والفنان الكوميدي لابد أن يحمل ميول لدى الفن الكوميدي، ليس كل فنان بالطبع قادر على اداء الأدوار الكوميدي.


هل هناك عتاب ما تختزنه جالا فهمي في قلبها ولايعلمه احد؟هذا حقيقي .. وعتاب يحمل علامة استفهام ايضاً .. وهو ان الفنان اشرف فهمي لم يكرم ولا في مهرجان سينما مصري حتى الآن !! لماذا ؟؟ اليس اشرف فهمي فناناً عظيماً ومخرجاً وطنياً قديراً آمن بقضايا وطنه وترجمها من فكره وفنه، هذا هو عتابي.


حوار مع جالا فهمي


أجرى الحوار: محيي الدين إبراهيم - محمود عبد الوهاب
noonptm@gmail.com
انا بطبيعتي وبكل الخلفيات التي ذكرتها لك عن طفولتي ونشأتي ارفض دور المرأة المغلوبة على أمرها، المسألة دى مزعجة جداً، خاصة إن المرأة العربية كانت مؤثرة جداً في صناعة التاريخ الإنساني قبل المرأة الغربية بآلاف السنين، فهل يصح أن تتحول ببساطة الى ارتداء هذا الدور الهامشي.


إنها اميرة السينما المصرية إنها جالا فهمي ابنة المخرج أشرف فهمي، التي حيرت النقاد بتعدد مشاربها الثقافية والفنية وتنوع اعمالها التي غرقت في اعماق المجتمع المصري وصورته كأروع مايكون التصوير وبلمسة من روح هذة الفنانة المتألقة جالا فهمي. واميرة السينما المصرية جالا فهمي من مواليد 1962 حصلت على ليسانس الآداب قسم اللغة الإنجليزية عام 1986، وعملت في الاذاعة التليفزيونية بالاضافة إلي ممارستها للتمثيل، بدات حياتها الفنية في سن مبكرة، كانت لا تزال في الثانية عشر من عمرها . ثم عادت كمذيعة لبرنامج إذاعي بعنوان حكايات راوية وفكرى، ومنه إلى التلفزيون ثم تفرغت للسينما وذاقت طعم النجاح فى مجموعة الافلام الممصرة التى قدمتها مع المخرج شريف شعبان.
بعضهم قال أن جالا فهمي اشبه بعالم كامل ولكن يمشي على قدمين هل هذا صحيح؟
صحيح.. فأنا وخلال النصف الأول من حياتي كنت احيا في مدينة " سانتياجو" بدولة شيلي وبعدها عشت مع الأسرة في مدريد اسبانيا وطبعاً اتحدث الاسبانية كأولاد بلدها واتمتع بصداقة فنانيين وشخصيات اسبانية كثيرين، ولأن ماما خريجة آداب قسم فرنساوي فكان من الطبيعي أن تحتل فرنسا جزء كبير من حياتي فقد كنا نزورها كثيراً اثناء تواجدنا بأسبانيا ومازلت حتى الآن ازورها كثيرا وساعدني ايضا على محبة هذا البلد كوني اتحدث الفرنسية بطلاقة، واتذكر أن جدتي وهي خريجة مدارس فرنساوي كانت لاتتحدث معي في البيت وانا طفلة إلا بالفرنسية وهي ايضاً التي صممت على ان تدخل ماما آداب قرنساوي، ولما درست آداب انجليزي اصبحت ثقافتي تتنوع مابين العربية والأسبانية والفرنسية والإنجليزية وهي امور ساعدتني كثيراً فنياً واجتماعياً في التعريف بوطني بل انني الآن احاول التعريف بالثقافات من خلال استثمار درايتي الكاملة باربعة لغات عالمية في محاولة مني للتقريب بين الثقافة الشرقية والغربية عن طريق افلامي وايضاً عن طريق المهرجانات التي احضرها في شتى بلدان العالم.

معروف عنك انك صريحة جداً .. هل هذه الصراحة سببت لك متاعب؟اساساً الصراحة والحقيقة اصل المتاعب، وانا انسانة مستقلة، تعلمت من كثرة الحياة بالخارج كيف يكون الإنسان مستقلاً في قراراته، وهذا لايعني الإستبداد بالرأي بالعكس، ولكن قدرتك على قبول الاستشارة المنطقية، يعني ليس كل مايقال لك تقوم بتنفيذه ولكن تقبل منه الحدث المنطقي وإلا ستتحول الأمور كلها إلى فوضى.




ولكن هذا الامر – المنطق يعني – اصبح امر متعب جداً في ايامنا هذه؟ولذلك فانا من وجهة نظر البعض شرسة.


وهل جالا فهمي فنانة شرسة؟شوف يامحيي ، انا جدي احمد بك فهمي كان عميداً لكلية الطب وكان رحيما جداً وعطوفا لأقصى حد هذا بجانب روحة الرياضية العالية إذ كان رئيساً لنادى الصبد وهو ماأكسينا روح التفاؤل وحب الحياة والتعامل مع الأمور ببساطة وتعاون ناهيك طبعاً عن كون عائلتي كلها عاشقة للفن والفن اولاً واخيراً تهذيب للعقل والسلوك، وهذ ورثته ايضاً عن والدى الفنان والمخرج اشرف فهمي والذي تشربت منه سلوكيات كثيرة في غاية النبل فإلى جانب انسانيته البديعة قد كان يتوجها دائما بثقافته إذ كان حاصلاً على شهادات عليا من مصر وامريكا في التاريخ والسينما من اعرق الجامعات المصرية والأمريكية، هذه كلها اصول ونسب أو كما يقول اهل بلدي " سلسال " واعتقد انه طيب ويحمل كل مقومات السلوك الانساني الرفيع الذي تربيت فيه ووعيته، ربما انا مختلفة لكن لست شرسة.

المخرج اشرف فهمي كان صاحب صالون ادبي وفني .. ماتأثير هذا الصالون على جالا قهمي ؟تأثير عظيم جداً، بل انه اصبح جزءاً من تكويني الشخصي كجالا فهمي على المستويين الانساني والفني، انت لايمكن تتخيل وانا طفلة وارى في بيت بابا وفي غرفة الصالون امثال محمود مرسي وعادل ادهم وشادية ونادية لطفي ونبيلة عبيد نجلاء فتحي ويسرا عالم راقي من اعلام السينما والفن في عالمنا.

هل جالا فهمي كفنانة تأثرت بالفنانة لبنى عبد العزيز؟ليه بتقول السؤال ده؟

ادوار جالا فهمي كلها ادوار متمردة على وضع المرأة أو النظرة العامة تجاه المرأة في الشرق اليس كذلك؟
انا بطبيعتي وبكل الخلفيات التي ذكرتها لك عن طفولتي ونشأتي ارفض دور المرأة المستكينة او المغلوبة على أمرها، المسألة دى مزعجة جداً، خاصة إن المرأة العربية كانت مؤثرة جداً في صناعة التاريخ الإنساني قبل المرأة الغربية بآلاف السنين، فهل يصح أن تتحول ببساطة هكذا الى ارتداء هذا الدور الهامشي، بل ليس هامشياً وحسب بل ايضاً يضاف عليه الضعف وكونها كائناً ثانوياً، لبنى عبد الغزيز تمرددت على هذا الوضع وماجدة الصباحي كانت رائدة التمرد على هذا الوضع وانا ايضاً متمردة عليه ولكن لكل منا وجهة نظره حسب مناخة ولغة الجيل الذي يتحدث معه وقضايا زمنه وان كان هناك تأثير كما تفضلت بالسؤال فهو ليس عيباً خاصة انهن فنانات عظام وان كنت لم اضعهن امامي لانني امارس شخصيتي الطبيعية في الحياة التي ربما تتشابه مع منهجهن في الحياة وهذا شئ كويس وليس عيباً.



غنيتي لفلسطين جالا؟أغنية فيديو كليب بعنوان "الشعب الصامد" تأليف أحمد فؤاد نجم وإخراج جميل مغازي، وهي أغنية تحيي صمود الشعب الفلسطيني، وكنت أنوي ضمها إلي ألبوم غنائي لي سيطرح في الأسواق قريبا ولكن رأيت أن أسرع بتسجيلها وتصويرها وإهدائها إلي الفضائيات العربية لإذاعتها مشاركة مني في دعم الصمود الفلسطيني وفضح ممارسات إسرائيل العنصرية ضد الفلسطينيين.


هل يضاف لرصيدك الفني كونك فنانة ثورية؟انا جالا فهمي فنانة مصرية حرة ومن سلالة احرار ومؤمنة جداً بوطني وبقضاياه، ولو كان هذا الإيمان يقع تحت مسمى ثورية فانا ثورية، لانك كفنان ان لم تؤمن بقضاياك وقضايا وطنك ستصبح مجرد حالة تظهر ثم تموت وتتلاشى ولايذكرها احد كأنك لم تكن، الفنان الحقيقي هو الفنان الذي يحمل مسئولية وطنه من خلال فنه، وأنا أؤمن بأن حريتي في قلبي، وفلسطين يامحيي جزء غالي جداً من هذا القلب.


وماهي المسئولية تجاة الوطن من خلال ماسوف تقدمينه للجمهور في المستقبل؟فيلم يغوص في اخطر قضايا الشباب ويسلط الضوء عليها لينتبه الجميع إلى وجه الخطر الذي إن تغاضينا عنه ربما يؤثر على الوطن ومصر تأئيراً سلبياً لاتحمد عقباه.


ممكن نتعرف على العمل؟مستحيل .. ده مفاجأة


يعني فيلم الموسم؟هذا اتركه للنقاد .. لكن انا كفنانة لااستطيع حرق الفيلم قبل عرضة.


نوع من الالتزام؟تقدر تقول كدة.

هل جالا فهمي راضية عن احوال السينما في مصر؟الفنان المصري فنان عظيم عالمياً لكن النهاردة يتم استغلاله بصورة غير مرضية دفعت كثير من نجومه للإعتزال أو دفعتهم للقيام بعمل واحد كل ثلاث سنوات مثلاً.


من الذي يقوم باستغلاله وماهي طرق الإستغلال؟عندك مثلاً قنوات الافلام المتخصصة والتي يديرها امراء عرب، القنوات دي عايزة افلام من كلاس سي بمعنى افلام لايزيد انتاجها عن نصف مليون جنية وبوجوه غير معروفة، والنتيجة ان كل الافلام الموجودة على الساحة افلام درجة ثالثة وبوجوه ليس لها تاريخ وربما اكبر مثال مهرجان دمشق الذي شاركت فيه مصر بأفلام تسئ لتاريخ القنان المصري، وهو امر مقصود للإساءة الى الفنان المصري وتاريخه وريادته، وانا اقول ياجماعة إذا كنتم تريدون وجوهاً جديدة وبنصف مليون جنية للفيلم فلتتيحوا لي الفرصة بإعطائي هذا المبلغ وانا انتج افلاماً عظيمة بخريجي معهد السينما بدلا من الأفلام التجارية وستكون من اروع ماتنتج السينما في وقتنا الحالي لان معاهدنا الفنية تفرز فنانون شبان رائعون.


ولكن بالنسبة للسينما لم يعد هناك افلاما تحمل مسمى فيلما فنياً خالداً؟مانا قلت لك .. الافلام كلها تجارية من طراز سي ، اوكي ياجماعة .. لتكن افلام تجارية من طراز سي ، لكن اجعلوا بينها ولو فيلما واحدا يحمل فنا .. يحمل خلودا، يحافظ على مجد الريادة للسينما المصرية، لانه على سبيل المثال امريكا تنتج 1200 فيلماً في العام الواحد ولايحصل على الاوسكار الا فيلما واحدا، نريد في مصر فيلما واحدا كل عام يظهر قيمة الفن المصري قبل ان نبكي في المستقبل على اللبن المسكوب ولانجد على سبيل المثال إلا فيلم على شاكلة "حاحا وتفاحة" للدخول به مهرجانات امثال مهرجان كان وبرلين، دي فضيحة.


هل هذا يدفعنا للإيمان بأن هناك يد تخرب صناعة السينما في مصر؟لا.. ولكن اياد تريد الربح السريع وليس الخراب لإن لو خربت صناعة السينما في مصر لن يجدوا فنانا عربيا يحمل مايحمله الفنان المصري من تاريخ وخبره وتنوع، اكرر ليس هناك تخريب ولكن رغبة في التربح السريع.

فنان شاب ترى فيه جالا فهمي فناناً متميزاً؟محمد سعد .. فنان شاب يحمل كل مقومات الفنان المتميز .. محمد سعد لو قام بأدوار تراجيدي سيبكيك بجد .. ولكن اعتقد انه لم يحن الأوان بعد.


هل اي فنان يمكن أن يمثل ادواراً كوميدية ؟لا طبعاً .. الكوميديا يلزمها ايقاع وسرعة بديهه وخفة ظل، والفنان الكوميدي لابد أن يحمل ميول لدى الفن الكوميدي، ليس كل فنان بالطبع قادر على اداء الأدوار الكوميدي.


هل هناك عتاب ما تختزنه جالا فهمي في قلبها ولايعلمه احد؟هذا حقيقي .. وعتاب يحمل علامة استفهام ايضاً .. وهو ان الفنان اشرف فهمي لم يكرم ولا في مهرجان سينما مصري حتى الآن !! لماذا ؟؟ اليس اشرف فهمي فناناً عظيماً ومخرجاً وطنياً قديراً آمن بقضايا وطنه وترجمها من فكره وفنه، هذا هو عتابي.


الاثنين، 13 أكتوبر 2008

حين لا يأتي الخميس

بقلم د. حنان فاروق

aupbc@yahoo.com

متعب هو الآخر من المشاوير .. ينظر إلى الحقائب بنفاذ صبر .. (يبدو أنكم ستحتاجون حقيبة إضافية) .. ابتسِم .. (هل أنتم ذاهبون إلى الصحراء؟ ماهذه التخمة التى مرضت بها حقائبكم؟).. لا أرد .. أتشاغل بإعداد الغداء .


حقائبى المكتظة بأحلامي المختبئة بين أكوام ملابسي ملقاة على أرض .. صالة بيتى تستعجلني للرحيل .. للأسف لا أستطيع تقديم موعد سفرى دقيقة واحدة .. فجواز سفرى لا أتسلمه من الجهة التى أعمل بها إلا يوم السفر وحجز الطيران الذى منّ علي بموعده بعدما جلست فى قوائم الانتظار طويلاً لايمكن تبديله. هدّأت من إلحاح الحقائب وتشاغلت بإعدادات اليوم الموعود .. باقى من الزمن يومان .. يالطولهما المجهد .. يبدو أنه أغرقني فى دوامة أفكار لا تتوقف .. تخيلت لحظة وصولى ودمعات أمي تحتضننى قبل أن ألقي بنفسي بين ذراعيها .. أعرف معنى بكائها جيداً. أجفف مطر عينيها بمنديل وصولى فتبكى ثانية لخوفها من رحيلى الجديد .. منذ اليوم الأول للوصول يبدأ العد العكسي وكأن الأيام تحمل ساعة إيقاف تنبهنى لموعد انتهاء فرحتى .. ماالذى أفكر فيه الآن؟ لماذا لا أحتضن سعادتى بجناحي الجاهزين للانطلاق وليحدث ما يحدث بعد ذلك؟ يدق جرس الباب .. يدخل زوجي محملاً بما تبقى من متطلبات السفر .. متعب هو الآخر من المشاوير .. ينظر إلى الحقائب بنفاذ صبر .. (يبدو أنكم ستحتاجون حقيبة إضافية) .. ابتسِم .. (هل أنتم ذاهبون إلى الصحراء؟ ماهذه التخمة التى مرضت بها حقائبكم؟).. لا أرد .. أتشاغل بإعداد الغداء .. لو كنت أستطيع ترك حقائبى وتخفيف حملى والعودة بلا أحمال لفعلت لكن. يقتحم ابني دوامة فكري: أمي .. هل سنسافر الأربعاء أم الخميس؟ أنهره دون أن أجيب .. كل الذى أعرفه أن اليوم هو الاثنين .. لا أريد أن أغرق في مزيد من الأفكار .. تتداخل الصور .. لا أدري في أي عام أنا .. مشهد الفيلم يتكرر .. هل أنا فى حلم أم فى حقيقة .. أختنق .. أريد الخروج من تلك الدوامة. أضع عباءتى فوقي .. يناديني كل من في البيت .. لا ألتفت .. شيء ما يسحبني للخارج .. يجتذبني .. أفتح بوابة البيت .. أخرج إلى الشارع .. يتنفسني الهواء .. يملأ عباءتي .. يملؤني .. جسدي يخف .. قدماي ترتفعان عن الأرض .. أحاول التوازن .. أرتفع .. أرتفع .. ابتعد عن الأرض .. أتركني للريح دون مقاومة .. لم أعد أتذكر شيئاً.

حين لا يأتي الخميس

بقلم د. حنان فاروق

aupbc@yahoo.com

متعب هو الآخر من المشاوير .. ينظر إلى الحقائب بنفاذ صبر .. (يبدو أنكم ستحتاجون حقيبة إضافية) .. ابتسِم .. (هل أنتم ذاهبون إلى الصحراء؟ ماهذه التخمة التى مرضت بها حقائبكم؟).. لا أرد .. أتشاغل بإعداد الغداء .


حقائبى المكتظة بأحلامي المختبئة بين أكوام ملابسي ملقاة على أرض .. صالة بيتى تستعجلني للرحيل .. للأسف لا أستطيع تقديم موعد سفرى دقيقة واحدة .. فجواز سفرى لا أتسلمه من الجهة التى أعمل بها إلا يوم السفر وحجز الطيران الذى منّ علي بموعده بعدما جلست فى قوائم الانتظار طويلاً لايمكن تبديله. هدّأت من إلحاح الحقائب وتشاغلت بإعدادات اليوم الموعود .. باقى من الزمن يومان .. يالطولهما المجهد .. يبدو أنه أغرقني فى دوامة أفكار لا تتوقف .. تخيلت لحظة وصولى ودمعات أمي تحتضننى قبل أن ألقي بنفسي بين ذراعيها .. أعرف معنى بكائها جيداً. أجفف مطر عينيها بمنديل وصولى فتبكى ثانية لخوفها من رحيلى الجديد .. منذ اليوم الأول للوصول يبدأ العد العكسي وكأن الأيام تحمل ساعة إيقاف تنبهنى لموعد انتهاء فرحتى .. ماالذى أفكر فيه الآن؟ لماذا لا أحتضن سعادتى بجناحي الجاهزين للانطلاق وليحدث ما يحدث بعد ذلك؟ يدق جرس الباب .. يدخل زوجي محملاً بما تبقى من متطلبات السفر .. متعب هو الآخر من المشاوير .. ينظر إلى الحقائب بنفاذ صبر .. (يبدو أنكم ستحتاجون حقيبة إضافية) .. ابتسِم .. (هل أنتم ذاهبون إلى الصحراء؟ ماهذه التخمة التى مرضت بها حقائبكم؟).. لا أرد .. أتشاغل بإعداد الغداء .. لو كنت أستطيع ترك حقائبى وتخفيف حملى والعودة بلا أحمال لفعلت لكن. يقتحم ابني دوامة فكري: أمي .. هل سنسافر الأربعاء أم الخميس؟ أنهره دون أن أجيب .. كل الذى أعرفه أن اليوم هو الاثنين .. لا أريد أن أغرق في مزيد من الأفكار .. تتداخل الصور .. لا أدري في أي عام أنا .. مشهد الفيلم يتكرر .. هل أنا فى حلم أم فى حقيقة .. أختنق .. أريد الخروج من تلك الدوامة. أضع عباءتى فوقي .. يناديني كل من في البيت .. لا ألتفت .. شيء ما يسحبني للخارج .. يجتذبني .. أفتح بوابة البيت .. أخرج إلى الشارع .. يتنفسني الهواء .. يملأ عباءتي .. يملؤني .. جسدي يخف .. قدماي ترتفعان عن الأرض .. أحاول التوازن .. أرتفع .. أرتفع .. ابتعد عن الأرض .. أتركني للريح دون مقاومة .. لم أعد أتذكر شيئاً.

السبت، 4 أكتوبر 2008

نماذج مصرية بين كمال وقلدس

بقلم الناقد الكبير توفيق حنا - الولايات المتحدة

noonptm@gmail.com

الصداقة -من وجهة نظري- هى قمة العلاقات الإنسانية.. لعلها تسمو على علاقة الحب.. الصداقة الحقة لا تنتهى ولا تموت.. ويلازمها دائما هذا الوفاء الخلاق. وفى أعمال نجيب محفوظ وفى حياته أيضا.. يتردد لحنان رئيسيان هما: الصداقة والوفاء ونجدهما فى أجمل تحققاتهما فى ثلاثية بين القصرين فى علاقة السيد أحمد عبدالجواد وأصدقاء العمر محمد عفت وإبراهيم الفار وعلى عبدالرحيم.


وبخاصة محمد عفت.. كما نجدهما فى علاقة كمال وحسين شداد قصر الشوق.. هذه الصداقة التى قادتهما إلى تجربة رومانسية.. تجربة حب كمال لعايدة -أخت حسين شداد، هذه التجربه الفاشله .. وهذا الحب الخائب الذى لعله كان وراء عزوبة كمال وعزوفه عن الزواج. كما نجد لحن الصداقه يتردد فى "السكريه" بين كمال ورياض قلدس.. هذه الشخصيه الروائيه التى صور فيها وبها نجيب محفوظ صداقته فى حياته مع الروائى المصرى عادل كامل كما صور فى "السكريه" ايضا شخصية استاذه سلامه موسى تحت اسم عدلى كريم .. والسكريه هى الجزء الثالث والاخير لثلاثية " بين القصرين" كان اللقاء الاول بين كمال عبد الجواد ورياض قلدس فى مجلة "الفكر" لصاحبها الكاتب الاسلامى "عبد العزيز الاسيوطى".. وعن مقر مجلة "الفكر" يحدثنا نجيب محفوظ بلهجة ساخرة وناقدة – ايضا- يقول: مجلة "الفكر" تشغل الدور الارضى فى احدى عمارات شارع عبد العزيز.. كانت حجرة صاحبها الاستاذ عبد العزيز الاسيوطى تطل بنافذة ذات قضبان على عطفة "بركات" المظلمة، فكانت تضاء ليل نهار.. والحق انه كلما اقبل كمال على ادارة المجلة، ذكره موضعها الارضى ورثاثة اثاثها بمكانة الفكر فى بلده وبمكانته هو فى مجتمعه" ويقول نجيب محفوظ وهو يمهد لهذا اللقاء الاول بين كمال ورياض قلدس: "وما كان يستقر المجلس بكمال حتى دخل الحجرة رجل فى مثل سنه، يرتدى بذله من التيل الرمادى، طويل القامه، وان كان دون كمال طولا، نحيفا، ولكنه اكثر امتلاء منه، مستطيل الوجه، متوسط الجبين، متتلئ الشفتين، ذو انف دقيق وذقن مدبب اضفى على سحنته طابعا خاصا" ونلمس هنا حرص نجيب محفوظ على تقديم صورة شخصية –بورتريه- لريلض قلدس، الذى يقدمه عبد العزيز الاسيوطى: "الاستاذ رياض قلدس، مترجم بوزارة المعارف، انضم حديثا الى جماعة كتاب "الفكر" وقد امد مجلتنا بدم جديد بتلخيصه الشهرى للمسرحيات العالميه، وكتابه القصة القصيرة" ويكتفى بتقديم كمال عبد الجواد قائلا: "الاستاذ كمال احمد عبد الجواد.. لعل قرأت مقالاته. ويرد رياض قلدس معبرا عن اعجابه: "انى اقرأ مقالاته منذ سنوات، مقالاته قيمه بكل معنى الكلمه." ..وهكذا تم اللقاء الاول بين كمال ورياض وتبادلا الحديث حول الاطب والفلسفة.. قال رياض قلدس: تتبعت مقالاتك منذ سنوات منذ بدأت عن فلاسفة الاغريق وهى مقالات متنوعة واحيانا تكون متناقضه بالقياس الى ناتعرض من فلسفات، فادركت انك مؤرخ ميدانى حاولت عبثا ان اهتدى الى موقفك انت مما تكتب واى فلسفه تنتمى اليها! وكان رد كمال على تساؤل صديقه "انى سائح فى متحف لا املك فيه شيئا، مؤرخ فحسب، لاادرى.."واستمر هذا الحوار بين الصديقين حتى قال رياض : اذكر انك عرضت الفلسفة المادية بحماس يدعو للريبه.. وكان رد كمال وكأنه يدفع عن نفسه تهمه: كان حماسا صادقا ثم لم البث ان حركت رأسى مرتابا.. واستمر رياض فى تساؤله: - لعلها الفلسفة العقلية؟ ولكن كمال رد على تساؤل رياض. - ثم لم البث ان حركت رأسى مرتابا.. واضاف كمال: "الفلسفات قصور جميله ولكنها لاتصلح للسكنى" ولكن رياض واصل تحقيقه: هنالك العلم ، فلعله نجا من شكك؟ ولكن لم ينج شئ من شك وارتياب كمال.. ورد على سؤال رياض: انه دنيا مغلقه حيالنا لانعرف الا بعض نتائجها القريبة .. ثم اطلعت على اراء نخبة من العلماء يرتابون فى مطابقة الحقيقه العلميه للحقيقه الواقعيه، وآخرين ينوهون بقانون الاحتمال، وغيرهم ممن تراجعوا عن ادعاء الحقيقه المطلقه..." واكد كمال موقفه وكرره قائلا: "فلم البث ان حركت رأسى مرتابا" وكان تعليق عبد العزيز على موقف كمال العقلى.. والفكرى.. والانسانى ايضا: انت اعزب فى فكرك، كما انت اعزب فى حياتك! ولكن رد رياض قلدس على تعليق عبد العزيز الاسيوطى: العزوبة حال مؤقته، وربما كان الشك كذلك. وقال رياض وكأنه يضع نهاية مؤقته لهذا الحوار .. الذى دار –ايضا- حول العلم والفن: العلم يجمع البشر فى نور افكاره، والفن يجمعهم فى عاطفة ساميه انسانيه، وكلاهما يطور البشريه ويدقعها الى مستقبل افضل" وقال رياض قلدس لصديقه الجديد كمال عبد الجواد: "ان حديثنا لن ينقطع، او هذا مااوده، انعد انفسنا اصدقاء؟ وبحماسة صادقه مخلصه جاء رد كمال: بكل تأكيد، يجب ان نتقابل فى كل فرصه. ويقرر نجيب محفوظ اهمية الصداقة فى حياته وفى حياة كل انسان: "شمل كمال احساس بالسعادة لهذه الصداقه الجديدة كان يشعر بان جانبا ساميا من قلبه استيقظ بعد سبات عميق، فاقتنع اكثر من قبل بخطورة الدور الذى تلعبه الصداقه فى حياته، وبانها عنصر حيوى لاغنى عنه" والصداقه فى حياة نجيب محفوظ وفى اعماله فى حاجه من النقاد الى دراسات متونعه ووافيه وشامله. ويقدم لنا نجيب محفوظ هذا اللقاء بين الصديقين كمال ورياض فى حى الحسين.. ذات مساء يوم من ايام الشتاء: "وكان قد مضى على تعارفهما فى مجلة "الفكر" اكثر من عام ونصف عام، لم يمر اسبوع خلاله دون ان يتقابلا مرة او مرتيت، بخلاف العطله التى تجمع بينهما كل مساء على وجه التقريب فى مجلة "الفكر" او فى بيت "بين القصرين" او فى بيت رايض بمنشية البكرى، او مقاهى عماد الدين، او قهوة الحسين الكبرى التى لجأ اليها كمال بعد ان أتت المعاول على قهوة احمد عبده الناريخيه فمحتها من الوجود الى الابد ويتذكر –فى حنين ووفاء- صديقه حسين شداد: "جعلت افتقد حسين شداد اعواما، وظل مكانه شاغرا حتى ملأه رياض قلدس" وهنا نلمس وفاء نجيب محفوظ، وفاء يشمل المكان والانسان.. انه يفتقد قهوة احمد عبده بكل ما تحمله من ذكريات ولقاءات واصدقاءه، كما يفتقد صديقه حسين شداد "الذى ظل مكانه شاغرا حتى ملأه رياض قلدس" ويحدثنا نجيب محفوظ عن هذا اللقاء: "ورغم برودة الجو.. سار كمال ورياض من حى الحسين حتى عماد الدين.. ولم يكن رياض قلدس سعيدا ذلك المساء.. واخذ الصديقان يتحدثان عن 4 فبراير 1942، وعن موقف النحاس.. لم يكن كمال غارقا فى السياسة كرياض .. كان كمال يؤمن بحقوق الشعب بقلبه، وان كان عقله لايدرى اين المفر؟، عقله يقول حينا "حقوق الانسان" وحينا آخر يقول "بل البقاء للاصلح" ويحدد لنا نجيب محفوظ مدى علاقه رياض قلدس بالسياسة: "اما رياض فكانت السياسه جوهرا اصيلا فى نشاطه الذهنى.." "عندما يقول رياض لصديقه غاضبا: ايمكن ان ننسى الاهانه التى تلقاها مكرم فى ميدان عابدين؟ وهذه الاقاله المجرمه؟ يرد عليه كمال مداعبا: انت غاضب لمكرم. فقال رياض دون تردد: ان الأقباط جميعا وفديون، ذلك ان الوفد حزب القوميه الخالصه، ليس حزبا دينيا تركياً كالحزب الوطني، ولكنه حزب القوميه التى تجعل مصر وطنا حرا للمصريين على اختلاف عناصرهم واديانهم. اعداء الشعب يعلمون ذلك، ولذلك كان الاقباط هدفا للاضطهاد السافر طوال عهد صدقى، وسيعانون ذلك منذ اليوم" ويجب هنا ان نفرد هذه الحقيقه ان نجيب محفوظ كان وفديا صميما وصادقا. وتساءل كمال فى دعابه: ها انت نتحدث عن الاقباط ! انت الذى لايؤمن الا بالعلم والفن. ثم قال رياض بعد صمت طويل: اليس من الجبن ان ننسى قومى؟ شئ واحد خليق بأن نذكره الاوهو الفناء فى القومية المصرية الخالصة كما ارادها سعد زغلول. ان النحاس مسلم دينا ولكنه قومى بكل معنى الكلمه ايضا، فلا نشعر حياله الا باننا مصريون لامسلم ولا قبطى. بوسعى ان اعيش سعيدا دون ان اكدر صدرى بهذه الافكار، ولكن الحياة الحقه مسئولية فى الوقت نفسه" وكأن نجيب محفوظ يلخص لنا فلسفته العلميه والاجتماعيه والانسانيه فى هذه العبارة الواضحه: ".. ولكن الحياه الحقه مسئوليه فى الوقت نفسه" ويقول كمال (وهو الذى يحمل التعبير روائيا عن نجيب محفوظ) لصديقه: لاتؤاخذنى فقد عشت حتى الآن دون ان اصطدم بمشكلة العنصريه، فمنذ البدء لقنتنى امى ان احب الجميع، ثم شببت فى جو الثورة المطهر (ثورة 1919) من شوائب التعصب، فلم اعرف هذه المشكله. ويسأل كمال صديقه (ولايزال السؤال قائما حتى الآن..): وكيف نستأصل هذه المشكله من جذورها؟ يرد عليه رياض قلدس: من حسن الحظ انها ذابت فى مشكله الشعب كله، مشكله الاقباط اليوم هى مشكلة الشعب.. اذا اضطهد اضطهدنا، واذا تحرر تحررنا" (اذا ترجمنا كلمة "اليوم" فانها تعنى بداية الاربعينيات.. وبالتحديد عام 1942) واستأنف الصديقان الحديث عن الفن والعلم.... ثم تطرق الحديث الى المذاهب السياسيه التى تسود العالم.. عالم الاربعينيات فى القرن الماذى.. حتى وصل الصديقان الى شارع فؤاد.. وهنا توقف رياض وسأل صديقه. ما رايك فى عشاء من المكرونه والنبيذ الجيد؟ ورد كمال على دعوة صديقه: لا أشرب فى الاماكن المأهوله، فلنذهب الى قهوة عكاشه اذا شئت. فضحك رياض قائلا: كيف تطيق هذا الوقار كله؟ نظارة وشارب وتقاليد! حررت عقلك من كل قيد، اما جسمك فكله قيود. انت خلقت – بجسمك على الاقل- لتكون مدرسا. وجذبه رياض من ذراعه وهو يقول: هلم نشرب نبيذا ونتحدث عن فن القصه. وهناك لقاء اخر ويصف لنا نجيب محفوظ مكان وزمان هذا اللقاء: "كان الجو شديد البرودة، ولم يكن خان الخليلى مما يؤثر فى الشتاء، ولكن رياض قلدس نفسه الذى اشار ذلك المساء بالذهاب الى قهوة خان الخليلى التى شيدت مكان قهوة احمد عبده فوق سطح الارض" وانضم الى الصديقين فى هذا اللقاء صديق قديم لكمال من شلة الاصدقاء الذين كانوا يجتمعون فى بيت حسين شداد.. وفى تلك الفترة بدأ تعلق كمال وحبه لعايده –اخت حسين شداد، هذا الحب الخائب الذى دمر قلبه ولون حياته بالوان الاسى والحزن واحال حياته كلها الى مساء خريفى. وفى هذا اللقاء يخبرنا رياض عن صديقه بانه ينوى ان ينضم الى جماعة المتزوجين ولقد اقلق هذا الخبر كمال الى ابعد حد.. وتصور نفسه وحيدا بعد زواج رياض، مثلما كان وحيدا بعد ذهاب حسين شداد وبعد نهاية حبه لعايده.. ويعبر نجيب محفوظ عن وحدة كمال القادمه. "كأنما قضى عليه ان يفتقد دواما صديقا لروحه المعذبه ويعود الحديث فى هذا اللقاء الى 4 فبراير 1942 بدأ رياض هذا الحديث يقول كمال: دعونا من حديث الزواج، لقد انتهيت منه وعقبى لك" ويشير الى حدث 4 فبراير: "على ان ثمة احداثا سياسيه هامه هى التى ينبغى ان تستأثر اليوم باهتمامنا" ولخص اسماعيل لطيف –الصديق الذى انضم اليهما- هذا الحدث وهو يقول ضاحكا: عرف النحاس كيف ينتقم لاقالة ديسمبر 1937 فاقتحم عابدين (مقر الملك فاروق) على رأس الدبابات البريطانيه. فقال رياض فى لهجة متهجمه: انتقام؟! ان خيالك يصور لك المسألة على وجه ابعد مايكون عن الحقيقه.. ليس النحاس بالرجل الذى يتآمر مع الانجليز فى سبيل العوده الى الحكم، ان احمد ماهر مجنون وهو الذى خان الشعب وانضم الى الملك،ثم اراد ان يغطى مركزه المضعضع بتصريحه الأحمق الذى اعلنه امام الصحفيين! وعلق كمال قائلا. لاشك ان النحاس قد انتقد الموقف، ولست اشك فى وطنيته مطلقا، ان الانسان لاينقلب فى هذا السن الى خائن ليتولى وظيفه تولاها خمس مرات او ستا من قبل.. ولكن هل كان تصرفه هو التصرف المثالى. ويرد عليه ريلض: انت شكاك لانهاية لشكك، وما الموقف المثالى؟ ويرد عليه كمال: ان يصر على رفض الوزارة حتى لايخضع للانذار البريطانى وليكن ما يكون.. وفى لقاء آخر يعود الحديث بين كمال ورياض حول مكرم عبيد وفصله من الوفد يقول نجيب محفوظ: "كان رياض حزينا كما ينبغى لرجل مثله تستأثر السياسه باهتمامه.. وقال لكمال بأنفعال غير خافى: يفصل مكرم من الوفد! كيف تقع هذه الكوارث؟! هز كمال رأسه فى وجوم دون ان ينبس قال رياض: انها كارثه قوميه ياكمال، ماكان ينبغى ان تتهاوى الامور حتى هذا الحضيض. نعم، ولكن من المسئول؟ النحاس! قد يكون مكرم عصبيا، ولكن الفساد الذى تسرب الى الحكومه امر واقع ولايصح السكوت عليه. فقال كمال باسما: دعنا من الفساد الحكومى، ثورة مكرم ليست على الفساد بقدر ماهى لضياع النفوذ" ثم اضاف: مكرم عصبى، شاعر ومغن، عنده ان يكون كل شئ اولا يكون شيئا على الاطلاق، ووجد نفوذه المأثور يتقلص فثار، ثم وقف لهم وقفته فى مجلس الوزراء مندداً علانية بالاستثناءات فاستحال التفاهم او التعاون. حدث يؤسفل له. ويقول رياض: سيجد الاقباط انفسهم بلا مأوى او يأوون الى حصن عدوهم اللدود الملك وهو مأوى لن يدوم طويلا، واذا اضطهدنا الوفد كما تضطهدنا الاقليات فكيف يكون الحال؟ فتساءل كمال متغابيا: لماذا تدفع بالامر خارج حدود الطبيعه، مكرم ليس الاقباط، والاقباط ليسوا مكرم.. انه شخص ذهب اما مبدأ الوفد القومى فلن يذهب. فهز رياض رأسه فى اسف ساخر وقال. هذا ما قد يكتب فى الجرائد! وفى بيت كمال فى مكتبه يتم هذا اللقاء الآخر والاخير بين الصديقين يبدأ الحديث عن مرض امينه –ام كمال- يقول رياض. سألت عنك فى المدرسة فاخبرنى السكرتير بالخبر.. كيف حالها؟ اصيبت بشلل واخبرنى الطبيب بانها ستنتهى فى ظرف ثلاثة ايام. وفى اثناء حديثهما عن الموت يقول رياض: لنسأل انفسنا عند الموت –اى موت- ماذا صنعنا بحياتنا؟ وكان رد كمال: اما انا فلم اصنع بحياتى شيئا، هذا ماكنت افكر فيه.. حسبتنى قد اديت للحياه واجبها بالاخلاص لمهنتى كمعلم وبكتابة المقالات الفلسفيه ثم يقول معترفا فى مرارة واسى: ولكننى عشت معذب الضمير كما ينبغى لكل خائن. خائن؟ فتنهد كمال وقال: دعنى اخبرك بما قال لى احمد ابن اختى عندما زرته فى سجن القسم قبل نقله الى المعتقل. (اعتقل احمد بسبب اتهامه بالشيوعيه كما اعتقل اخوه عبد المنعم بسبب اتهامه بانه من الاخوان المسلمين): قال لى ان الحياة عمل وزواج وواجب انسانى عام، اما الواجب الانسانى العام فهوة الثورة الابديه، وما ذالك الا العمل الدائب على تحقيق ارادة الحياه ممثله فى تطورها نحو المثل الاعلى" ثم طلب رياض من كمال ان يصحبه حتى محطة الترام.. وعندما وصلا الى الصنادقية صادفا الشيخ متولى عبد الصمد يدلف منها الى الغوريه متوكئا على عصاه.. (الشيخ متولى عبد الصمد من مجاذيب حى الجماليه) وكان يتلفت فيما حوله متسائلا بصوت مرتفع من اين طريق الجنه؟ فاجابه مار وهو يضحك: اول عطفه على يمينك."

نماذج مصرية بين كمال وقلدس

بقلم الناقد الكبير توفيق حنا - الولايات المتحدة

noonptm@gmail.com

الصداقة -من وجهة نظري- هى قمة العلاقات الإنسانية.. لعلها تسمو على علاقة الحب.. الصداقة الحقة لا تنتهى ولا تموت.. ويلازمها دائما هذا الوفاء الخلاق. وفى أعمال نجيب محفوظ وفى حياته أيضا.. يتردد لحنان رئيسيان هما: الصداقة والوفاء ونجدهما فى أجمل تحققاتهما فى ثلاثية بين القصرين فى علاقة السيد أحمد عبدالجواد وأصدقاء العمر محمد عفت وإبراهيم الفار وعلى عبدالرحيم.


وبخاصة محمد عفت.. كما نجدهما فى علاقة كمال وحسين شداد قصر الشوق.. هذه الصداقة التى قادتهما إلى تجربة رومانسية.. تجربة حب كمال لعايدة -أخت حسين شداد، هذه التجربه الفاشله .. وهذا الحب الخائب الذى لعله كان وراء عزوبة كمال وعزوفه عن الزواج. كما نجد لحن الصداقه يتردد فى "السكريه" بين كمال ورياض قلدس.. هذه الشخصيه الروائيه التى صور فيها وبها نجيب محفوظ صداقته فى حياته مع الروائى المصرى عادل كامل كما صور فى "السكريه" ايضا شخصية استاذه سلامه موسى تحت اسم عدلى كريم .. والسكريه هى الجزء الثالث والاخير لثلاثية " بين القصرين" كان اللقاء الاول بين كمال عبد الجواد ورياض قلدس فى مجلة "الفكر" لصاحبها الكاتب الاسلامى "عبد العزيز الاسيوطى".. وعن مقر مجلة "الفكر" يحدثنا نجيب محفوظ بلهجة ساخرة وناقدة – ايضا- يقول: مجلة "الفكر" تشغل الدور الارضى فى احدى عمارات شارع عبد العزيز.. كانت حجرة صاحبها الاستاذ عبد العزيز الاسيوطى تطل بنافذة ذات قضبان على عطفة "بركات" المظلمة، فكانت تضاء ليل نهار.. والحق انه كلما اقبل كمال على ادارة المجلة، ذكره موضعها الارضى ورثاثة اثاثها بمكانة الفكر فى بلده وبمكانته هو فى مجتمعه" ويقول نجيب محفوظ وهو يمهد لهذا اللقاء الاول بين كمال ورياض قلدس: "وما كان يستقر المجلس بكمال حتى دخل الحجرة رجل فى مثل سنه، يرتدى بذله من التيل الرمادى، طويل القامه، وان كان دون كمال طولا، نحيفا، ولكنه اكثر امتلاء منه، مستطيل الوجه، متوسط الجبين، متتلئ الشفتين، ذو انف دقيق وذقن مدبب اضفى على سحنته طابعا خاصا" ونلمس هنا حرص نجيب محفوظ على تقديم صورة شخصية –بورتريه- لريلض قلدس، الذى يقدمه عبد العزيز الاسيوطى: "الاستاذ رياض قلدس، مترجم بوزارة المعارف، انضم حديثا الى جماعة كتاب "الفكر" وقد امد مجلتنا بدم جديد بتلخيصه الشهرى للمسرحيات العالميه، وكتابه القصة القصيرة" ويكتفى بتقديم كمال عبد الجواد قائلا: "الاستاذ كمال احمد عبد الجواد.. لعل قرأت مقالاته. ويرد رياض قلدس معبرا عن اعجابه: "انى اقرأ مقالاته منذ سنوات، مقالاته قيمه بكل معنى الكلمه." ..وهكذا تم اللقاء الاول بين كمال ورياض وتبادلا الحديث حول الاطب والفلسفة.. قال رياض قلدس: تتبعت مقالاتك منذ سنوات منذ بدأت عن فلاسفة الاغريق وهى مقالات متنوعة واحيانا تكون متناقضه بالقياس الى ناتعرض من فلسفات، فادركت انك مؤرخ ميدانى حاولت عبثا ان اهتدى الى موقفك انت مما تكتب واى فلسفه تنتمى اليها! وكان رد كمال على تساؤل صديقه "انى سائح فى متحف لا املك فيه شيئا، مؤرخ فحسب، لاادرى.."واستمر هذا الحوار بين الصديقين حتى قال رياض : اذكر انك عرضت الفلسفة المادية بحماس يدعو للريبه.. وكان رد كمال وكأنه يدفع عن نفسه تهمه: كان حماسا صادقا ثم لم البث ان حركت رأسى مرتابا.. واستمر رياض فى تساؤله: - لعلها الفلسفة العقلية؟ ولكن كمال رد على تساؤل رياض. - ثم لم البث ان حركت رأسى مرتابا.. واضاف كمال: "الفلسفات قصور جميله ولكنها لاتصلح للسكنى" ولكن رياض واصل تحقيقه: هنالك العلم ، فلعله نجا من شكك؟ ولكن لم ينج شئ من شك وارتياب كمال.. ورد على سؤال رياض: انه دنيا مغلقه حيالنا لانعرف الا بعض نتائجها القريبة .. ثم اطلعت على اراء نخبة من العلماء يرتابون فى مطابقة الحقيقه العلميه للحقيقه الواقعيه، وآخرين ينوهون بقانون الاحتمال، وغيرهم ممن تراجعوا عن ادعاء الحقيقه المطلقه..." واكد كمال موقفه وكرره قائلا: "فلم البث ان حركت رأسى مرتابا" وكان تعليق عبد العزيز على موقف كمال العقلى.. والفكرى.. والانسانى ايضا: انت اعزب فى فكرك، كما انت اعزب فى حياتك! ولكن رد رياض قلدس على تعليق عبد العزيز الاسيوطى: العزوبة حال مؤقته، وربما كان الشك كذلك. وقال رياض وكأنه يضع نهاية مؤقته لهذا الحوار .. الذى دار –ايضا- حول العلم والفن: العلم يجمع البشر فى نور افكاره، والفن يجمعهم فى عاطفة ساميه انسانيه، وكلاهما يطور البشريه ويدقعها الى مستقبل افضل" وقال رياض قلدس لصديقه الجديد كمال عبد الجواد: "ان حديثنا لن ينقطع، او هذا مااوده، انعد انفسنا اصدقاء؟ وبحماسة صادقه مخلصه جاء رد كمال: بكل تأكيد، يجب ان نتقابل فى كل فرصه. ويقرر نجيب محفوظ اهمية الصداقة فى حياته وفى حياة كل انسان: "شمل كمال احساس بالسعادة لهذه الصداقه الجديدة كان يشعر بان جانبا ساميا من قلبه استيقظ بعد سبات عميق، فاقتنع اكثر من قبل بخطورة الدور الذى تلعبه الصداقه فى حياته، وبانها عنصر حيوى لاغنى عنه" والصداقه فى حياة نجيب محفوظ وفى اعماله فى حاجه من النقاد الى دراسات متونعه ووافيه وشامله. ويقدم لنا نجيب محفوظ هذا اللقاء بين الصديقين كمال ورياض فى حى الحسين.. ذات مساء يوم من ايام الشتاء: "وكان قد مضى على تعارفهما فى مجلة "الفكر" اكثر من عام ونصف عام، لم يمر اسبوع خلاله دون ان يتقابلا مرة او مرتيت، بخلاف العطله التى تجمع بينهما كل مساء على وجه التقريب فى مجلة "الفكر" او فى بيت "بين القصرين" او فى بيت رايض بمنشية البكرى، او مقاهى عماد الدين، او قهوة الحسين الكبرى التى لجأ اليها كمال بعد ان أتت المعاول على قهوة احمد عبده الناريخيه فمحتها من الوجود الى الابد ويتذكر –فى حنين ووفاء- صديقه حسين شداد: "جعلت افتقد حسين شداد اعواما، وظل مكانه شاغرا حتى ملأه رياض قلدس" وهنا نلمس وفاء نجيب محفوظ، وفاء يشمل المكان والانسان.. انه يفتقد قهوة احمد عبده بكل ما تحمله من ذكريات ولقاءات واصدقاءه، كما يفتقد صديقه حسين شداد "الذى ظل مكانه شاغرا حتى ملأه رياض قلدس" ويحدثنا نجيب محفوظ عن هذا اللقاء: "ورغم برودة الجو.. سار كمال ورياض من حى الحسين حتى عماد الدين.. ولم يكن رياض قلدس سعيدا ذلك المساء.. واخذ الصديقان يتحدثان عن 4 فبراير 1942، وعن موقف النحاس.. لم يكن كمال غارقا فى السياسة كرياض .. كان كمال يؤمن بحقوق الشعب بقلبه، وان كان عقله لايدرى اين المفر؟، عقله يقول حينا "حقوق الانسان" وحينا آخر يقول "بل البقاء للاصلح" ويحدد لنا نجيب محفوظ مدى علاقه رياض قلدس بالسياسة: "اما رياض فكانت السياسه جوهرا اصيلا فى نشاطه الذهنى.." "عندما يقول رياض لصديقه غاضبا: ايمكن ان ننسى الاهانه التى تلقاها مكرم فى ميدان عابدين؟ وهذه الاقاله المجرمه؟ يرد عليه كمال مداعبا: انت غاضب لمكرم. فقال رياض دون تردد: ان الأقباط جميعا وفديون، ذلك ان الوفد حزب القوميه الخالصه، ليس حزبا دينيا تركياً كالحزب الوطني، ولكنه حزب القوميه التى تجعل مصر وطنا حرا للمصريين على اختلاف عناصرهم واديانهم. اعداء الشعب يعلمون ذلك، ولذلك كان الاقباط هدفا للاضطهاد السافر طوال عهد صدقى، وسيعانون ذلك منذ اليوم" ويجب هنا ان نفرد هذه الحقيقه ان نجيب محفوظ كان وفديا صميما وصادقا. وتساءل كمال فى دعابه: ها انت نتحدث عن الاقباط ! انت الذى لايؤمن الا بالعلم والفن. ثم قال رياض بعد صمت طويل: اليس من الجبن ان ننسى قومى؟ شئ واحد خليق بأن نذكره الاوهو الفناء فى القومية المصرية الخالصة كما ارادها سعد زغلول. ان النحاس مسلم دينا ولكنه قومى بكل معنى الكلمه ايضا، فلا نشعر حياله الا باننا مصريون لامسلم ولا قبطى. بوسعى ان اعيش سعيدا دون ان اكدر صدرى بهذه الافكار، ولكن الحياة الحقه مسئولية فى الوقت نفسه" وكأن نجيب محفوظ يلخص لنا فلسفته العلميه والاجتماعيه والانسانيه فى هذه العبارة الواضحه: ".. ولكن الحياه الحقه مسئوليه فى الوقت نفسه" ويقول كمال (وهو الذى يحمل التعبير روائيا عن نجيب محفوظ) لصديقه: لاتؤاخذنى فقد عشت حتى الآن دون ان اصطدم بمشكلة العنصريه، فمنذ البدء لقنتنى امى ان احب الجميع، ثم شببت فى جو الثورة المطهر (ثورة 1919) من شوائب التعصب، فلم اعرف هذه المشكله. ويسأل كمال صديقه (ولايزال السؤال قائما حتى الآن..): وكيف نستأصل هذه المشكله من جذورها؟ يرد عليه رياض قلدس: من حسن الحظ انها ذابت فى مشكله الشعب كله، مشكله الاقباط اليوم هى مشكلة الشعب.. اذا اضطهد اضطهدنا، واذا تحرر تحررنا" (اذا ترجمنا كلمة "اليوم" فانها تعنى بداية الاربعينيات.. وبالتحديد عام 1942) واستأنف الصديقان الحديث عن الفن والعلم.... ثم تطرق الحديث الى المذاهب السياسيه التى تسود العالم.. عالم الاربعينيات فى القرن الماذى.. حتى وصل الصديقان الى شارع فؤاد.. وهنا توقف رياض وسأل صديقه. ما رايك فى عشاء من المكرونه والنبيذ الجيد؟ ورد كمال على دعوة صديقه: لا أشرب فى الاماكن المأهوله، فلنذهب الى قهوة عكاشه اذا شئت. فضحك رياض قائلا: كيف تطيق هذا الوقار كله؟ نظارة وشارب وتقاليد! حررت عقلك من كل قيد، اما جسمك فكله قيود. انت خلقت – بجسمك على الاقل- لتكون مدرسا. وجذبه رياض من ذراعه وهو يقول: هلم نشرب نبيذا ونتحدث عن فن القصه. وهناك لقاء اخر ويصف لنا نجيب محفوظ مكان وزمان هذا اللقاء: "كان الجو شديد البرودة، ولم يكن خان الخليلى مما يؤثر فى الشتاء، ولكن رياض قلدس نفسه الذى اشار ذلك المساء بالذهاب الى قهوة خان الخليلى التى شيدت مكان قهوة احمد عبده فوق سطح الارض" وانضم الى الصديقين فى هذا اللقاء صديق قديم لكمال من شلة الاصدقاء الذين كانوا يجتمعون فى بيت حسين شداد.. وفى تلك الفترة بدأ تعلق كمال وحبه لعايده –اخت حسين شداد، هذا الحب الخائب الذى دمر قلبه ولون حياته بالوان الاسى والحزن واحال حياته كلها الى مساء خريفى. وفى هذا اللقاء يخبرنا رياض عن صديقه بانه ينوى ان ينضم الى جماعة المتزوجين ولقد اقلق هذا الخبر كمال الى ابعد حد.. وتصور نفسه وحيدا بعد زواج رياض، مثلما كان وحيدا بعد ذهاب حسين شداد وبعد نهاية حبه لعايده.. ويعبر نجيب محفوظ عن وحدة كمال القادمه. "كأنما قضى عليه ان يفتقد دواما صديقا لروحه المعذبه ويعود الحديث فى هذا اللقاء الى 4 فبراير 1942 بدأ رياض هذا الحديث يقول كمال: دعونا من حديث الزواج، لقد انتهيت منه وعقبى لك" ويشير الى حدث 4 فبراير: "على ان ثمة احداثا سياسيه هامه هى التى ينبغى ان تستأثر اليوم باهتمامنا" ولخص اسماعيل لطيف –الصديق الذى انضم اليهما- هذا الحدث وهو يقول ضاحكا: عرف النحاس كيف ينتقم لاقالة ديسمبر 1937 فاقتحم عابدين (مقر الملك فاروق) على رأس الدبابات البريطانيه. فقال رياض فى لهجة متهجمه: انتقام؟! ان خيالك يصور لك المسألة على وجه ابعد مايكون عن الحقيقه.. ليس النحاس بالرجل الذى يتآمر مع الانجليز فى سبيل العوده الى الحكم، ان احمد ماهر مجنون وهو الذى خان الشعب وانضم الى الملك،ثم اراد ان يغطى مركزه المضعضع بتصريحه الأحمق الذى اعلنه امام الصحفيين! وعلق كمال قائلا. لاشك ان النحاس قد انتقد الموقف، ولست اشك فى وطنيته مطلقا، ان الانسان لاينقلب فى هذا السن الى خائن ليتولى وظيفه تولاها خمس مرات او ستا من قبل.. ولكن هل كان تصرفه هو التصرف المثالى. ويرد عليه ريلض: انت شكاك لانهاية لشكك، وما الموقف المثالى؟ ويرد عليه كمال: ان يصر على رفض الوزارة حتى لايخضع للانذار البريطانى وليكن ما يكون.. وفى لقاء آخر يعود الحديث بين كمال ورياض حول مكرم عبيد وفصله من الوفد يقول نجيب محفوظ: "كان رياض حزينا كما ينبغى لرجل مثله تستأثر السياسه باهتمامه.. وقال لكمال بأنفعال غير خافى: يفصل مكرم من الوفد! كيف تقع هذه الكوارث؟! هز كمال رأسه فى وجوم دون ان ينبس قال رياض: انها كارثه قوميه ياكمال، ماكان ينبغى ان تتهاوى الامور حتى هذا الحضيض. نعم، ولكن من المسئول؟ النحاس! قد يكون مكرم عصبيا، ولكن الفساد الذى تسرب الى الحكومه امر واقع ولايصح السكوت عليه. فقال كمال باسما: دعنا من الفساد الحكومى، ثورة مكرم ليست على الفساد بقدر ماهى لضياع النفوذ" ثم اضاف: مكرم عصبى، شاعر ومغن، عنده ان يكون كل شئ اولا يكون شيئا على الاطلاق، ووجد نفوذه المأثور يتقلص فثار، ثم وقف لهم وقفته فى مجلس الوزراء مندداً علانية بالاستثناءات فاستحال التفاهم او التعاون. حدث يؤسفل له. ويقول رياض: سيجد الاقباط انفسهم بلا مأوى او يأوون الى حصن عدوهم اللدود الملك وهو مأوى لن يدوم طويلا، واذا اضطهدنا الوفد كما تضطهدنا الاقليات فكيف يكون الحال؟ فتساءل كمال متغابيا: لماذا تدفع بالامر خارج حدود الطبيعه، مكرم ليس الاقباط، والاقباط ليسوا مكرم.. انه شخص ذهب اما مبدأ الوفد القومى فلن يذهب. فهز رياض رأسه فى اسف ساخر وقال. هذا ما قد يكتب فى الجرائد! وفى بيت كمال فى مكتبه يتم هذا اللقاء الآخر والاخير بين الصديقين يبدأ الحديث عن مرض امينه –ام كمال- يقول رياض. سألت عنك فى المدرسة فاخبرنى السكرتير بالخبر.. كيف حالها؟ اصيبت بشلل واخبرنى الطبيب بانها ستنتهى فى ظرف ثلاثة ايام. وفى اثناء حديثهما عن الموت يقول رياض: لنسأل انفسنا عند الموت –اى موت- ماذا صنعنا بحياتنا؟ وكان رد كمال: اما انا فلم اصنع بحياتى شيئا، هذا ماكنت افكر فيه.. حسبتنى قد اديت للحياه واجبها بالاخلاص لمهنتى كمعلم وبكتابة المقالات الفلسفيه ثم يقول معترفا فى مرارة واسى: ولكننى عشت معذب الضمير كما ينبغى لكل خائن. خائن؟ فتنهد كمال وقال: دعنى اخبرك بما قال لى احمد ابن اختى عندما زرته فى سجن القسم قبل نقله الى المعتقل. (اعتقل احمد بسبب اتهامه بالشيوعيه كما اعتقل اخوه عبد المنعم بسبب اتهامه بانه من الاخوان المسلمين): قال لى ان الحياة عمل وزواج وواجب انسانى عام، اما الواجب الانسانى العام فهوة الثورة الابديه، وما ذالك الا العمل الدائب على تحقيق ارادة الحياه ممثله فى تطورها نحو المثل الاعلى" ثم طلب رياض من كمال ان يصحبه حتى محطة الترام.. وعندما وصلا الى الصنادقية صادفا الشيخ متولى عبد الصمد يدلف منها الى الغوريه متوكئا على عصاه.. (الشيخ متولى عبد الصمد من مجاذيب حى الجماليه) وكان يتلفت فيما حوله متسائلا بصوت مرتفع من اين طريق الجنه؟ فاجابه مار وهو يضحك: اول عطفه على يمينك."

قصة حياة اسمهان - الاميرة امال فهد الاطرش

بقلم سحر طه

aupbc@yahoo.com

لم تعرف تلك الصبية الصغيرة أن القدر كان يخبئ لها كل تلك التناقضات التي يمكن أن يعيشها إنسان على هذه البسيطة. صحيح أن حياة كل منا مليئة بالحلو والمر، النجاح والفشل والأبيض والأسود وما بينهما، إلا أن أسمهان عاشت كل حلاوة الدنيا ومرارتها وكأنها عرفت في قرارة نفسها أن عمرها قصير (1912 ـ 1944). ستون سنة مضت على غياب صاحبة "ليالي الأنس"، و"فرق ما بينّا" و "يا ليالي البشر" و"رجعتلك يا حبيبي"، و"أهوى"، و"ليت للبرّاق عينا" و"أنا اللي أستاهل" وما تزال دموع حجاج بيت الله، تنهمر في كل عام مع أغنيتها الأقرب إلى الدعاء "عليك صلاة الله وسلامه" بنبرة الخنوع والتوبة، باعثة الرهبة، والحنين إلى مرقد النبي.الصوت الحزين لما يزل يرن في الأذهان كلما استحضرنا صورتها أو سيرتها أو مشهداً من أفلامها، إذ حيّر النقاد والموسيقيين والملحنين والمتذوقين والعشاق على حدّ سواء.أسمهان، النبرة الشجية في عالم الأغنية العربية، والشخصية الغامضة الواضحة معاً.


 

عاشقة الحياة والمال، البهجة والحزن، لطالما دفعتها مشاعر مجهولة، قوية لا تقاوَم، ولهفة إلى كل تجربة جديدة ومغامرة، مهما ذهبت بها، بعيداً أو قريباً، من دون أن تهاب موت، أو تردعها تقاليد أو قيود، وكأنها شاءت عن قصد وإصرار، أو عن غير قصد أن تكون حياتها شريطاً سينمائياً، أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، حيث سطرت حياتها بقصص الفقر والألم النفسي والجسدي وسلسلة مغامرات، بدءاً باللهو والسهر والحب واللذة والألم معاً، وصولاً حتى الجاسوسية، بحيث لا تبتعد كثيراً عن قصص أغاثا كريستي الخيالية الشهيرة، وعاشت حياتها بكل ما هو مشوّق، وغريب، وغير معتاد من امرأة شرقية، عربية، وذات أصول نبيلة، لتبقى سيرتها مثالاً للمرأة المتمردة على كل شيء.هل كانت بذلك تنتقم من تلك الحياة التي شاء لها القدر أن تبدأها بالترحال والهروب منذ لحظة ولادتها وحتى لحظة مماتها، وكأنها تقول لنفسها وللعالم أجمع: إنكم لم تذوقوا طعم الذل والحرمان، ولم ترضعوا الخوف كما رضعته، ولم تجربوا المحن فيأيام الطفولة السوداء، في أوقات لم أجد من يحنّ علي وعلى عائلتي بكسرة خبز.بعيداً عن الموهبة، أسمهان كانت مثال الأنوثة الطاغية والسحر الذي لا يقاوم. جمال وجهها الحزين كان سلاحاً تستمد منه القوة لتنال مرادها من العقول والقلوب. عقول وقلوب الرجال التي طالما ضعفت أمام شخصيتها المحيرة، حتى إن الصحافي محمد التابعي أقرب أصدقائها، قال إنها يمكن أن تبكي بدموع غزيرة في لحظة، ومن ثم تضحك من قلبها في لحظة أخرى. امرأة استعصت على الوصف حقاً، وقد لا يملك امرؤ أن يتخذ موقفاً معيناً منها، لكثرة ما حوته شخصيتها من غرائب السلوك وتناقضاته. جمالها وجسدها الناحل وشكلها العام قد تثير المواقف المتناقضة منها وقد يختلف البعض حول جمال وجهها أو جسدها، لكن في أي زمان وفي أي مكان لم يختلف اثنان على حلاوة صوتها، والقشعريرة التي يبعثها فينا حين نستمع إليه. عرفت الفقر والغنى، لقبت الفنانة أسمهان وعشقت لقب الأميرة آمال. أحبت الغناء وكرهت الإذلال، تألمت وهي بعد غضة، إذ اضطرها العوز أن تقف ساعات، تغني في صالات شارع عماد الدين، حيث كانت تطوي آلامها، وتغالب دموعها كي لا تسيل أمام جمهور من السكارى والثملين يقذفونها بنكات وألفاظ خاصة برواد تلك الصالات. أحبت الغناء لأجل المزاج، لا من أجل المال، والغناء لنفسها ولوالدتها ولمن تحب ولمن ترتاح إليهم، لكن الغناء بالأجر مقتته إذ أصبح مهنتها التي لا تستطيع التخلي عنها، بل تعتبره مهنة أسرت موهبتها.كانت تثور على هذا الوضع أحياناً، لكن ليس بيدها حيلة، فهي مضطرة للاستمرار كي تعيل نفسها وعائلتها. ولطالما رفضت الجلوس مع رواد الصالة بعد انتهاء وصلتها كما كان متعارفاً، وقد حرص شقيقاها فؤاد وفريد على أن لا تلزمها العقود مجالسة الزبائن.سبع سنوات حافلة سبقت وفاتها، تعتبر من أفضل سنوات حياتها، نالت فيها الشهرة والمال، بعد تعرفها إلى طلعت حرب باشا، الذي قدمها مع شقيقها فريد إلى الموسيقيين والملحنين والإذاعة وشركات الأسطوانات، فأصبح منزل العائلة في ذلك الوقت، في حي غاردن سيتي يستقطب الملحنين والشعراء والمنتجين والمخرجين، الذين كانوا يمطرون أسمهان بمشاريع غزيرة للسينما والمسرح، والجميع مأسور بشبابها وجمالها وأنوثتها الطاغية وصوتها المبدع.
سرّ الصوت
أي سرّ في هذا الصوت المتلألئ الذي يأسر القلوب بشحناته القوية، وانحناءاته المفعمة بالدفء والحنان والشجن، بل قدرته على بصم أي لحن ببصمته، وتغليف الأنغام بخصوصيته، وإسباغ الصفة الدرامية الشجية عليه. صوت حمل كمّاً من الصفات التي كان يوصف بها صوت متكامل العناصر، وموهبة إلهية قلّما يهبها الله لحنجرة ما. المستمع العادي يستطيع أن يشعر بأوتار الصوت المشدودة، الأقرب إلى صفاء الذهب، في رنينه ولمعانه. صوت أنثوي بالغ الإحساس، مرهف، يتلون مع كل أغنية، حسب مضمونها، ونوعية الدور المسند إليها في السينما، كما في الحياة. ظهرت أسمهان في زمن العمالقة. في أوائل الثلاثينات. أصوات كبيرة راسخة في الآذان العربية وأذهانها ووجدانها، حين كانت مواصفات معينة في الصوت لم يمكن أن يخترقها أو تخرق قواعدها أي موهبة لا تتقيد بها، إلا أن ذهبية الصوت، أسمهان ـ كما وصفها الملحن محمود الشريف ـ لم يتجادل اثنان على جمال صوتها وعظمته وقدرته على سلب المشاعر. ليس بأنوثته ودفئه فحسب بل بمساحته التي هي هبة من الله في المرتبة الأولى حيث ضم صوتها أكثر من أوكتافين "ديوانين"، أي أكثر من خمس عشرة درجة على السلم الموسيقي. إضافة إلى قدرتها على التصويت من الرأس، حسب أسلوب الغناء الأوبرالي الغربي المتعارف لدى مغنيات السوبرانو، وقد نستمع إلى بعض المغنيات العربيات يستخدمن هذه الطريقة وبخاصة اللواتي من أصول مغاربية: تونس والمغرب والجزائر، إلا أن أسمهان تميزت عنهن بصوت ينثني انثناءة الحرير الأصيل، وكان صوتها يأتي صافياً عريضاً واضحاً رناناً شجياً لا صارخاً حاداً، بل يتدفق في غاية الحنان والسلاسة والرقة. ولو عدنا إلى أغنية "ياطيور" التي لحنها محمد القصبجي لوجدنا فيها كل مواصفات الصوت الأوبرالي الدرامي، تضاف إلى مواصفات الصوت الشرقي المعتق بأنغام الأصالة والملوّح بحرارة النبرة المقامية المشرقية بدقتها ورهافتها. فالمعروف في الأصوات العربية ذات المساحة الكبيرة إنها إما تكون متقنة للنغمات الغربية على حساب الشرقية، أو العكس، أما إتقان الأسلوبين معاً في الصوت الواحد فهو من النوادر وينطبق على أسمهان وفيروز، وأم كلثوم في بداياتها، والراحلة نور الهدى، وإلى حدّ ما على المطربة التونسية الراحلة ذكرى. صوت أسمهان كان الوحي، والملهم لأنغام الملحنين الذين تعاونوا معها، وخبروا الصوت بتعابيره الدرامية، لا في مساحته الكبيرة فحسب، وبخاصة محمد القصبجي الذي لحن لها "ياطيور" وغيرها وشقيقها الراحل فريد الأطرش الذي استوحى من صوتها أجمل الألحان بدليل أن ألحانه لصوته ولغيره من مطربات ومطربين لم تصل إلى مستوى ألحانه لأسمهان، إذ وضع أكثر الجمل اللحنية تناسباً مع موهبتها الفذة وأكبر مثال على ذلك، "ليالي الأنس"، إضافة إلى غنائها ضمن أسلوب الطرب التقليدي الذي كان متبعاً في تلك الفترة. إلا أن أسمهان وبسبب هذا الصوت الموحي بالتجديد والدراما جذبت الأسماع من خلال الألحان التي سبقت عصرها. في تحليل بعض أداءات أسمهان، يقول الموسيقي سليم سحاب في "كتاب السبعة الكبار لمؤلفه فيكتور سحاب" : ة"...التعبير الإنساني يبقى أعظم ما في غناء أسمهان، وهو تعبير يكاد لا يستثني حالة من حالات المشاعر والأحاسيس الإنسانية. ففي أغنية "ليالي الأنس" مثلاً، تنتقل أسمهان بسرعة من مزاج إلى مزاج آخر وفقاً للحن والمعاني. فمن: "خيال ساري مع الأحلام" حيث تغني بشفافية وإشراق بالصوت، إلى عبارة: "تفوت من غير ما تتهنّى" حيث تضفي حساً درامياً على النهاوند، وذلك لا استعراضاً أو رضوخاً لإغراءات الاستعراض، بل تعبيراً فنياً عن مزاج يظل شديد الوضوح في كل الحالات.
ويتابع سحاب:
في أغنية "يا حبيبي تعال الحقني"، أربعة مقاطع على لحن يتكرر. والعبارات "من بعدك"، "أتألّم"، "في يدّك"، "يلين قلبك"، تقولها أسمهان بأحاسيس مختلفة تؤدي تعبيراً مختلفاً في كل مرة، وفقاً للمعنى المطلوب، على الرغم من أن اللحن هو نفسه في العبارات الأربع. وعلى الرغم من أن العبارات المذكورة قصيرة للغاية، ولا مجال فسيحاً فيها للتعبير الإنساني الزخم، إذ أنها تتشكل من علامتين موسيقيتين فقط. وتلاحظ في هذه الأغنية الشحنات العظيمة والحرارة الإنسانية المتدفقة في عبارة "وغرامي هالكني". ويتناول سحاب قدرة أسمهان في الوصول إلى مستوى عبد الوهاب في التعبير المسرحي في المغناة المسرحية "قيس وليلى". فيما بلغت في تعبيرها الغنائي أعماقاً مأسوية مؤثرة للغاية في أغنية "أيها النائم" من لحن السنباطي.
حكايات الفقر والبؤس
قصص أسمهان بدءاً بالفاقة في صغرها، تصلح بحد ذاتها لأن تكون مادة غنية لفيلم سينمائي من أكثر الأفلام تراجيدية. بقيت تقض مضجعها حتى وفاتها، إلى حدّ القيام بأي شيء أو عمل كي لا تعود إليها. حين تتذكر تلك الفترة وترويها لصديقها التابعي تتألم كثيراً، وبخاصة أيام حيّ الفجالة وتعرّضها لسوء التغذية. في إحدى المرات نضب مورد الأسرة بعد سفر المليونير الأمريكي الذي كان يمدهم شهرياً بما يوازي مئة دولار. في تلك الأيام عرفت أسمهان الجوع والحرمان إذ تذكر أن بيتهم خلا من أي طعام فأرسلتها والدتها لاقتراض بعض المال من الدكتور عبد الرحمن الشهبندر، أحد الزعماء السوريين، وهو مقيم في القاهرة وعلى معرفة بأسرة أسمهان، وكانت قطعت مسافة بعيدة مشياً على الأقدام، وحين قابلته وأبلغته رسالة والدتها عن سوء حالهم قدم لها "ريالاً" واحداً، عادت به إلى أمها، وعندما رأته والدتها بكت وبكت معها أسمهان وقدّرت في ذلك الوقت بأنهم أوشكوا أن يتسوّلوا. وفي قصة أخرى تذكر أسمهان أنها كانت تزور أسرة الأميرالاي محسن بك، وكانت دارهم في شارع الشيخ ريحان بالقرب من ميدان عابدين. كانت تظن أنهم سيقلّونها بسيارتهم إلى منزلها في حيّ الظاهر، لكن السماء أمطرت بغزارة فعدلوا عن الخروج بالسيارة، وحين أقبل المساء والمطر لا يزال ينهمر خرجت بكبريائها وكأنها تريد أن تستقلّ سيارة أجرة، وقد خجلت أن تقول لهم إنها لا تملك قرشاً واحداً، فسارت تحت المطر وفي الوحول من عابدين حتى الظاهر وبعدها بقيت طريحة الفراش عشرة أيام.
وفي حكاية أخرى، تقول أسمهان:
ـ بدأت والدتي تعمل في خياطة الملابس للسيدات وكان ما تحصل عليه قليلاً لكنه يقي شر الجوع والفاقة. وذات يوم شاءت المصادفة أن تلتقي أمي في دار صديقة سورية بالأستاذ داود حسني وهو من الملحنين القدماء، وسبق أن تعاون مع العائلة فنياً، وهنا المفاجأة حيث سمع الملحن حسني صوت الوالدة عالية المنذر وهي تغني عند صديقتها وتنقر على الدف "الإيقاع" فسألها لماذا لا تحاول استغلال موهبتها هذه مثل أولادها آمال وفريد خصوصاً أنها تملك الجمال والصوت الأصيل الذي ورثه فريد وأسمهان منها وكانت والدتها تعرفت إلى سامي الشوا عازف الكمان المعروف وهو سوري الأصل من مدينة حلب وهذان الموسيقيان ساعدا والدة أسمهان فنياً وأخذت تحيي الحفلات الخاصة عند بعض العائلات واتسع رزق العائلة قليلاً حيث أمكنها إدخال فريد وأسمهان إلى المدرسة وإتمام الدراسة التي توقفت في بيروت.
وكانت عالية المنذر تعاقدت مع شركة "بيضافون" لتسجيل بعض أغنياتها على أسطوانات فتوسط الملحن داود حسني عند الشركة نفسها كي تسجل أسمهان بعض أغنياتها على أسطوانات أيضاً وتقبض بعض المال.
ملحنون وشعراء
غنت أسمهان للعديد من الملحنين إلا إن أكثر الألحان التي غنتها كانت من نصيب شقيقها فريد الأطرش: "نويت أداري آلامي" 1937، "عليك صلاة الله وسلامه" كلمات بديع خيري، وفي فيلم "انتصار الشباب" عام 1941، لحن لها: "يللي هواك شاغل بالي، يا ليالي البشر"، كلمات يوسف بدروس، و"كان لي أمل" لأحمد رامي، "يابدع الورد" لحلمي الحكيم، "إيدي ف إيدك"، "الشمس غابت أنوارها" لأحمد رامي، كذلك "أوبريت انتصار الشباب" لأحمد رامي. وفي فيلم "غرام وانتقام" غنت لفريد "ليالي الأنس" كلمات أحمد رامي، "أنا أهوى" لمأمون الشناوي، وموال "يا ديرتي" لبيرم التونسي. وفي العام نفسه غنت لفريد "رجعت لك يا حبيبي". وغنت له "أنا بنت النيل"، وكذلك "نويت أداري آلامي" و"الليل". غنت لمدحت عاصم أغنية "دخلت مرة ف جنينة" كلماته وألحانه، "يا حبيبي تعال الحقني". ولمحمد القصبجي غنت: "يا طيور" يوسف بدروس، "إمتى حتعرف" لمأمون الشناوي و"أنا اللي أستاهل" من فيلم "غرام وانتقام" عام 1944. "أسقنيها"1940 للأخطل الصغير، "أين الليالي"، 1944، ""فرق ما بينّا" مطلعها ليوسف بدروس وبقيتها لعلي شكري، "في يوم ما اشوفك"، "كنت الأماني"، "كلمة يا نور العيون"، "ليت للبراق عيناً" 1938، "هل تيم البان" لأحمد شوقي. لرياض السنباطي: "أيها النائم" عام 1944، و"حديث عينين" 1944 في فيلم "غرام وانتقام"، و قصيدة أحمد فتحي " يا لعينيك ويا لي"، وقصيدة لابن زيدون "أقرطبة الغرّاء" و"الدنيا ف إيدي والكل عبيدي". ولفريد غصن "يا نار فؤادي". زكريا أحمد: "هديتك قلبي"، "عذابي في هواك أرضاه" وقصيدة أبي العلاء المعري "غير مجدٍ في ملّتي واعتقادي". لمحمد عبد الوهاب غنت أسمهان أوبريت "قيس وليلى" للشاعر أحمد رامي، و"محلاها عيشة الفلاح" لبيرم التونسي.
التابعي وأسمهان
نشر محمد التابعي، كتاباً يحكي فيه قصته الكاملة مع أسمهان. ومحمد التابعي صاحب ورئيس تحرير مجلة "آخر ساعة" المصرية كان صديقاً أميناً وصدوقاً لأسمهان، وكان الشخص الوحيد الذي تسرّ له بالكثير من حكاياتها أيام الفقر وتخوفها الدائم من عودة تلك الأيام، وتشكو له كلما فاضت بها المشكلات.التابعي سمع صوت أسمهان للمرة الأولى، حين مرّ بالصدفة بصالة ماري منصور، في شارع عماد الدين، وهناك تذكر أنه وعد منصور بالمرور عليها، فقرر هو ونفر من أصدقائه دخول الصالة، فلم يجد مكاناً، فتوقفوا لبضع دقائق للاستماع إلى صبيّة تغني على المسرح بصوت رقيق حزين. كانت نحيلة ترتدي ثوباً أسود اللون، وقد لفت رأسها بإزار أسود، وكانت تغني وهي ساهمة تنظر أمامها من دون الالتفات يميناً أو يساراً، ومن دون أن تلقي بالاً إلى صيحات المعجبين. تلك هي المرة الأولى التي يرى فيها التابعي أسمهان، ليلتها تركت في نفسه شعوراً بأنها إنسانة تبعث الرحمة في الصدور..ولم يعد التابعي إلى صالة ماري منصور ولم يسأل عن أسمهان حتى قرأ خبراً في الصحف عن زواج المطربة أسمهان من ابن عمها الأمير في جبل الدروز حسن الأطرش وأنها أصبحت أميرة فاستغرب أو عزّ على التابعي أن يصدق أن فتاة من أسرة عريقة تحترف الغناء في شارع عماد الدين. حتى كان العام 1939 رآها صدفة في الجامعة الأميركية في القاهرة، حين كان يهم بالدخول إلى قاعة "بورت" لسماع أم كلثوم، لم يتعرف إليها لكن صديقاً له قال له هل رأيت أسمهان ونحن ندخل؟ وفجأة تذكر التابعي ذلك الوجه بالإزار الأسواد الذي رآه منذ ثماني سنوات في صالة ماري منصور، وعرف يومها أنها طلقت من زوجها الأمير الدرزي، فقال: إذن لم تعد أميرة في جبل الدروز. فأجابه الصديق: كلا وعادت كما كانت المطربة أسمهان. وفي اليوم التالي اتصل به الصحافي أحمد حسن وقال له: إن أسمهان تريد أن تتعرف عليك؟اللقاء لم يتم يومها، بل بعد أسبوعين وبطلب من محمد عبد الوهاب، حيث دعاه التابعي للمجيء إلى منزله فوراً من دون إعلامه بسبب استعجاله. هنا يصف المؤلف سعيد الجزائري في كتابه "أسمهان ضحية الاستخبارات" أول لقاء بين التابعي وأسمهان:"...وحين وصل التابعي منزل عبد الوهاب، وجده ممسكاً بعوده، وأمامه أسمهان وكان الاثنان يراجعان أوبريت "قيس وليلى" وكانت أسمهان تغني لحظة دخول التابعي: "وما فؤادى حديد ولا حجر.. لك قلب فسله يا قيس ينبئك بالخبر.." تسلل التابعي بهدوء وجلس في المقعد الخالي الوحيد، بجانب أسمهان...وبينما كانت أسمهان مشغولة عنه بالغناء، وهي التي طلبت أن تتعرف إلى التابعي قبل أسبوعين، أخذ ينظر إليها ويتأمل وجهها وهو مأخوذ بحلاوة صوتها الحزين، لكن الأذن ترتاح إليه، فوجهها ليس فيه جمال حسب المقاييس المعروفة، لكنها كانت جذابة وكلها أنوثة، أما أنفها فكان مرتفعاً أكثر بقليل مما يجب وطويلاً أكثر بقليل مما يجب، وفمها كان أوسع بقليل مما يجب وذقنها بارزة إلى الأمام أكثر بقليل مما يجب. أما عيناها (والكلام لا يزال للتابعي) فكان فيهما السحر والعجب والسرّ، لونهما أخضر داكن مشوب بزرقة، وتحميهما أهداب طويلة تكاد من طولها أن تشتبك، وقد لاحظ أنها كانت تجيد استعمال سحر العيون عند اللزوم. انتهت بروفة أوبريت "قيس وليلى" فقدم عبد الوهاب الأستاذ التابعي لأسمهان فمدت يدها بتثاقل وتكلف ساذج وظاهر... تشرفنا... ثم جلس الجميع، فأخذت تصلح من وضع الفراء الذي كان يحيط بعنقها وتتعمد إظهار الخاتم في أحد أصابعها وفيه فص ألماس، وقد احتارت أي ساق تضع على الأخرى، وكانت جميع حركاتها متكلفة وغير طبيعية، وأدرك التابعي أنها تريد أن تحدث أثراً طيباً في نفسه، ومرة ثانية وبعد ثماني سنوات وجد أمامه الفتاة نفسها التي بحاجة إلى الرحمة في الصدور بل وتستحق العطف والرثاء". وبعد ذاك اللقاء صار التابعي من أقرب أصدقائها بعد صديقتها ماري قلادة التي لقيت حتفها معها غرقاً.
الكل أحب أسمهان، وأسمهان أحبت من؟
لقد عرف عن كثيرين إعجابهم بأسمهان، واشتهرت قصص غرام بعضهم الآخر بها في الأوساط السياسية والفنية، هذا عدا عن رجال كثيرين عشقوها لكنهم لم يحظوا بكلمة منها أو حتى التفاتة أو اهتمام، حتى شارل ديغول أبدى إعجابه بأسمهان إبان عملها مع الحلفاء. كان الملك فاروق على رأس لائحة المعجبين، ومنذ أن بدأت الأضواء تسلط على أسمهان وبدأ اسمها يلمع في سماء الأغنية في مصر، وضعها ضمن اهتماماته وكان يرسل لها من يسأل عنها في محاولة لكسب ودها. وفي إحدى المرات أرسل لها مبعوثين خاصين مع تعليمات بأنه سوف يمنحها لقب "أميرة" رسمياً، لكن أسمهان ابتعدت عن طريق الملك بذكائها وتحاشت شباكه وسهامه، ليس تعففاً منها ـ حسب المؤلف ـ إذ لو كان ذا مرتبة أدنى كرئيس مجلس وزراء مثلاً أو وزير لما تأخرت في الاستجابة، لكن ابتعادها كان تقديراً منها للذات الملكية وخوفاً من التورط. أما الملك فاروق فلم يستطع القيام بشيء حيال رفض أسمهان له، ذلك أنها فنانة معروفة ومحبوبة لدى الجماهير وأي إجراء قد يتخذه ضدها ربما يعرضه إلى افتضاح أمره. أما أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي وحامل ختم الملك فكان الأكثر حظوة لدى أسمهان. كان يقابلها بشكل دائم في مكان إقامتها في جناح خاص في فندق مينا هاوس، لوجود هاتف يسهل عليها الاتصالات، وذلك رغم علاقته الحميمة بالملكة نازلي. كان رجلاً وسيماً يفتن النساء ويلفت النظر في أي حفلة أو مكان بسبب أناقته ومظهره الرجولي واسمه المدوي وتاريخه المليء بالمغامرات الحالمة ومنصبه الخطير وحديثه الساحر وخبرته العميقة بالنساء وطباعهن. استلطفته أسمهان وأعجبت به، بل وشعرت تجاهه بالحب، فهو حامل كل صفات الرجولة والاحترام والكياسة وهذا ما تطلبه المرأة في الرجل غالباً.أما أحمد حسنين باشا فقد اندفع نحوها بشكل كبير وتودد إليها كما أسلفنا وأصبح الأمر معروفاً لدى الجميع وقالوا إنه غارق في حبها. إلا أن الغريب في الأمر أن باشا آخر كان يتردد على أسمهان في الوقت نفسه هو مراد محسن باشا، وكان مدير الخاصة الملكية ويقال إنه أحب أسمهان كثيراً لكنه كان أكثر تحفظاً واحتياطاً من أحمد حسنين باشا، وكانت هناك منافسة وغيرة بين الاثنين إلا أن مراد باشا أنهى علاقته بأسمهان بعد أن وصل إليه خبر علاقتها بأحمد حسنين باشا. رغم العلاقة الوطيدة التي ربطت أسمهان بالصحافي الشهير محمد التابعي إلا أن التابعي يصرّ على أنها لم ترق إلى رابطة الحب أو الغرام، رغم أنه كان يذهب إليها في القدس في كل مرة تطلبه فيها، وبخاصة تلك المرة التي تعرضت فيها إلى التهاب رئوي حاد فلم يتركها بل جلس يمرّضها ليلاً نهاراً حتى شفيت وبعد أكثر من عشرة أيام عاد إلى القاهرة، ويومها أرسل إليها ماري قلادة لكي تكون إلى جانبها لشهرين حتى تشفى تماماً لكنها بقيت معها ثمانية أشهر وبعد ذلك لم تفارقها حتى غرقت معها في النيل. التابعي نفسه قال بأنه كان يرتاح للجلوس معها، وهي كانت تطمئن إليه وتثق به وتلجأ إليه كلما نزلت بها شدة أو حرج كما حدث في أحداث عدة، واعترف التابعي أن أسمهان "لم تحبه" كما لم تحب أي رجل آخر بالمعنى الصحيح للحب، حتى أزواجها الشرعيين، ولكنها أحبته محبة من نوع خاص بها، (محبة أسمهانية) حيث إن قلبها كان يحمل التابعي شيئاً أقوى من الصداقة والودّ، وقد اعترفت بذلك لبعض صديقاتها اللواتي سألنها عن حقيقة حبها له، ولكن ذلك لم يؤكد. أما التابعي نفسه فهو يؤكد أنها لم تُكنّ له أي حب، وهو ليس بمغرور كي يدّعي "وهم" حب لا حقيقة له ويقول: ـ نعم كانت تضمر لي وداً وصداقة وثقة وتقديراً ولكن هذا كل ما في الأمر.
هل أغرم عبد الوهاب بأسمهان؟
كانت الراحلة في أثناء فترة ارتباطها بالأمير حسن الأطرش تزور القاهرة من فترة إلى أخرى، وفي هذه الزيارات تجتمع بالأصحاب ومنهم الفنانون كونها على معرفة ببعضهم وصداقة مع آخرين، وكونها من المعجبات بالموسيقي الكبير عبد الوهاب فتعرفت إليه وبادلها الإعجاب وكانت تزوره في داره وقيل إنهما تبادلا الغزل، إلا أن الأمور لم تتطور أكثر من ذلك وتوقفت عند هذا الحد، والسبب، يقول الجزائري في الكتاب نفسه: "... ـ حسب أسمهان نفسها ـ إن عبد الوهاب لم يعجبها، فهو في مجلس الغناء والطرب يعجب ويفتن أي أنثى، لكنه في مجلس العشق والغزل شيء آخر لا يعجب ولا يفتن… وأكثر من ذلك وصفته بأنه رجل مغرور يريد من المرأة التي يحبها أن توفر له كل عناء الحب، عليها أن تكون لها جرأة الرجل وأن تترك لعبد الوهاب حشمة المرأة وحياءها وخفرها، أي أن الأوضاع الطبيعية بين الرجل والمرأة تنقلب مع عبد الوهاب…فهو يجلس مطرقاً برأسه وعلى المرأة أن تزحف إليه وعلى ركبتيها وليس عليه بعد إلا أن يتفضل وتقبل منه حبه وخضوعها وقبلاتها، وبعدها يبدأ بالمغازلة كيفما يشاء بعد أن يجد بين يديه امرأة مستسلمة له بكل جوارحها وعلى استعداد تام لأن تقبل منه أي تصرف سادي أو جنسي، لذلك لم يعجب أسمهان لأنه حاول بطريقته الخاصة هذه أن يخضعها لحبه … فلم يفلح، وحاول عبد الوهاب أن يعيد الكرة ويفرض الحب على أسمهان بعد طلاقها وعودتها إلى مصر فلم يوفق…"
زيجات أسمهان
بدأت شهرة أسمهان في القاهرة منذ أن كانت في السادسة عشرة حيث بدأت تحيي الحفلات والأفراح وتتقاضى الأجور وتحسنت حال العائلة مادياً، فانتقلت إلى شقة في منطقة غاردن سيتي، وبعدها زارهم إبن عمها الأمير حسن الأطرش من أجل طلبها للزواج. والدتها رفضت في البداية، ذلك أن أسمهان بدأت تعيل العائلة وتدر عليها بعض الأموال، حسبما صرحت الراحلة فيما بعد. في ذلك الوقت كانت أسمهان ضعيفة ووالدتها تتحكم بآرائها وقراراتها. وبعد ذلك جيّش الأمير حسن الأطرش العشيرة ضد عالية المنذر، والدة أسمهان، وأبلغهم بأنها تغني في الملاهي وأن ولديها فريد وآمال يحترفان الغناء، فثارت ثائرة العشيرة، وخشيت الوالدة من العاقبة ومن بطش العائلة. وهكذا عاد العريس إلى مصر مرة ثانية ورتب الأمور وسجل لوالدتها منزلاً في دمشق ودفع لها مبلغ خمسمائة جنيه من الذهب تعتبر ثروة في ذلك الوقت وتوجهت أسمهان وابن عمها مع شقيقها فؤاد إلى جبل الدروز وتم الزواج وأصبحت تحمل لقب الأميرة آمال الأطرش. لكنها بعد أن انفصلت عنه، عادت وتزوجت منه بعد سنوات، في الثالث من تموز عام 1941، بعد أن قررت اعتزال الفن والتفرغ للسياسة والأسرة حسب قولها، لكن هل هذا ما حدث بالفعل؟ كانت أسمهان تعمل بإدارة أحمد بدرخان في فيلم "انتصار الشباب" مع شقيقها الراحل فريد الأطرش، وبديهي أن يلتقيا يومياً ويتبادلا الآراء والأحاديث وتشكو ما تتعرض له من حسنين باشا والملك فاروق وغيرهما من المعجبين ويجتمعا إما في أحد المطاعم أو في استديو لبيب مصور الفيلم الفوتوغرافي، وكان بدرخان رقيقاً ولبقاً يحدثها حول خصوصياته أيضاً وحياته المضطربة وكان أن طلب منها الزواج في إحدى المرات وهي كانت بحاجة إليه لأسباب عدة، منها التخلص من بيت الأسرة حيث كانت تلقى الضرب المتواصل من شقيقها فؤاد، إضافة إلى أن أحمد بدرخان كان مخرجاً معروفاً في الوسط الفني، والأهم أنها كانت تعتبر أجنبية في القاهرة وزواجها من مصري يسهل الحصول على الجنسية المصرية. وبذلك كان زواجها العرفي من أحمد بدرخان، الذي لم يكمل الشهرين، ثم أنهاه الطلاق. التقت أسمهان بأحمد سالم حين كانت تعمل في فيلم "انتصار الشباب"، كان يتردد أحياناً ويساعد في إدارة الفيلم، وهنا كانا صديقين، لكنها في الفترة التي أقامت فيها في القدس صدف أن حضر هو وتحية كاريوكا لبعض الأعمال فالتقى سالم بأسمهان في فندق الملك داود وتقاربا وحدث الزواج السريع وأمضيا أسبوعين في العسل حتى جاءها خطاب بالعودة إلى مصر حيث كانت وقعت عقد تمثيل مع شركة مصر للتمثيل والسينما. بعد فترة بدأت أسمهان تتملل من الارتباط ومن غيرة أحمد سالم الشديدة عليها وهي التي اعتادت الحرية فدبرت اتصالاً له من تحية كاريوكاً لكي يكون نواة خلاف بينهما، لكنه أحس بالظلم وحاول الانتحار مرتين وكل مرة يتم إنقاذه وفي إحدى المرات حاول قتلها حين أطلق عليها النار من مسدسه ولم يصبها، هربت وطلب البوليس فأصاب أحد الضباط بعيار ناري وأصيب هو أيضاً بعيار من مسدسه وبعد أن شفي قدم للمحاكمة وسميت قضيته بمأساة أحمد سالم وأسمهان.
عملها مع الاستخبارات
يوم الجمعة 23 أيار 1941 اتصلت أسمهان هاتفياً بالتابعي وأبلغته أنها ستزوره في المساء، وهكذاكان. ففي هذه الجلسة استحلفته بالقرآن أن لا يبوح لأحد بكلمة مما ستقوله له. وحينها أفشت له سرّ معرفتها ببعض ضباط الاستخبارات البريطانية وأنهم اتصلوا بها خلال اليومين الماضيين لتكليفها بمهمة في الشام. وأنها سبق وزودتهم بمعلومات حصلت عليها من بعض السياسيين المصريين واكتشفت بذلك إنها الطريقة المثلى للحصول على المال. وكشفت أسمهان بذلك الكثير من أسرار الاستخبارات الألمانية "الغستابو" في القاهرة، وألحقت بعملائهم وعملياتهم الجاسوسية أضراراً كبيرة، ولقي بعضهم مصرعه على أيدي الاستخبارات البريطانية، ونتيجة ذلك أصدروا حكماً بالتخلص منها، وعندما علمت الاستخبارات البريطانية بأن عميلتها مهددة بالإعدام قرروا تهريبها من مصر بتكليفها بمهمة جاسوسية جديدة في الشام عن طريق القدس. وتحت تأثير الدهشة والذهول حذّرها التابعي خشية عليها، لكنها طمأنته بمعرفتها كيفية التصرف مع كبار الرجال فكيف بضباط الاستخبارات الذين كما وصفتهم، يحترمون المرأة وعملها معهم. كانت بريطانيا تود من أسمهان أن تبذل جهودها لإقناع زوجها الأمير حسن الأطرش وعشيرته بالتعاون مع قوات بريطانيا التي تنوي الدخول إلى سوريا ولبنان لطرد قوات فيشي التي سلمت زمامها إلى الألمان. وبذلك منحت بريطانيا أسمهان رتبة فخرية "ميجر" أو "رائد" لكي تنال امتيازات خاصة مالياً واستشفائياً لدى المستشفيات البريطانية كأي ضابط بريطاني عند الحاجة. البداية كانت في الأول من أيار عام 1941، حين التقاها نابيير يوغن (كان يشغل منصب قنصل بريطانيا في دمشق، ثم انتقل إلى سفارة القاهرة في قسم الدعاية، وفي الوقت نفسه هو رئيس فرع الاستخبارات) وطلب منها لقاء والتر سمارت، حيث تناولت الشاي معه بحضور الجنرال البريطاني كلايتون وهذا طلب منها بصراحة السفر إلى القدس بالطائرة حيث سيقابلها أحد عمالائهم ويعطيها التعليمات ثم تسافر إلى عمان ثم سوريا. ودفع لها كلايتون مبلغ خمسة آلاف جنيه على أن يدفع لها في فلسطين أربعين ألف جنيه لتوزعها على رؤساء العشائر في سوريا.
حين عاتبها التابعي قالت له:
ـ أريد أن أخدم بلدي. وأضافت: قل لي في مصر أعمل إيه وأعيش منين؟ لقد سمعت كلام الناس عني بالحق والباطل. والحبة عملوها قبة. وأجري من إذاعة القاهرة لا يكفيني وما جمعته من السينما صرفته وأنا لا أحب الغناء في الأفراح والحفلات العامة. ولقد كنت أرجو بعد نجاح فيلم "انتصار الشباب" أن يقتصر عملي على السينما وحدها لكن ظهر العقد المبرم بيني وبين الدكتور بيضا يمنعني من العمل في أي فيلم آخر لمدة عامين وقد مضى منهما عام. بمعنى أن علي أن أدبر معيشتي عن طريق آخر غير السينما فماذا أفعل؟ هل أبقى في مصر وأرفض عرض الإنكليز؟ كانت أسمهان تعي قوة الدروز في ذلك الوقت وتأثيرهم المعنوي والعددي والسياسي في الواقع السوري، ولما كان الحلفاء ينوون الزحف إلى سوريا ولبنان فمن الهام أن تنضم قوة أولئك إليهم، وأن أسمهان هي أنسب صلة وصل والأكثر تأثيراً بهذه القوة بسبب حب ابن عمها وزوجها الأمير حسن الأطرش لها ومن هنا كانت هي واثقة من نجاح مهمتها. وهذا ما كان حيث نجحت في إقناع عشائر الدروز من خلال الأمير حسن الأطرش بالانضمام إلى الحلفاء. ولكنها خلال جولاتها ورحلاتها بين القدس وجبل الدروز شعرت بمدى الخطر الذي أوقعت نفسها فيه وتمنت لو تستطيع العودة إلى القاهرة وتترك هذه المغامرة، لكنها كانت وصلت في منتصف الطريق الذي لا يمكن العودة إلى أوله، وكانت تقبض مخصصات ورواتب رؤساء العشائر وتدفعها لهم بانتظام وبخاصة بعد أن تزوجت الأمير حسن الأطرش مرة أخرى واستقرت في السويداء وهكذا هددتها الاستخبارات الألمانية والسلطات الفيشية بالتوقف عن مهمتها لكنها استمرت، مما اضطرها تحت الضغوط والخطر أن تغادر سوريا هرباً، وتحت جنح الظلام وعلى صهوة جواد، وقد دهنت وجهها باللون الأسود وارتدت لباس أحد العبيد بصحبة الأمير فاعور، الذي غادرها ما أن وصلا الحدود الفلسطينية. ومن هناك وصلت إلى فندق الملك داود، وحصلت نتيجة مهمتها على عشرين ألف جنيه، عاشت منها حياة بذخ ملأت بها ليالي القدس ولائم وسهرات. وكانت النتيجة زحف القوات الفرنسية "قوات ديغول" والحلفاء نحو سوريا ولبنان وقضوا على القوات الفيشية واحتلوا البلاد. كان علىالاستخبارات البريطانية أن تنتهي من أسمهان لأسباب عدة أولها إن أسمهان لم تلتزم بالصمت حيال الأسرار في وقت كانت أسمهان تذيع الأسرار بعد أن يستبد بها المشروب في السهرات والأمسيات، ثم أن أسمهان أثارت الشكوك حول بذخها والأموال الهائلة التي كات تصرفها وهي معروف عنها قلة أعمالها الفنية سواء في الغناء أم في السينما، وإن كانت زوجة أحد الأمراء. إضافة إلى تورطها بالسفر مع العميل الألماني فورد، حين أعادتها السلطات البريطانية من الحدود السورية ـ التركية وهذه هفوة سجلت في ملف أسمهان المهني ، الاستخباراتي.
أفلامها
لم يتسن لأسمهان تثبيت أقدامها كممثلة ومغنية في عالم السينما، لانشغالها طوال سنوات، بزواجها المتذبذب من ابن عمها حسن الأطرش، وعملها مع المخابرات وهذان الأمران تطلبا منها تنقلات دائمة بين دمشق وبيروت والقدس والسويداء والقاهرة، في فترة تعتبر طويلة نسبة لحياتها القصيرة. لو تسنى لها العيش مدة أطول، لاستطعنا أن نشهد إمكانات أكثر وأفلام أخرى، ربما، ولتمكنت أسمهان من إثبات موهبتها في التمثيل أيضاً ولنافست بذلك ليلى مراد التي احتلت عرش السينما الرومانسية والاستعراضية فيما بعد. فحياة أسمهان المليئة بالعذابات تركت أثرها على ملامح الوجه، وأودعت الحزن في عيونها الواسعة المتلألئة دوماً بالدمع وغياب البسمة عن ثغرها، وجسدها الناحل المتعب، كل ذلك يضاف إليه إن أول أدوارها في السينما، هو نفسه أول أدوار حياتها الحقيقية، مثلت في "انتصار الشباب"من دون أن تمثل، لأنها عاشت اللحظات نفسها مع شقيقها فريد الأطرش، فكان فيلمها الأول الذي أخرجه أحمد بدرخان ولحن فريد أغنياته،وشاركهما التمثيل حسن فايق وبشارة واكيم.
"غرام وانتقام" فيلمها الثاني والأخير الذي لم تنهه بنفسها بل القدر أنهاه بغرقها.
عام 1944 كتبه وأخرجه الراحل يوسف وهبي، لحن أغانيه فريد الأطرش، شاركها التمثيل أنور وجدي ومحمود المليجي.
أقوال في صوت أسمهان
ـ الملحن الكبير داود حسني الذي كان له صيته يومذاك، أطلق عليها اسم أسمهان، إذ استقبله فريد المطرب الناشئ، غنى أغنيات من ألحان حسني، ومن ثم سمع آمال تغني في غرفتها فطلب إحضارها وغنت أمامه فدمعت عيناه وقال: "... كنت أرعى فتاة تشبه آمال وصوتها الجميل إلا أن الموت كان أسبق لها من الشهرة، لذلك فأنت من الآن ستحملين اسمها الفني (أسمهان).
ـ محمد القصبجي زار عائلة أسمهان في حي الفجالة، وسمع صوتها وقال: "...هذا صوت من الجنة."
ـ رياض السنباطي قال: "إن أسمهان هي المطربة العربية الوحيدة التي وصلت إلى مرتبة منافسة أم كثلوم، رغم قصر عمرها الفني.
ـ الشيخ محمود صبح سمع أسمهان تغني لأم كلثوم فقال: "...عندما ينضج صوتك يا أسمهان سيكون لك شأن عظيم.
ـ محمد عبد الوهاب قال: "... إن أسمهان فتاة صغيرة لكن صوتها صوت امرأة ناضجة."
ـ محمد محمود خليل، الوزير السابق ورئيس مجلس الشيوخ في مصر أيام الملك فاروق، بعد أن سمعها للمرة الأولى تغني قال: "... البنت دي تقدر تكتسح عالم الغناء في مصر فهي جميلة ومهذبة ومتعلمة وبنت أصل وصوتها جميل.
ـ حسب الموسيقي سليم سحاب، فإنه لم يكن ثمة جدل في عظمة صوت أسمهان. لكن الجدل كان في المفاضلة بينها وبين أم كلثوم، سيدة الغناء العربي بلا منازع.
ـ فريد الأطرش قال إنها ربما تنافس أم كلثوم عبر ألحان القصبجي، لو تسنى لها العيش سنوات أطول.
فيما يخالفه الرأي الناقد المصري كمال النجمي في كتابه "الغناء المصري"، حيث قال إنه لو قدّر لأسمهان أن تعيش عمراً أطول لما كان في مقدورها أن تنافس أم كلثوم، على رغم عظمة صوتها وإحساسها وأدائها، لأنها كانت تحيا حياة صاخبة، فلا تُعنى بصحتها وسلامة حنجرتها، والدليل جهد صوتها في أغنيات فيلم "غرام وانتقام".
النهاية
أحست أسمهان بالإرهاق إبان تصويرها لفيلم "غرام وانتقام" فأخذت إجازة من مخرجه يوسف وهبي لتذهب إلى منطقة رأس البر ترتاح فيها بضعة أيام على شاطئ البحر مع صديقتها ماري قلادة. استقلت السيارة في الثامنة من صباح الجمعة 14/7 1944 وجلست مع قلادة في المقعد الخلفي، وحين وصلت السيارة إلى منطقة بين قرية طلخا ومدينة المنصورة اعترضها مطب وفقد السائق سيطرته على السيارة وانحرفت بسرعة وسقطت إلى يمين الطريق حيث الترعة، فرع من النيل، وهي نهر عمقه ثلاثة أمتار وفي هذه اللحظات استطاع السائق أن يقفز من السيارة ولم يصب بأذى في حين سقطت السيارة بأسمهان وماري في الماء بسرعة وغمرتها المياه قبل أن يتمكن أحد من إنقاذهما. وساد الاعتقاد بعد ذلك وحتى الآن، إن السائق تم تدريبه من قبل الاستخبارات البريطانية لأجل إنهاء حياة أسمهان بهذا الشكل المفجع، إذ تمت تصفية الكثير من الأسماء المعروفة بهذه الطريقة. رغم أن أسمهان تعرضت إلى محاولات اغتيال سابقة، أو حوادث قد تكون صدفة لكنها كانت قاتلة نجت منها بأعجوبة. وقد أشارت أصابع الاتهام إلى جهات عدة أخرى، منها شقيقها فؤاد الذي كان غاضباً منها والملك فاروق الذي رفضته ولم تستجب لنزواته، والملكة نازلي بسبب تحديها الدائم لها وأخرى لأم كلثوم التي أشيع أنها كلفت السائق بالتخلص من أسمهان، لأنها كانت منافستها على قمة الغناء، ثم زوجها أحمد سالم رغم توقيفه بتهمة محاولة قتلها. يذكر أن أي ذكر للسائق لم يرد في التحقيقات أو المقالات أو الاتهامات ولم يعرف مصيره حتى اليوم. يوم ماتت أسمهان انتحر شاب عراقي في بغداد كان من عشاق صوتها، إذ ألقى بنفسه في نهر دجلة. وفي دمشق حاول شاب آخر الانتحار متناولاً كميات من الدواء وأنقذ في المستشفى، وفي بيروت انتحرت فتاة لبنانية ملقية نفسها من أعلى صخرة الروشة. دفنت في أرض النيل كما دفن إلى جوارها فيما بعد الراحل فريد الأطرش حسب وصيته. وهكذا سميت فيما بعد عروس النيل وهي التي غنت "أنا بنت النيل" لتنهي بغيابها رحلة قصيرة، شاقة، تاركة صوتها يرن في أرجاء المعمورة. يذكر أن مواقع ألكترونية خصصت لها في الآونة الأخيرة على الأنترنت من قبل عشاقها، بعد أن كتبت عنها كتب عديدة، ومقالات لا تحصى، في الصحافة اليومية والأسبوعية العربية، وكاسيتاتها تملأ الإذاعات، والفضائيات تستعيد بعضاً من مشاهدها الاستعراضية القليلة في فيلميها.صوتها ما يزال المدرسة التي تنهل منها عاشقات الغناء في الشرق في محاولات منهن بلوغ ذروة هذا الصوت من دون الوصول إلى هذا الهدف، وكم من محاولات سينمائية لإنتاج قصة حياتها فشلت حتى الآن ولم نعرف أسباب الفشل، لكن يبقى التمني أن يرى فيلماً عن أسمهان النور ليكون عبرة للأجيال وليوثق لحياة فنانة تركت أثراً في الغناء العربي الجميل.
سيرة
اختلفت الدراسات حول تاريخ ولادة أسمهان. فحسب سعيد الجزائري، في كتابه "أسمهان ضحية الاستخبارات" فإن أسمهان ولدت في 25 تشرين الثاني عام 1912 في الباخرة التي أقلتها ووالديها إلى بيروت برفقة أخويها فؤاد وفريد. لكن فيكتور سحاب في كتابه "السبعة الكبار" يذكر أنها ولدت في 24 تشرين الثاني عام 1917، وفي مقالات صحفية أخرى نقرأ أنها ولدت في العام 1918. ونحن نميل إلى التاريخ الأول الذي ذكره الجزائري، وكرره أكثر من مرة وموقع في كتابه المذكور، أي العام 1912، ذلك أن الباحث سحاب يذكر في كتابه، إن أسمهان غنت في مرحلة عمرها الفني الأولى (1932 ـ 1933) أغنيات: "كنت الأماني"، "كلمة يا نور العيون"، و"أين الليالي"، من ألحان محمد القصبجي. وأغنية "هديتك قلبي" للشيخ زكريا أحمد. ويقول سحاب: "...وكان صوتها آنذاك مفتوحاً وحاداً...". فإن كانت من مواليد 1917 حسبما ذكر، فهذا يعني إن عمرها في العام 1932 هو 15 سنة، وبذلك يساورنا الشك أن يكون الصوت مفتوحاً لهذا الحد الذي تمتلكه الخبيرات، أما حدته فهو من حال أصوات الأطفال عموماً والفتيات في هذه السن، لا كما هو صوت المرأة الناضج. لكن لو صحّ أنها من مواليد عام 1912 فإن عمرها يقترب من العشرين ربيعاً حين غنت للقصبجي وزكريا أحمد الأغنيات المذكورة، وفي هذه السن يكون الصوت بالفعل مقترباً من النضوج ـ إلى حدّ ما ـ ويكون مفتوحاً وواضحاً وحاداً، وبذلك يكون في العام 1938ـ حسب سحّاب ـ "... بدا تمكن أسمهان من أصول الغناء التقليدي في أغنية للقصبجي ليت للبراق عيناً ... في المرحلة الثانية من عمرها الفني، وبالفعل تكون أفادت كثيراً من الأصوليين أمثال داود حسني ومحمد القصبجي...".

آمال فهد الأطرش، أو أمل أو بحرية أو إميلي فكل من زوجها ووالديها وراهبات المدرسة الانكليزية وغيرهم كان يحلو له أو يرغب بتسميتها حسب رغبته. فيما المعروف أن اسمها الفني "أسمهان" أطلقه عليها كما أسلفنا الملحن الكبير داود حسني.

والدها فهد الأطرش، مدير ناحية في قضاء ديمرجي في تركيا. والدتها عالية المنذر.
استقر والدها في بيروت بعد تعيينه معتمداً عن الدروز، من قبل المفوض السامي الفرنسي. وتوفي بعد اندلاع المعارك بين الفرنسيين والدروز في لبنان .

غادرت والدتها برفقتها وأخوتها الأربعة فؤاد وفريد وأنور ووداد إلى الاسكندرية ثم القاهرة، حيث استقرت في حي الفجالة الشعبي. وفي البداية عملت الأم في الأديرة لتعتاش وتربي أولادها، وكذلك على بعض الإعانات ثم توفي أخواها أنور ووداد.

شقيقها الأكبر فؤاد، عمل مساعداً لطبيب أسنان بعد أن كبر وأدخلت أسمهان المدرسة الإنكليزية، وهناك كانوا ينادونها "إيميلي"، ثم بدأت مواهب فريد الفنية تظهر وهو مايزال بعد تلميذاً في مدرسة الفجالة الابتدائية، حيث بدأ الغناء في المدرسة وفي بعض الحفلات الخاصة، ثم في الإذاعات المحلية إلى أن وصل إلى إذاعة القاهرة واحترف الغناء فيما بعد.

كانت آمال تشارك فريد ولعه بالموسيقي والأحلام الفنية، كانت تغني لنفسها ولوالدتها التي كانت تشجعها مع شقيقها فريد، ولذلك دخلت أسمهان أجواء الغناء والحفلات.

بدأت في الخامسة عشرة، تتعلم على أيدي الملحنين أمثال داود حسني ومحمد القصبجي وغيرهما. فيما كانت على خلاف دائم مع شقيقها فؤاد ويصل الأمر في غالب الأحيان إلى ضربها وهروبها من البيت.

تزوجت ابن عمها حسن الأطرش وأنجبت منه خلال سنوات الزواج التي استمرت من 19الى 1939، بنتاً أسمتها كاميليا.

تنبأ لها أحد الفلكيين المعروفين "الأسيوطي" بأنها ستكون ضحية حادث وستنتهي في الماء. وهذا ما حدث، إذ غرقت سيارتها في ترعة ماء أثناء توجهها إلى رأس البر.