الأحد، 27 مارس 2011

ديكتاتورية الحاكم هي المتسبب الرئيس في انتفاضة الشعوب

mohi_ibraheem
بقلم: محيي الدين إبراهيم

تنمي الفتن الطائفية والصراعات الأهلية عند المتصارعين والضحايا على حد سواء مشاعر الشجاعة وعدم الشعور بالخوف ومواجهة الصراع وكلها أمور تمهد السبيل المعنوي عند المضطهدين – مستقبلاً – في قبول الصراع والموت وتحدي النظام بثورة شعبية كحل وحيد وحتمي للحرية والعدالة والمساواة.
حكامنا لا يقرأون، وإذا قرأوا أقاموا علينا الحد!!

حكامنا لا يسمعون، وإذا سمعوا أقاموا علينا الحد!!
حكامنا لا ينظرون، وإذا نظروا أقاموا علينا الحد!!
ومن ثم فمن الطبيعي أن تثور الشعوب، أن تدمر قادتها الذين لا يقرأون شعوبهم ولا يسمعون ولا يسدوا رمق أحلام  البسطاء ببصيص من نور أو بقليل من حياة أفضل.
من الطبيعي أن تثور الشعوب، أن تدق أعناق جلاديها التي تراهم عبئا حضاريا عليها وعلى وجودها الإنساني كأمة ذات ضمير وكبرياء وكرامة.
– في عالمنا الثالث – الديكتاتور هو صاحب التغيير، ووحده صاحب الثورة، ووحده صاحب السلطة، ووحده مالك الدستور وحاكم الشعب. 
يحكم بانقلاب دموي أو سلمي ثم يعد الناس بدولة العدل والمساواة ثم في أقل من عام يتحول الوطن إلى مزرعة خاصة له ولعائلته، ومن كان يتغنى الأمس بالحرية، نراه يعتقل الناس اليوم في زنازين اليأس والبطالة والكبت والاغتيالات ليتسنى له " حَلب " الوطن تحت حماية وزراء داخليته الغلاظ والذين يختارهم بعناية، ومظلة تهميش الجيش بعدما يترأس هو قمته العليا رغم أنف الجيش نفسه.
الناس في بلادنا قد تصبر على الظلم، قد تصبر على الطغيان، الجوع، الحبس، القتل العشوائي، ، الفتنة، لكنها حين تغضب فلا عاصم لغضبتهم ولا نجاة من ثأرهم قبل ثورتهم، وان كانت تظن الديكتاتوريات أنها بمنأى من غضبة الناس وثورتهم وغليانهم فهذا وهم عاشه كل ديكتاتور سابق لإيمانه بما يأتيه من تقارير مفادها تفيد أن الجميع يسبحون بحمده وأن الكل ربما يتوجه إليه بالدعاء من دون الله - حاشا لله - والغريب أنه يصدق والتصديق هنا مرحلة من مراحل اللعنة حتى تحيط به خطيئته فيغتاله شعبه .
لم ينجو ديكتاتور واحد من شعبه، ولا ديكتاتور واحد نجا، بل أن نهاية كل واحد فيهم كانت من أقبح وأشنع النهايات التي يلقاها فاسد على وجه الأرض.
وربما يحضرني قول غسان المفلح وهو ناشط سوري يعيش في سويسرا "عندما يرغب ديكتاتورٌ أو حالمٌ بتنصيب نفسه ديكتاتوراً، يسارياً كان أو يمينياً، في أي مكان من العالم، وفي أي وقت كان، عندما يرغب في ذلك فهو يعزل المجتمع عن العالم أو يلجأ إلى القسوة ضد الحراك الديمقراطي وحيث يتبع برنامجاً محدداً بعشرة خطوات تقليدية، وهي (1)الإدعاء بوجود مؤامرة، وفتن طائفية وقبلية(2)تأسيس معتقلات سرية، (3) توظيف واستخدام ميليشيات مدنية مسلحة رديف له، (4) تأسيس جهاز مراقبة وتجسس، (5) اعتقال مواطنين بأسلوب تعسفي، (6) اختراق التجمعات/المنظمات الأهلية، (7) استهداف شخصيات هامة، (8) ملاحقة الصحفيين، (9) وصف كل انتقاد بأنه "خيانة" و (10) تدمير دولة القانون."
أما شاكر النابلسي وهو كاتب وباحث أردني فيقول في مبحث رائع له تحت اسم "العرب من حكم الخلافة المطلق إلى الديكتاتورية الطاغية": ما الفرق بين الخليفة الكلاسيكي والخليفة المعاصر؟ الخليفة الكلاسيكي كان يمسك بالسلطات الثلاث : التشريعية والتنفيذية والقضائية. ومن هنا جاء الاستبداد والظلم الذي كان يقويه السلطان والمال في الوقت نفسه. وكان الخليفة هو ”ظل اللـه على الأرض“ كما قال الخليفة المنصور، وهو الأمين على بيت المال الذي هو مال اللـه، باعتباره ظل اللـه وخليفة رسول اللـه، كما قال معاوية بن أبي سفيان. أما الخليفة المعاصر، فهو الآن يفعل الشيء ذاته. بيده نفس السلطات الثلاث، وإن بدت هذه السلطات - ظاهريا - مستقلة ومنفصلة عن الخليفة، إلا أنها في حقيقة الأمر ليست كذلك، وإنما كلها بيد الخليفة المعاصر. وما انتشار الاستبداد الحالي في العالم العربي إلا نتيجة لذلك. ويستشهد شاكر النابلسي بما قاله السيد العلوي عن الخلافة المعاصرة في كتابه ( أضرار الحكم القبلي في دول الخليج العربية، 2003 ) بالقول: ”لقد اعتمدت الديكتاتوريات على مر التاريخ على فلسفات واهية لتبرير احتكارها للسلطة وحرمان الآخرين، كالحق الإلهي في الحكم، وكحق الأسرة والسلالة في القرون الغابرة، والقرون المتأخرة حيث تنامت فلسفة المجموعة الطليعية والريادية التي تقود الأمة ولو بالقهر إلى تطورها المأمول على مختلف الأصعدة. ونشأت على ضوئها الدول الشمولية، وتحورت في شكل سياسي عبرت عنه بوضوح دول الحزب الواحد. وقد حاولت مختلف هذه الصور التلبس بالدين عندما ترى احتياجا لذلك، فتوظيف الأحاديث والمفاهيم الدينية من أجل تبرير وصولها إلى اعتلاء السلطة واحتكارها لها. إلا أن أقبح الفلسفات في نظري هي فلسفة الحق الإلهي في الحكم المنحصر في شخص بعينه أو أسرة بعينها اعتمادا على جدلية كاذبة، تتمحور حول ادعاء أن اللـه تعالى خص هذه الأسرة بالحكم والسيطرة على القرار، وأن باقي الأسر أو التشكيلات أو الأمة بأسرها عليها التسليم والرضي بذلك، ويحدد الكاتب على ألشمري في مجـــلـــــــة النبـــــــــأ - العــــــدد55 - مارس 2001م، مساوئ الديكتاتورية التي يصنعها الديكتاتور دون أن يدري - لكونه ديكتاتوراً - فلا يراها ولا يستشعرها وتكون هي وقود الشعوب والشرارة الأولى دائما في الثورة والإطاحة به في عدة نقاط أهمها أن الديكتاتورية تمثل بذرة الاستبداد الذي يقدم للمجتمع مُثلاً،محدودة و مكررة، وهذه المثل غير قادرة على مد المجتمع بالطاقة الكافية لبدء مسيرة البناء الحضاري ومواصلتها، ومن ثم فلابد أن يرتكس المجتمع في براثن التخلف الحضاري، والتمزق المجتمعي، لان من طبيعة النظام المستبد أو الفرعوني - بالمصطلح القرآني - أن يقسّم الناس إلى طبقات وفئات بحسب قربهم أو بعدهم من النظام، وبحسب موقفهم منه، وهو ما يعد جزءاً من آلية السيطرة على المجتمع والتحكم فيه مما يحمل أبناء المجتمع الرافضين له على التفكير بأساليب عنيفة في مواجهته، وهذا يفتح الباب أمام العنف والعمل المسلح لحل المشكلة السياسية المتمثلة بوجود السلطة الإرهابية التي كان لها السبق في استخدام العنف في التعامل مع الناس، ومجتمع يعيش دوامة العنف والتوتر الداخلي لا يمكنه أن يسلك الطريق المؤدي إلى النهوض الحضاري
.وهذا ربما ما أراه أنا أيضا في كونه الدافع الحقيقي وربما الوحيد وراء مايسمى بالفتن الطائفية والصراعات الأهلية التي دائما ما تكون بداية سيناريو الإطاحة بالنظام الحاكم، إذ تنمي الفتن الطائفية والصراعات الأهلية عند المتصارعين والضحايا على حد سواء مشاعر الشجاعة وعدم الشعور بالخوف ومواجهة الصراع وكلها أمور تمهد السبيل المعنوي عند المضطهدين – مستقبلاً – في قبول الصراع والموت وتحدي النظام بثورة شعبية كحل وحيد وحتمي للحرية والعدالة والمساواة.
ولعل من أدق ما قرأته في وصف الديكتاتورية كواقع معاش ذلك الذي نقله لنا الكاتب والناقد والأكاديمي المصري رشيد العناني من وصف "هرِتا مُولر" Herta Muller الروائية الألمانية الرومانية، الفائزة بجائزة نوبل في الأدب لعام 2009، في أشهر رواياتها، "حيوان القلب"، التي نُشرت لأول مرة في ألمانيا سنة 1993 بعد سقوط شاوشيسكو ونظامه، وقبل أن تترجم إلى الإنجليزية بعنوان «أرض البرقوق الأخضر» سنة 1996، حيث تصف حال العيش في ظل حكم الديكتاتور الروماني نيقولاى شاوشيسكو 1918 ــ 1989 قبل سقوط نظامه وإعدامه مع زوجته، فتقول: بإمكانك أن تحس بهم متربصين، يوزّعون الخوف». (ص 48 من الترجمة الإنجليزية).هكذا تصف وتسترسل بالقول: العيش في ظل دولة شمولية، في ظل القمع الأمني، تحت المراقبة المستمرة، في خطر دائم من الملاحقة والاعتقال لسبب أو لغير ما سبب، في خطر الطرد من الوظيفة، في خطر الأخذ بالشبهات، في خطر امتهان الكرامة والإذلال، مثل هذا العيش لا يترك في نفس المواطن، إن عجز عن المقاومة، سوى الرغبة في الهرب، في الخروج إلى بلد آخر. فقط الطبقة الحاكمة يطيب لها العيش في ظل نظامها، "كان كل فرد يعيش على أمل الهروب. كانوا يفكرون في السباحة عبر نهر «الدانوب» إلى أن تصبح المياه بلدا آخر، في الجري خلال حقول الذرة إلى أن تصبح التربة بلدا آخر. كان بإمكانك أن ترى في عيونهم أنهم لن يلبثوا أن يصرفوا كل قرش في جيوبهم من أجل الحصول على خرائط تفصيلية (...) الوحيدون الذين لم يكونوا يريدون الهرب هم الديكتاتور وحراسه. كنت تستطيع أن ترى ذلك في عيونهم، وأيديهم، وشفاههم. اليوم وغدا وبعد غد سوف يصنعون المقابر بكلابهم، وبرصاصهم (...) بإمكانك أن تحس بالديكتاتور وحراسه يحومون حول كل خطط الهروب السرية" ، إن اليأس يبلغ حدا يصبح الكره معه خدمة تُوظف لمصلحة النظام إذ لم أكن أعرف أن الحراس يحتاجون تلك الكراهية لكي يمارسوا عملهم الدموي بدقة يومية، أنهم يحتاجونها لكي يتصرفوا في المصائر لقاء رواتبهم، وأنهم لا يمكنهم أن يصدروا الأحكام إلا ضد أعدائهم. إنما يثبت الحراس جدارتهم بقدر ما يكون لهم من أعداء".
وصف دقيق لكل ما تعانيه أي امة تحت حكم ديكتاتور، ممارسة العمل الدموي اليومي لحرس الديكتاتور بكل دقة لقاء رواتبهم!!.
ولعل ذلك الوصف ينحت لنا بعناية ملامح ديكتاتور اسبانيا فرانشيسكو فرانكو بهاموند وهو صورة بالكربون من كل الديكتاتوريات السابقة والمعاصرة، ذلك الديكتاتور الذي حكم أسبانيا حكما مستبدا، حتى انه كان يعين كل أعضاء البرلمان الاسباني ‘الكارتز’ بمعرفته عن طريق حرسه الخاص إذ انشأ البرلمان فقط كديكور ليقال عنه انه يمارس الديمقراطية في بلاده رغم انه كمم فيها الأفواه، وملأ السجون بالمعتقلين وكان لا يطيق أن يسمع من احد كلمة ‘لا‘.
كانت الأحكام العرفية هي السائدة طوال فترة حكمه.. أما المحاكمات فكان أغلبها يقام أمام محاكم عسكرية! وهنا يقول الدكتور محمود متولي: ‘لقد قام فرانكو خلال فترة حكمه بنفي أكثر من نصف مليون مواطن بعيدا عن الوطن الأم، واستمر الناس في موات.. وامتلأت السجون بالأحرار، وقيل إن حكم فرانكو قام بإعدام أكثر من 250 ألف مواطن‘!، أن فرانكو ككل طاغية في التاريخ عاش معزولا عن شعبه، يحكم من خلال البندقية ويظن انه مبعوث العناية الإلهية.. ولولا المعونات الأمريكية لكانت اسبانيا تعاني مجاعات متكررة..و بدلا من أن يحمي الشعب كان هو عذابا للشعب.
لقد فعلها التوانسة إذن حيث لم يختلف زين العابدين بن علي كثيرا عن فرانكو أو أي ديكتاتور آخر سابق أو معاصر، فعلها التوانسة بعدما داهمهم اليأس وقتل الحريات وانهيار الأحلام على عتبات محاسيب السلطة والسلطان وحيث لا قانون ولا عدل ولا رموز وطنية وأصبح الكل أشبه بدوائر صغيرة عنصرية منغلقة على نفسها يضغط بعضها على بعض ويفتت بعضها بعضا في أحلك فترات شعوبنا العربية سواداً وظلمة.
إن ماحدث في تونس من غليان شعبي أطاح برئيس الجمهورية هو رد فعل طبيعي للشعوب التي لديها بصيص من كبرياء وبصيص من كرامة.
إن ما حدث في تونس دعوة للجميع أن يقرأوا ولا يقيموا علينا الحد وأن يسمعوا دون أن يقيموا علينا الحد وأن ينظروا حتى يقيموا بنا ولنا دولة العدل والحرية والمساواة، فنحن شعوب تملك كل مقومات المشاركة الحضارية في ذلك العالم الذي نحياه، وقد فعلتها تونس، فعلها شعب يأبى إلا أن يكون سيداً في وطنه.

الجمعة، 18 مارس 2011

سيد درويش في ذكراه زعيم ثورة مصر يناير 2011

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
ولأن الأبطال لا تلدهم الأمهات‏..‏ وإنما تلدهم الأمم‏، فإن سيد درويش يولد ولم يأت إلهامه الثوري من فراغ وإنما من رحم الأمة، من رحم مصر، فقد عاش صباه في ظرف سياسي غاية في التعقيد، فملأ في ضميره مخزونا عظيماً من النور والانتماء كما هو دوما عند أصحاب الضمائر الوطنية.

ليس هناك صراع بين حق وحق، بل بين حقٍ وباطلٍ وينتصر فيه الحقُ دوما حتى وإن طال أمد الصراع، وهناك صراع بين باطل وباطل وهذا الأخير هو أقساها وأكثرها فتنة وخراباً ولا انتصار فيه.
يقول سيد درويش على لسان بديع خيري حينما أدرك بحسه الوطني النقي أن هناك صراعا بين الحق ( المصري ) وبين باطل ( الاستعمار ) الانجليزي: 



مصر يا أم العجايب
شعبك أصيل والخصم عايب
خللي بالك من الحبايب
هما دول أنصار القضية
آهو ده اللي صار وآدي اللي كان
مالكش حق تلوم عليا. 
لم يختار سيد درويش ممارسة الصراع حتى ولو كان بين حق وباطل حتى رغم إدراكه ويقينه بما لا يدع مجالا لشك أنه في جانب الحق، فهو ابن البلد صاحب الأرض وذاك هو المستعمر الذي لاحق له فيها، ومن هنا اختار سيد درويش كمبدع مصري ملهم أن يمارس التنوير، أن يمارس نور الإيمان بقضاياه الوطنية وينشر أشعته قدر الاستطاعة في ضمائر الأمة جميعا فصار بنقطة النور هذه زعيماً تستلهم من ضميره النقي كل ثورات الحق من بعده أضواء النصر والحرية، حتى صار سيد درويش رغم مرور أكثر من 119 عاما على ميلاده 17 مارس عام 1892 زعيماً للتنوير الثوري لكل الباحثين عن دولة الحق والعدل والمساواة حتى يومنا هذا بل أن روحه الثورية استلهمها ثوار الشباب في ميدان التحرير لينالوا بها ما أرادوه لهم ولمصر من حقوق وطموح في 25 يناير 2011 وهم يرددون أغانيه ويقذفوا بها في وجه الطاغي وجنوده المدججين بأحدث أنواع الأسلحة الفتاكة والغازات السامة لقتلهم وإبادتهم ووأد روح الثورة فيهم لينتصروا وينتصر معهم سيد درويش.
ربما من أهم ما تخلص إليه روح سيد درويش الثورية ( المستمرة ليومنا هذا ) رائعته الموجعة " قوم يا مصري مصر دايما بتناديك"، إنها أقرب للعملية الجراحية للمجتمع المصري بدون بنج، يصرخ المريض من ألم الاستئصال لكنه يعيش معافاً بعد الألم حيث لا ألم ولا استئصال، رائعة موجعة كأنه يصدح بها اليوم مع الثوار في ميدان التحرير بالقاهرة ويسخر فيها من كل خلل اجتماعي من شأنه التفريق والحؤول بين المصريين وبعضهم البعض وأمور لا طائل منها ولا قيمة فيها سوى الفتن وصراع الباطل مع الباطل الذي لا يصب إلا في صالح العدو والمتربص في أحوج الظروف الوطنية احتياجاً لتلاحم المصريين وتآلفهم، وقد غناها في ظروف تتشابه مع ظروف ما نحياه الآن، وهي البحث عن الحرية، في فترة تم فيها الغدر بمصر ونفي سعد زغلول ورفاقه خارجها لحرمانها من أبنائها الانقياء الأوفياء والمؤمنين بالتغيير، وحيث لم يدع سيد درويش حينئذ لواء الثورة أن يسّاقط بنفي هؤلاء الوطنيين بل رفعه قبل السقوط وحث الناس ( بالتنوير ) وهو يلوح به من خلال أغانيه التي تحث على الثورة والوجود داعيا المصريين بالتمسك بالأرض والتآخي والنهضة حتى وإن اختلفت مللهم ونحلهم وعقائدهم فيقول:
ليه يا مصري كل أحوالك عجب
تشكى فقرك و أنت ماشى فوق دهب
حب جارك قبل ما تحب الوجود
إيه نصارى و مسلمين قال إيه ويهود
دى العبارة نسل واحد م الجدود
قوم يا مصري مصر دايما بتناديك
خد بنصري نصري دين واجب عليك
إذن وبهذه الثورية كيف لا يكون سيد درويش زعيم الأمة؟!.
ولأن الأبطال لا تلدهم الأمهات‏..‏ وإنما تلدهم الأمم‏، فإن سيد درويش يولد ولم يأت إلهامه الثوري من فراغ وإنما من رحم الأمة، من رحم مصر، فهو قد عاش صباه وبواكير شبابه في ظرف سياسي غاية في الظلمة والتعقيد، ظرف ملأ في ضمير سيد درويش مخزونا عظيماً من النور والحكمة والانتماء كما هو دوما عند أصحاب الضمائر الوطنية، فحينما كان يبلغ من العمر أربعة عشرة عاما تقريباً قامت مذبحة دنشواي، تفتح ضميره الثوري على أقسى ما يمكن أن تتفتح عليه ضمائر الثوريين في العالم، مذابح الناس بقرية صغيره بمحافظة المنوفية في الثالث عشر من يونيو من عام‏1906‏ ، كان وقتها يعيش في الإسكندرية التي لا تبعد سوى خمسين ميلا على أقصى تقدير من المنوفية، تفتحت مداركه على غدر الانجليز وبطولة الفتى المصري الطيب زهران الذي شنقته العساكر الانجليز بتهمة انه مصري هو وزملائه الثلاثة، وشجاعة الفتى مصطفى كامل الذي أجبر أكبر طاغية حكم مصر من وراء الستار على الرحيل بلا رجعة وهو اللورد كرومر، أدت المذبحة لهروب الصفاء من كل القلوب المحبة لتراب مصر لتحل مكانه المرارة ‏..‏ أياما سوداء‏ لا شك يحياها الكل ويبحثون من خلال السواد عن نقطة الخلاص، عن حورس المصري الذي يجب أن يظهر ليحول عار موت أبيه إلى نصر ينغرس في قلوب المطحونين والبسطاء من شعب مصر فينقلب وهن قلوبهم إلى قوة، ومن قوة قلوبهم تستمد الثورة وقودها للحرية.
كان الناس يعلمون مدى عداء كرومر والانجليز للخديوي عباس الذي حكم مصر في الفترة ( 1892 – 1914 ) والذين كانوا يعتبرونه ( حورس المصري ) ويعلمون مدى قربه ومحبته لزعيم الثوار الفتى مصطفى كامل الذي نجح في خلق رأى عام ضد سياسة كرومر في مصر، مما دفع بالحكومة البريطانية ومجلس النواب وخاصة بعد هجوم الأديب الأيرلندي جورج برنارد شو وقتها على الاحتلال الانجليزي لمصر واعتبره عارا على تاج المملكة العظمى الأمر الذي أدى إلى عزل كرومر من منصبة في مصر 12 أبريل 1907بعد كلمة برنارد شو الشهيرة التي كان يقصد بها كرومر وقتذاك : "السلطة لا تفسد الرجال، إنما الأغبياء إن وضعوا في السلطة فإنهم يفسدونها".
كان يستمع سيد درويش لغناء شقيقاته فريدة وستونة وزينب وهم يرددون أهازيج شعبية تضخ الوطنية في القلوب رغم أنهن كانوا يغنونها في الأفراح الخاصة بهم وبعشيرتهم داخل الحي الذي يسكنونه كنوع من المجاملة وكذلك كنوع من المرح في ساعات السمر البريئة بأحضان ليالي صيف الإسكندرية حيث كان حي كوم الدكة أشبه بقرية صغيرة على الأطراف القريبة جداً من عاصمة العالم الخفية ( بندر إسكندرية ) التي تكتظ ويسكنها خليط كثيف من شعوب العالم اجمع بثقافاته وأيديولوجياته ومسارحه ومدارسه ودور عباداته في خليط مدهش لا تجده إلا في مصر ( وقتذاك ) وربما هو سر عبقرية مصر، وسر كونها "أم الدنيا".
كان ينصت لكل شئ ويحفظ كل شئ وربما من أشهر تلك الأهازيج الشعبية والمواويل الحسية التي حفظها موال "يا عزيز عيني وأنا نفسي أروح بلدي"، ذلك الموال أو " البكائية" التي تأثر بها سيد درويش جدا ونالت من أعماقه لدرجة أن خصص لها دورا كاملا من ألحانه وسماه بذات اسمها " يا عزيز عيني"، وكذلك موال الفتى زهران فارس دنشواي الذي كان يكرر على أخته " فريدة " أن تسمعه إياه وتنشده له بصوتها حيث كان يطمئن دوماً لحلاوة صوتها خاصة وأنها تحفظ الكثير من المواويل التي تأتي على هواه، وحيث كانا يذهبان بصحبة أقرانهم وأبناء الحي بنات وبنين فوق سطوح المنزل ليستمعوا لفريدة وهي تغني عن الفتى زهران:
من بعد حكم المحاكم والشاويش والباش
غلايين ( وساقها ) كرومر مخرب
والانجليز فرعنوا بعد ما كانوا أوباش
نزلوا على دنشواي ماخلو نفر ولا أخوه
اللى ( أتشنق ) مات واللى فضل جلدوه
واللى فضل من الجلد جوا سجنهم ورموه
يوم (شنق) زهران كانت صعب (وقفاته)
أمه بتبكى عليه فوق السطح وأخواته
لوكان له أب ساعة (الشنق) لم فاته
صبرك علينا يا ظالم بكرة راح تندم.
كان يستمع لأخته ثم يذهب ليكمل شحن ضميره وحسه الوطني من حكاوي المصريين الحماسية في المقاهي الواقعة في حي العطارين بالإسكندرية والتي تحكي عن مآثر عباس الثاني ومصطفى كامل وكرههما للانجليز وكرومر وحبهما لمصر وللفلاحين لدرجة أغضبت كرومر وجعلته يكره مصر والمصريين وعباس ومصطفى كامل ويحث حكومة انجلترا على إرسال لورد كتشنر ليباشر مهام المملكة في مصر بدلا من كرومر، بل وينتقم ممن طردوه فيوحي لكتشنر بقتل مصطفى كامل عام 1908 وبالفعل ينجح برجاله في أن يدسوا له السم ليموت وهو في زيارة الآستانة، بل ومن شدة كره كرومر لمصر وثوار مصر أوحى للورد كتشنر أن ينشئ جهازاً سئ السمعة لقمع الأحرار في مصر واغتيالهم لصالح انجلترا وهو جهاز أمن الدولة ذلك الاختراع الإنجليزي في مصر والذي اخترعوه الانجليز في مصر عام 1913 تحت اسم القلم السياسي وكانت أول عمليات الاغتيال التي قام بها هذا الجهاز البوليسي هي عملية اغتيال الخديوي عباس في 25 مايو 1914على يد احد ضباط القلم السياسي ( أمن الدولة ) ويدعى "محمود مظهر" حيث قام بإطلاق الرصاص عليه بينما كان خارجاً من الباب العالي في استانبول بتركيا ولكنها محاولة باءت بالفشل الأمر الذي دعا انجلترا في ديسمبر 1914 أن تأتي بفؤاد الأول من ايطاليا وكان ضابطا في الجيش الإيطالي وقتها لتقيمه ملكا على مصر وتمنع عباس من العودة لمصر بحجة نشوب الحرب العالمية الأمر الذي أعتبره المصريون خلع لخديوي مصر المحبوب بالقوة وعلى غير إرادة المصريين وهو ربما ما جعلهم يكرهون فؤاد الأول على ذلك حتى مات رغم إصلاحاته، وربما يدفعني الموقف لأن اسرد قصة نفي بيرم التونسي لكونها ترتبط بهذه الحادثة ( اعتلاء فؤاد الأول عرش مصر وقبوله خلع الخديوي عباس ) الأمر الذي دفع المصريين لكره الملك وجعل بيرم ينشد:
ولما خلصت في مصر الملوك
جابوك لانجليز يافؤاد قعدوك
وكان بيت الشعر هذا هو بيت القصيد الذي تم نفي صاحبه خارج مصر سنينا طوالا عقابا له على طول لسانه في الذات الملكية!.
وفاه مصطفى كامل ونفي محمد فريد واغتياله وخلع عباس بعد محاولة اغتياله وقيام الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، تتسارع الأحداث ليجد المصري نفسه بين المطرقة والسندان .. مطرقة الاحتلال وسندان القصر فيلجأ المغنى الشعبي لموال شفيقة ومتولي والذي كان يسقط فيه الفنان الشعبي إسقاطات على واقع احتلال مصر من الانجليز وتحويلها من بلد حر إلى مستعمرة لإمتاع انجلترا في غيبة الثوار والوطنيين تماما مثل "شفيقة" ( 1870 م ) التي حولها القصر إلى ( مومس ) في غياب أخيها "متولي" الجدع الثوري الذي كان في خدمة الجيش والوطن ليفاجأ بأن القصر غدر به وانتهك حرمة شفيقة أو انتهك حرمة مصر كما يحاول أن يدفع بها الفنان الشعبي للناس ليثير حماسهم ضد الإنجليز في المقهى الكبير بحي العطارين والذي ينصت إليه سيد درويش وكأنه في حالة غيبوبة وهو موال طويل تترنح من سماعه الناس حينما يردد المنشد:
نادى القاضي 
ووقف قدامو قالو بتموت شفيقة لية يا متولى 
قالو يا بية انا دمى فار زى العمال 
ومع اسود عمل الفار عمل 
وحدانا شجرة وفيها فرع مال 
مفيش غيرى لاعم ولا خال لية 
اشرب المرار دة والخل لية 
اقطعو يا بية ولا اخلية 
كان القاضى اسمو حسن 
راجل عندو فضل وأحسان 
قالو صراحة قطعو احسن 
يا متولى يا جرجاوى يا جرجاوى يا متولى.
هكذا إذن رحم الأمة الذي يخرج منه أصحاب الأرض الحقيقيين ورموز ثورتها الكبار الذين لا يدانيهم شك في مدى وطنيتهم وانتمائهم، ورغم أن الظروف الصعبة التي مر بها سيد درويش وفقر أسرته اضطرته إلى العمل مبكرا من أجل الأسرة وهو لم يكمل تعليمه بعد إلا أنه – وهو الملهم الثوري - أخذ يبحث عن وسيلة للتعبير عما يجيش في نفسه من ضغوط وعن أحلامه في الحياة ، فلم يجد أفضل من الموسيقى ، وانجذب بحسه العالي إلى ما سمعه في الإسكندرية من ألحان وأغاني على اختلاف ألوانها المحلية الوطنية والأجنبية الوافدة التي كانت تصدح بها الجاليات الأجنبية وخاصة جاليات اليونان وايطاليا في مسارحها الخاصة في إسكندرية، ثم بدأ يردد ما حفظه على أسماع أصدقائه الذين وجدوا فيه موهبة تستحق فدعوه لإحياء حفلاتهم العائلية وأفراحهم، وسرعان ما انتشر الأمر فطلبه آخرون وعرضوا عليه أجرا مقابل الغناء فقبل، حتى تدخل القدر في عام 1909 بعد رحلة شاقة له في أعمال منحطة شغلها، منها على سبيل المثال عامل بناء وصب اسمنت، ليعول بأجر هذه الأعمال المنحطة التي قبلها رغما عنه أسرته الفقيرة وحيث استمع ذات يوم لغنائه رجلان من الشوام كانا يجلسان مصادفة على مقهى بجانب العمارة التي يعمل بها سيد درويش ( عامل بناء) وكان هذين الرجلين هما أمين وسليم عطا الله أصحاب فرقة مسرحية تعمل بالشام ، فعرضا عليه العمل بفرقتهما فقبل وليبدأ من ذلك التاريخ بزوغ نجمه وأول خيوط حياته الفنية وكان عمره حينئذ 17 عاما.
سافر معهما سيد درويش إلى الشام واستطاع أن يجمع تراثا موسيقيا قيما خاصة بعد لقائه هناك بالموسيقى المخضرم عثمان الموصلي في عام 1912، وفى عام 1914 عاد سيد درويش لمقاهي الإسكندرية ولكنه عاد بالجديد فلم يعد يكتفي بتقديم ما حفظه عن الشيخ سلامة حجازي وكبار الموسيقيين مثل إبراهيم القباني، داود حسني وترديد أدوارهم الشهيرة، مثل "المحاسن واللطافة، يامنت واحشني، بأفتكارك ايه يفيدك"، ولكنه بدأ يبدع ألحانه الخاصة فقدم أول أدواره يا فؤادي، كما ظهرت أغانيه القصيرة السريعة إلى الوجود وغناها بنفسه كما غناها غيره من المطربين ، وبدأ نجمه يعلو في المدينة حتى سمع عنه الشيخ سلامة حجازي وقرر أن يذهب لسماعه بنفسه، ما أن سمعه الشيخ الكبير حتى حدث مثلما حدث مع أمين وسليم عطا الله ، عرض عليه العمل بفرقته بالقاهرة فقبل الشيخ سيد.
كانت الحرب العالمية الأولى قد غيرت كل شئ حتى أذواق الناس، كان الناس يعيشون حالة من الإحباط الوطني، حالة من اليأس القومي والأممي خاصة بعد سقوط دولة آل عثمان في تركيا جعلتهم يستسلمون للاحتلال وهذا ما رفضه سيد درويش في فرقة سلامة حجازي بالقاهرة وأصيب من جراءه بإحباط كبير جعلته يعود إلى مدينته الإسكندرية في اليوم التالي على أن لا يعود للقاهرة مرة أخرى ابداً، وان يظل ينشد أغانيه الحماسية والعاطفية وما يؤمن به على المقاهي وفي الأفراح أعظم له وأكرم ألف مرةٍ من أن يقدم المبتذل والساقط على أكبر مسارح القاهرة تحت مسمى "الجمهور عاوز كده".
في عام 1917، بعد ثلاث سنوات من اللقاء الأول ومن بداية الحرب العالمية، عاد الشيخ سلامة حجازي للإسكندرية ليبحث عن سيد درويش، بحث عنه في إسكندرية كلها حتى علم أنه يحيي فرحاً في قرية " أبيس" الواقعة على مدخل مدينة إسكندرية، وذهب له هناك الشيخ سلامة حجازي، وأصر أن يعود معه بالحنطور إلى الإسكندرية، وفي الحنطور عرض عليه الشيخ سلامة حجازي عرضا أقوى، التلحين لفرقة جورج أبيض تلحين رواية كاملة هي "فيــروز شاه" تلك الرواية التي لم تجذب الجمهور لكنها جعلته ينتبه لمنهج جديد في الموسيقى يولد من ضمير مصري نقي اسمه سيد درويش و تناثرت الأخبار إلى الفرق الأخرى فتسابقت لاكتساب سيد درويش إلى جانبها وأغدقت عليه لاجتذابه ليصبح سيد درويش ملحناً لجميع الفرق المسرحية بالقاهرة في وقت واحد ولتنضم لجذبه فرق الفطاحل أمثال نجيب الريحاني ، على الكسار ، منيرة المهدية.
وبعد انفجار ثورة 1919 تحول سيد درويش إلى فنان الشعب وصوت الأمة الذي يصرخ بطموحاتها وآمالها وقد أكد ذلك في أغنياته على وحدة وادي النيل التي تقول :
جالت لى خالتى أم أحمد
كلمايه فى متلايا
سرجوا الصندوق يا محمد
لكن مفتاحه معايا
بحر النيل راسه فى ناحيه
رجليه فى الناحية التانى
فوقانى يروحوا فى داهية
إذا كان سيبو التحتانى
وقد ساهم سيد درويش بالاشتراك مع بديع خيري ومحمد تيمور وببرم التونسي ومحمود مراد في عملية ميلاد ما يسمى بالمسرح الوطني الذي مهد بشكل فاعل في أحداث الثورة ( ثورة 1919 ) وزيادة لهيبها وبث القوة في ضمائر وقلوب أبناء مصر جميعا لصالح إنجاحها خاصة بعد نفي سعد زغلول ورفاقه، وفي عمر ثلاثة وثلاثين عاماً يخطف القدر عمر هذا الفنان الملهم الوطني وهو ينشد نشيد الوطن ليستقبل به سعد زغلول ورفاقه أثناء عودتهم من المنفى ، ولكن لم يحالفه القدر بلقاء سعد باشا ليغني له النشيد بنفسه إذ لم يكن يعرف أن انجلترا ستتخلص منه بالاغتيال أيضاً كما تخلصت من الخديوي عباس ومن مصطفى كامل ومن محمد فريد وغيرهم من خيرة ثوار مصر، واغتيل سيد درويش بجسده لكن ألحانه الثورية رددتها الملايين من بعده لسعد زغلول زعيم الوفد وثورة 1919 في ميدان المنشية، وأخذت ترددها حتى ثورة 25 يناير 2011 في ميدان التحرير.
بلادي بلادي بلادي
لك حبي وفؤادي
مصر يا أم البلاد
أنت غايتي والمراد
وعلى كل العباد
كم لنيلك من أيادي

سيد درويش في ذكراه زعيم ثورة مصر يناير 2011

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
ولأن الأبطال لا تلدهم الأمهات‏..‏ وإنما تلدهم الأمم‏، فإن سيد درويش يولد ولم يأت إلهامه الثوري من فراغ وإنما من رحم الأمة، من رحم مصر، فقد عاش صباه في ظرف سياسي غاية في التعقيد، فملأ في ضميره مخزونا عظيماً من النور والانتماء كما هو دوما عند أصحاب الضمائر الوطنية.

ليس هناك صراع بين حق وحق، بل بين حقٍ وباطلٍ وينتصر فيه الحقُ دوما حتى وإن طال أمد الصراع، وهناك صراع بين باطل وباطل وهذا الأخير هو أقساها وأكثرها فتنة وخراباً ولا انتصار فيه.
يقول سيد درويش على لسان بديع خيري حينما أدرك بحسه الوطني النقي أن هناك صراعا بين الحق ( المصري ) وبين باطل ( الاستعمار ) الانجليزي: 



مصر يا أم العجايب
شعبك أصيل والخصم عايب
خللي بالك من الحبايب
هما دول أنصار القضية
آهو ده اللي صار وآدي اللي كان
مالكش حق تلوم عليا. 
لم يختار سيد درويش ممارسة الصراع حتى ولو كان بين حق وباطل حتى رغم إدراكه ويقينه بما لا يدع مجالا لشك أنه في جانب الحق، فهو ابن البلد صاحب الأرض وذاك هو المستعمر الذي لاحق له فيها، ومن هنا اختار سيد درويش كمبدع مصري ملهم أن يمارس التنوير، أن يمارس نور الإيمان بقضاياه الوطنية وينشر أشعته قدر الاستطاعة في ضمائر الأمة جميعا فصار بنقطة النور هذه زعيماً تستلهم من ضميره النقي كل ثورات الحق من بعده أضواء النصر والحرية، حتى صار سيد درويش رغم مرور أكثر من 119 عاما على ميلاده 17 مارس عام 1892 زعيماً للتنوير الثوري لكل الباحثين عن دولة الحق والعدل والمساواة حتى يومنا هذا بل أن روحه الثورية استلهمها ثوار الشباب في ميدان التحرير لينالوا بها ما أرادوه لهم ولمصر من حقوق وطموح في 25 يناير 2011 وهم يرددون أغانيه ويقذفوا بها في وجه الطاغي وجنوده المدججين بأحدث أنواع الأسلحة الفتاكة والغازات السامة لقتلهم وإبادتهم ووأد روح الثورة فيهم لينتصروا وينتصر معهم سيد درويش.
ربما من أهم ما تخلص إليه روح سيد درويش الثورية ( المستمرة ليومنا هذا ) رائعته الموجعة " قوم يا مصري مصر دايما بتناديك"، إنها أقرب للعملية الجراحية للمجتمع المصري بدون بنج، يصرخ المريض من ألم الاستئصال لكنه يعيش معافاً بعد الألم حيث لا ألم ولا استئصال، رائعة موجعة كأنه يصدح بها اليوم مع الثوار في ميدان التحرير بالقاهرة ويسخر فيها من كل خلل اجتماعي من شأنه التفريق والحؤول بين المصريين وبعضهم البعض وأمور لا طائل منها ولا قيمة فيها سوى الفتن وصراع الباطل مع الباطل الذي لا يصب إلا في صالح العدو والمتربص في أحوج الظروف الوطنية احتياجاً لتلاحم المصريين وتآلفهم، وقد غناها في ظروف تتشابه مع ظروف ما نحياه الآن، وهي البحث عن الحرية، في فترة تم فيها الغدر بمصر ونفي سعد زغلول ورفاقه خارجها لحرمانها من أبنائها الانقياء الأوفياء والمؤمنين بالتغيير، وحيث لم يدع سيد درويش حينئذ لواء الثورة أن يسّاقط بنفي هؤلاء الوطنيين بل رفعه قبل السقوط وحث الناس ( بالتنوير ) وهو يلوح به من خلال أغانيه التي تحث على الثورة والوجود داعيا المصريين بالتمسك بالأرض والتآخي والنهضة حتى وإن اختلفت مللهم ونحلهم وعقائدهم فيقول:
ليه يا مصري كل أحوالك عجب
تشكى فقرك و أنت ماشى فوق دهب
حب جارك قبل ما تحب الوجود
إيه نصارى و مسلمين قال إيه ويهود
دى العبارة نسل واحد م الجدود
قوم يا مصري مصر دايما بتناديك
خد بنصري نصري دين واجب عليك
إذن وبهذه الثورية كيف لا يكون سيد درويش زعيم الأمة؟!.
ولأن الأبطال لا تلدهم الأمهات‏..‏ وإنما تلدهم الأمم‏، فإن سيد درويش يولد ولم يأت إلهامه الثوري من فراغ وإنما من رحم الأمة، من رحم مصر، فهو قد عاش صباه وبواكير شبابه في ظرف سياسي غاية في الظلمة والتعقيد، ظرف ملأ في ضمير سيد درويش مخزونا عظيماً من النور والحكمة والانتماء كما هو دوما عند أصحاب الضمائر الوطنية، فحينما كان يبلغ من العمر أربعة عشرة عاما تقريباً قامت مذبحة دنشواي، تفتح ضميره الثوري على أقسى ما يمكن أن تتفتح عليه ضمائر الثوريين في العالم، مذابح الناس بقرية صغيره بمحافظة المنوفية في الثالث عشر من يونيو من عام‏1906‏ ، كان وقتها يعيش في الإسكندرية التي لا تبعد سوى خمسين ميلا على أقصى تقدير من المنوفية، تفتحت مداركه على غدر الانجليز وبطولة الفتى المصري الطيب زهران الذي شنقته العساكر الانجليز بتهمة انه مصري هو وزملائه الثلاثة، وشجاعة الفتى مصطفى كامل الذي أجبر أكبر طاغية حكم مصر من وراء الستار على الرحيل بلا رجعة وهو اللورد كرومر، أدت المذبحة لهروب الصفاء من كل القلوب المحبة لتراب مصر لتحل مكانه المرارة ‏..‏ أياما سوداء‏ لا شك يحياها الكل ويبحثون من خلال السواد عن نقطة الخلاص، عن حورس المصري الذي يجب أن يظهر ليحول عار موت أبيه إلى نصر ينغرس في قلوب المطحونين والبسطاء من شعب مصر فينقلب وهن قلوبهم إلى قوة، ومن قوة قلوبهم تستمد الثورة وقودها للحرية.
كان الناس يعلمون مدى عداء كرومر والانجليز للخديوي عباس الذي حكم مصر في الفترة ( 1892 – 1914 ) والذين كانوا يعتبرونه ( حورس المصري ) ويعلمون مدى قربه ومحبته لزعيم الثوار الفتى مصطفى كامل الذي نجح في خلق رأى عام ضد سياسة كرومر في مصر، مما دفع بالحكومة البريطانية ومجلس النواب وخاصة بعد هجوم الأديب الأيرلندي جورج برنارد شو وقتها على الاحتلال الانجليزي لمصر واعتبره عارا على تاج المملكة العظمى الأمر الذي أدى إلى عزل كرومر من منصبة في مصر 12 أبريل 1907بعد كلمة برنارد شو الشهيرة التي كان يقصد بها كرومر وقتذاك : "السلطة لا تفسد الرجال، إنما الأغبياء إن وضعوا في السلطة فإنهم يفسدونها".
كان يستمع سيد درويش لغناء شقيقاته فريدة وستونة وزينب وهم يرددون أهازيج شعبية تضخ الوطنية في القلوب رغم أنهن كانوا يغنونها في الأفراح الخاصة بهم وبعشيرتهم داخل الحي الذي يسكنونه كنوع من المجاملة وكذلك كنوع من المرح في ساعات السمر البريئة بأحضان ليالي صيف الإسكندرية حيث كان حي كوم الدكة أشبه بقرية صغيرة على الأطراف القريبة جداً من عاصمة العالم الخفية ( بندر إسكندرية ) التي تكتظ ويسكنها خليط كثيف من شعوب العالم اجمع بثقافاته وأيديولوجياته ومسارحه ومدارسه ودور عباداته في خليط مدهش لا تجده إلا في مصر ( وقتذاك ) وربما هو سر عبقرية مصر، وسر كونها "أم الدنيا".
كان ينصت لكل شئ ويحفظ كل شئ وربما من أشهر تلك الأهازيج الشعبية والمواويل الحسية التي حفظها موال "يا عزيز عيني وأنا نفسي أروح بلدي"، ذلك الموال أو " البكائية" التي تأثر بها سيد درويش جدا ونالت من أعماقه لدرجة أن خصص لها دورا كاملا من ألحانه وسماه بذات اسمها " يا عزيز عيني"، وكذلك موال الفتى زهران فارس دنشواي الذي كان يكرر على أخته " فريدة " أن تسمعه إياه وتنشده له بصوتها حيث كان يطمئن دوماً لحلاوة صوتها خاصة وأنها تحفظ الكثير من المواويل التي تأتي على هواه، وحيث كانا يذهبان بصحبة أقرانهم وأبناء الحي بنات وبنين فوق سطوح المنزل ليستمعوا لفريدة وهي تغني عن الفتى زهران:
من بعد حكم المحاكم والشاويش والباش
غلايين ( وساقها ) كرومر مخرب
والانجليز فرعنوا بعد ما كانوا أوباش
نزلوا على دنشواي ماخلو نفر ولا أخوه
اللى ( أتشنق ) مات واللى فضل جلدوه
واللى فضل من الجلد جوا سجنهم ورموه
يوم (شنق) زهران كانت صعب (وقفاته)
أمه بتبكى عليه فوق السطح وأخواته
لوكان له أب ساعة (الشنق) لم فاته
صبرك علينا يا ظالم بكرة راح تندم.
كان يستمع لأخته ثم يذهب ليكمل شحن ضميره وحسه الوطني من حكاوي المصريين الحماسية في المقاهي الواقعة في حي العطارين بالإسكندرية والتي تحكي عن مآثر عباس الثاني ومصطفى كامل وكرههما للانجليز وكرومر وحبهما لمصر وللفلاحين لدرجة أغضبت كرومر وجعلته يكره مصر والمصريين وعباس ومصطفى كامل ويحث حكومة انجلترا على إرسال لورد كتشنر ليباشر مهام المملكة في مصر بدلا من كرومر، بل وينتقم ممن طردوه فيوحي لكتشنر بقتل مصطفى كامل عام 1908 وبالفعل ينجح برجاله في أن يدسوا له السم ليموت وهو في زيارة الآستانة، بل ومن شدة كره كرومر لمصر وثوار مصر أوحى للورد كتشنر أن ينشئ جهازاً سئ السمعة لقمع الأحرار في مصر واغتيالهم لصالح انجلترا وهو جهاز أمن الدولة ذلك الاختراع الإنجليزي في مصر والذي اخترعوه الانجليز في مصر عام 1913 تحت اسم القلم السياسي وكانت أول عمليات الاغتيال التي قام بها هذا الجهاز البوليسي هي عملية اغتيال الخديوي عباس في 25 مايو 1914على يد احد ضباط القلم السياسي ( أمن الدولة ) ويدعى "محمود مظهر" حيث قام بإطلاق الرصاص عليه بينما كان خارجاً من الباب العالي في استانبول بتركيا ولكنها محاولة باءت بالفشل الأمر الذي دعا انجلترا في ديسمبر 1914 أن تأتي بفؤاد الأول من ايطاليا وكان ضابطا في الجيش الإيطالي وقتها لتقيمه ملكا على مصر وتمنع عباس من العودة لمصر بحجة نشوب الحرب العالمية الأمر الذي أعتبره المصريون خلع لخديوي مصر المحبوب بالقوة وعلى غير إرادة المصريين وهو ربما ما جعلهم يكرهون فؤاد الأول على ذلك حتى مات رغم إصلاحاته، وربما يدفعني الموقف لأن اسرد قصة نفي بيرم التونسي لكونها ترتبط بهذه الحادثة ( اعتلاء فؤاد الأول عرش مصر وقبوله خلع الخديوي عباس ) الأمر الذي دفع المصريين لكره الملك وجعل بيرم ينشد:
ولما خلصت في مصر الملوك
جابوك لانجليز يافؤاد قعدوك
وكان بيت الشعر هذا هو بيت القصيد الذي تم نفي صاحبه خارج مصر سنينا طوالا عقابا له على طول لسانه في الذات الملكية!.
وفاه مصطفى كامل ونفي محمد فريد واغتياله وخلع عباس بعد محاولة اغتياله وقيام الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، تتسارع الأحداث ليجد المصري نفسه بين المطرقة والسندان .. مطرقة الاحتلال وسندان القصر فيلجأ المغنى الشعبي لموال شفيقة ومتولي والذي كان يسقط فيه الفنان الشعبي إسقاطات على واقع احتلال مصر من الانجليز وتحويلها من بلد حر إلى مستعمرة لإمتاع انجلترا في غيبة الثوار والوطنيين تماما مثل "شفيقة" ( 1870 م ) التي حولها القصر إلى ( مومس ) في غياب أخيها "متولي" الجدع الثوري الذي كان في خدمة الجيش والوطن ليفاجأ بأن القصر غدر به وانتهك حرمة شفيقة أو انتهك حرمة مصر كما يحاول أن يدفع بها الفنان الشعبي للناس ليثير حماسهم ضد الإنجليز في المقهى الكبير بحي العطارين والذي ينصت إليه سيد درويش وكأنه في حالة غيبوبة وهو موال طويل تترنح من سماعه الناس حينما يردد المنشد:
نادى القاضي 
ووقف قدامو قالو بتموت شفيقة لية يا متولى 
قالو يا بية انا دمى فار زى العمال 
ومع اسود عمل الفار عمل 
وحدانا شجرة وفيها فرع مال 
مفيش غيرى لاعم ولا خال لية 
اشرب المرار دة والخل لية 
اقطعو يا بية ولا اخلية 
كان القاضى اسمو حسن 
راجل عندو فضل وأحسان 
قالو صراحة قطعو احسن 
يا متولى يا جرجاوى يا جرجاوى يا متولى.
هكذا إذن رحم الأمة الذي يخرج منه أصحاب الأرض الحقيقيين ورموز ثورتها الكبار الذين لا يدانيهم شك في مدى وطنيتهم وانتمائهم، ورغم أن الظروف الصعبة التي مر بها سيد درويش وفقر أسرته اضطرته إلى العمل مبكرا من أجل الأسرة وهو لم يكمل تعليمه بعد إلا أنه – وهو الملهم الثوري - أخذ يبحث عن وسيلة للتعبير عما يجيش في نفسه من ضغوط وعن أحلامه في الحياة ، فلم يجد أفضل من الموسيقى ، وانجذب بحسه العالي إلى ما سمعه في الإسكندرية من ألحان وأغاني على اختلاف ألوانها المحلية الوطنية والأجنبية الوافدة التي كانت تصدح بها الجاليات الأجنبية وخاصة جاليات اليونان وايطاليا في مسارحها الخاصة في إسكندرية، ثم بدأ يردد ما حفظه على أسماع أصدقائه الذين وجدوا فيه موهبة تستحق فدعوه لإحياء حفلاتهم العائلية وأفراحهم، وسرعان ما انتشر الأمر فطلبه آخرون وعرضوا عليه أجرا مقابل الغناء فقبل، حتى تدخل القدر في عام 1909 بعد رحلة شاقة له في أعمال منحطة شغلها، منها على سبيل المثال عامل بناء وصب اسمنت، ليعول بأجر هذه الأعمال المنحطة التي قبلها رغما عنه أسرته الفقيرة وحيث استمع ذات يوم لغنائه رجلان من الشوام كانا يجلسان مصادفة على مقهى بجانب العمارة التي يعمل بها سيد درويش ( عامل بناء) وكان هذين الرجلين هما أمين وسليم عطا الله أصحاب فرقة مسرحية تعمل بالشام ، فعرضا عليه العمل بفرقتهما فقبل وليبدأ من ذلك التاريخ بزوغ نجمه وأول خيوط حياته الفنية وكان عمره حينئذ 17 عاما.
سافر معهما سيد درويش إلى الشام واستطاع أن يجمع تراثا موسيقيا قيما خاصة بعد لقائه هناك بالموسيقى المخضرم عثمان الموصلي في عام 1912، وفى عام 1914 عاد سيد درويش لمقاهي الإسكندرية ولكنه عاد بالجديد فلم يعد يكتفي بتقديم ما حفظه عن الشيخ سلامة حجازي وكبار الموسيقيين مثل إبراهيم القباني، داود حسني وترديد أدوارهم الشهيرة، مثل "المحاسن واللطافة، يامنت واحشني، بأفتكارك ايه يفيدك"، ولكنه بدأ يبدع ألحانه الخاصة فقدم أول أدواره يا فؤادي، كما ظهرت أغانيه القصيرة السريعة إلى الوجود وغناها بنفسه كما غناها غيره من المطربين ، وبدأ نجمه يعلو في المدينة حتى سمع عنه الشيخ سلامة حجازي وقرر أن يذهب لسماعه بنفسه، ما أن سمعه الشيخ الكبير حتى حدث مثلما حدث مع أمين وسليم عطا الله ، عرض عليه العمل بفرقته بالقاهرة فقبل الشيخ سيد.
كانت الحرب العالمية الأولى قد غيرت كل شئ حتى أذواق الناس، كان الناس يعيشون حالة من الإحباط الوطني، حالة من اليأس القومي والأممي خاصة بعد سقوط دولة آل عثمان في تركيا جعلتهم يستسلمون للاحتلال وهذا ما رفضه سيد درويش في فرقة سلامة حجازي بالقاهرة وأصيب من جراءه بإحباط كبير جعلته يعود إلى مدينته الإسكندرية في اليوم التالي على أن لا يعود للقاهرة مرة أخرى ابداً، وان يظل ينشد أغانيه الحماسية والعاطفية وما يؤمن به على المقاهي وفي الأفراح أعظم له وأكرم ألف مرةٍ من أن يقدم المبتذل والساقط على أكبر مسارح القاهرة تحت مسمى "الجمهور عاوز كده".
في عام 1917، بعد ثلاث سنوات من اللقاء الأول ومن بداية الحرب العالمية، عاد الشيخ سلامة حجازي للإسكندرية ليبحث عن سيد درويش، بحث عنه في إسكندرية كلها حتى علم أنه يحيي فرحاً في قرية " أبيس" الواقعة على مدخل مدينة إسكندرية، وذهب له هناك الشيخ سلامة حجازي، وأصر أن يعود معه بالحنطور إلى الإسكندرية، وفي الحنطور عرض عليه الشيخ سلامة حجازي عرضا أقوى، التلحين لفرقة جورج أبيض تلحين رواية كاملة هي "فيــروز شاه" تلك الرواية التي لم تجذب الجمهور لكنها جعلته ينتبه لمنهج جديد في الموسيقى يولد من ضمير مصري نقي اسمه سيد درويش و تناثرت الأخبار إلى الفرق الأخرى فتسابقت لاكتساب سيد درويش إلى جانبها وأغدقت عليه لاجتذابه ليصبح سيد درويش ملحناً لجميع الفرق المسرحية بالقاهرة في وقت واحد ولتنضم لجذبه فرق الفطاحل أمثال نجيب الريحاني ، على الكسار ، منيرة المهدية.
وبعد انفجار ثورة 1919 تحول سيد درويش إلى فنان الشعب وصوت الأمة الذي يصرخ بطموحاتها وآمالها وقد أكد ذلك في أغنياته على وحدة وادي النيل التي تقول :
جالت لى خالتى أم أحمد
كلمايه فى متلايا
سرجوا الصندوق يا محمد
لكن مفتاحه معايا
بحر النيل راسه فى ناحيه
رجليه فى الناحية التانى
فوقانى يروحوا فى داهية
إذا كان سيبو التحتانى
وقد ساهم سيد درويش بالاشتراك مع بديع خيري ومحمد تيمور وببرم التونسي ومحمود مراد في عملية ميلاد ما يسمى بالمسرح الوطني الذي مهد بشكل فاعل في أحداث الثورة ( ثورة 1919 ) وزيادة لهيبها وبث القوة في ضمائر وقلوب أبناء مصر جميعا لصالح إنجاحها خاصة بعد نفي سعد زغلول ورفاقه، وفي عمر ثلاثة وثلاثين عاماً يخطف القدر عمر هذا الفنان الملهم الوطني وهو ينشد نشيد الوطن ليستقبل به سعد زغلول ورفاقه أثناء عودتهم من المنفى ، ولكن لم يحالفه القدر بلقاء سعد باشا ليغني له النشيد بنفسه إذ لم يكن يعرف أن انجلترا ستتخلص منه بالاغتيال أيضاً كما تخلصت من الخديوي عباس ومن مصطفى كامل ومن محمد فريد وغيرهم من خيرة ثوار مصر، واغتيل سيد درويش بجسده لكن ألحانه الثورية رددتها الملايين من بعده لسعد زغلول زعيم الوفد وثورة 1919 في ميدان المنشية، وأخذت ترددها حتى ثورة 25 يناير 2011 في ميدان التحرير.
بلادي بلادي بلادي
لك حبي وفؤادي
مصر يا أم البلاد
أنت غايتي والمراد
وعلى كل العباد
كم لنيلك من أيادي

الخميس، 17 مارس 2011

ثورة مصر والانتهازيون الجدد

بقلم محيي الدين إبراهيم

عبود الزمر هو أحد أكبر هؤلاء الانتهازيين الجدد، مايكل منير،السيد البدوي شحاتة رئيس حزب الوفد وقناة الحياة، يحي الجمل، عمرو موسى، ألبرادعي، ساويرس صاحب قناة اون تي في، أيمن نور، احمد بهجت صاحب قناة دريم، والداعية عمرو خالد، والكثير الكثير الذين نشفق على أنفسنا من تعدادهم لكثرتهم وهم نجوم النظام السابق الذين لم يقدموا شيئا لمصر ولكن أخذوا منها أكثر مما أعطوا.

ليس هناك عدم .. بل هناك فناء وجود في وجود .. فناء ذات في ذات .. كفناء ألوان الطيف في اللون الأبيض على سبيل التوضيح .. وفناء ثورة 25 يناير المصرية في ذات الانتهازيين الجدد.
قال لي سيادة اللواء "بدر حميد" احد الضباط الأحرار في ثورة 1952 وكان وقت الثورة يبلغ من العمر 25 عاماً: إن الثورة – أي ثورة – يقوم بها الحالمون بالتغيير لدرجة الاستشهاد لكن لا يستفيد منها ومن جثث الشهداء بعد نجاحها إلا أبناء الأفاعي والحيات، فالشعب بارك الثورة واعتقلناه بمراكز القوى في ستينيات القرن الماضي وحين ثار السادات في مايو 1971 وبارك الشعب هذا التغيير اعتقلناه أيضا بأمن الدولة ابتداءً من ثمانينيات القرن الماضي.
الثائرون إذن جسر تطأه أقدام الانتهازيين ليعبروا عليه إلى مطامحهم الخاصة التي لم ينالوها لولا دماء الشهداء التي سالت من اجل الحرية، فنرى بعد الثورة أسماء غير أسماء الذين قاموا بها ووجوه غير تلك الوجوه التي هللنا لها ساعة الثورة، لا نجد إلا مصالح تطفو فوق الكرامة ومخالب تعلو على إنكار الذات، ومعاقل ثورية يتم بها اعتقال أصحاب القيم في جلودهم أو في قبور جديدة تختلف في الاسم فقط عما كانت عليه أسماء القبور قديما قبل التغيير، الشعب بارك ثورة 25 يناير لكن يبدو انه سيتم اعتقاله أيضاً بالمسمى الجديد، سيتم اعتقاله بالأمن الوطني وحيث تبدأ ملامح وبشائر الاعتقال بظهور العصا الكهربائية في الشوارع ولكن بأيدي غير تلك الأيادي التي كانت تحملها قديماً، أو ربما نفس الأيادي القديمة ولكن مع تغيير القفازات، كما أشارت لي الزميلة الصحفية سامية أبو زيد في أحد تعليقاتها!. 
إنها دوائر التغيير الحتمي لا شك، لا تتلاشى أبداً ولكنها تقترب أو تبتعد، وتفنى في بعضها البعض، ولا يفني بعضها بعضاً، فيتغير الشكل فقط وتتغير الملامح لكنها تظل – شكلاً وملمحاً - محمله بنفس السيناريو، محملة بالقهر والانتهازية والوصولية، حيث باشاوات الأمس يصبحون فقراء اليوم وانتهازيوا اليوم يصبحوا ديكتاتوريو الثورة الجدد، هذا هو مسار التغيير في عالمنا الثالث، في عالمنا الشرق أوسطي الذي لا يعرف الاعتدال ولكنة تطرف من تطرف من عنترية رعناء تخلص كل أطوارها في النهاية إلى نقطة شديدة الظلمة تختزل في رحم نواتها المعتمة كل أجنة الانتهازية والشر، فلا فرق بين فاروق الملك ومبارك الخديوي، ولا فرق بين مبارك الخديوي وكل شماشرجية قصره ونظامه السابق الذين يرشحون أنفسهم اليوم لرئاسة مصر بانتهازية الجنين ( الطري ) المولود فيما بعد 25 يناير!. 
محاولة فاشلة لاغتيال عمر سليمان، ومحاولة فاشلة لانقلاب الحرس الجمهوري على الثورة، ومحاولة فاشلة لدخول أسلحة عبر حدود السودان إلى مصر، ألغاز غير قابلة لفك شفرتها، ألغاز تحمل في صدر صفحاتها الأولى شفرات شديدة التعقيد إلا لغزاً واحداً تم فك شفرته ببساطة، إنه لغز زيارة هيلاري كلينتون الناجحة لعودة ضخ الغاز المصري لإسرائيل بسعره القديم ( الانتهازي ) لصالح وزارة بنيامين ناتنياهو في تل أبيب ومحمد طويلة رئيس هيئة البترول، وحسين سالم صهر عائلة مبارك المخلوع، بخسائر سنوية مقدارها خمسة مليارات دولار بواقع 13 مليون دولار يومياً حسب ما كشف عنه السفير إبراهيم يسرى صاحب دعوى منع بيع الغاز المصري لإسرائيل!.
عبود الزمر ( مانديلا المصري كما صورته الآلات الإعلامية الفاشلة وأدمغة القش من الإعلاميين المحسوبين على مصر) هو أحد أكبر هؤلاء الانتهازيين الجدد، مايكل منير،السيد البدوي شحاتة رئيس حزب الوفد وقناة الحياة، يحي الجمل، عمرو موسى، ألبرادعي، ساويرس صاحب قناة اون تي في، أيمن نور، احمد بهجت صاحب قناة دريم، والداعية عمرو خالد، والكثير الكثير الذين نشفق على أنفسنا من تعدادهم لكثرتهم وهم نجوم النظام السابق الذين لم يقدموا شيئا لمصر ولكن أخذوا منها أكثر مما أعطوا، وضحكوا علينا أكثر مما صدقوا، هذا بخلاف مجموعة ( عظمى ) تحسب نفسها على الشباب الثوري وشباب التغيير من أنصاف وأشباه الإعلاميين ورؤساء تحرير وكتاب للسينما ومطربي وفناني الدرجة الثالثة في مصر، الذين يملأوون الدنيا اليوم ضجيجاً وصراخا عن انجازاتهم وثوريتهم وتاريخهم النضالي التنويري ولبناتهم الصلبة في بناء الهرم الرابع في مصر، هرم النهضة، ودولة الحرية والعدل والمساواة!.
لا وجود اليوم للوجوه التي كانت تمتلئ بالبراءة والحرية في 25 يناير 2011، لا نعرف حتى أسماء أكثر من 800 ثوري قتلته أيادي الشرطة ونظام مبارك حتى الأول من فبراير 2011، لا وجود لمن دفعوا بأرواحهم - وهم يعلمون - فداء لما آمنوا به، فداء لحرية مصر ونهضة مصر وثورية مصر، دون النظر لمنصب أو دخل، أو الطمع في ملجأ أو وظيفة تحقق لهم البصيص من أحلامهم الإنسانية المشروعة، هناك فرق هائل بين من رأيناهم في بداية الثورة من وجوه وبين من رأيناهم في بداية جمعة الشيخ القرضاوي من وجوه أخرى تماماً، وجوه تبدلت ونفوس تحولت ومطامع نُحتت، لا نرى اليوم سوى نفس الوجوه القديمة ( القبيحة أحياناً ) والتي تخرج علينا – كلما خرجت - بإعلان أقرب لإعلان السيد للعبد، فهي لا تملك – أمام طموحها - وقتاً في أن تتحاور معك أو أن تناقشها، فطموحها أعظم من أن تستشعر معها روح التواضع والأخوة بل والوطنية أحياناً في مسألة قبولك من عدمه، هم يريدونك مجرد رقم، رقم يضاف لرصيد مؤيديهم فتعلو بالأرقام أسهم مناصبهم الجديدة التي في انتظارهم وهم في انتظارها، لذا فأنت لا تلقى منهم سوى فقط إعلان، إعلان على صفحاتهم ( الشهيرة ) بالفيس بوك أو تويتر، أو صفحات الجرائد المثيرة للجدل أو شاشات تليفزيوناتهم التي جعلوها سداحا مداحا لرؤوس النظام الجديد كنوع من الحماية - بصداقتهم لأعضاء هذا النظام - من أن تتحول سمعتهم ودفاترهم ( القديمة ) للنائب العام بتهمة التربح والمحسوبية والثراء الفاحش السهل والسريع على حساب البسطاء وكذا كنوع من تطبيق المثل ( الفلاحي المصري ) الذي يقول: اطعم الفم تستحي العين، بمعنى أن أحولك ( كانتهازي ) إلى نجم شعبي وطني ثوري بتليفزيوناتي وطاقمي الإعلامي والصحفي مقابل أن تتغاضى ( قانوناً ) كصديق ( نظامي ) عن ما فعلت يداي من آثام في الماضي وتحميني، هذا هو المشهد العام في مصر الآن، المشهد الانتهازي، المشهد الذي تتحكم فيه فقط ثلاث تليفزيونات خاصة وثلاثة صحف شخصية، ومادون ذلك هو مجرد ذر الرماد في العيون، لكون لا أحد يطيق اليوم الإعلام الحكومي، أو الصحف القومية، أو مواقع الأخبار التابعة للنظام على صفحات الإنترنت.
وليس مستغربا في واقع هذا المشهد العام في مصر أن نجد في المستقبل وربما قريبا جدا الكثير من هؤلاء الانتهازيين وقد ابتكروا آليات ( شيطانية ) تمكنهم من اعتلاء صهوة الثورة والتغيير وصهوة النفوذ ورأس الوطن فنجدهم ينادون بمجلس حكماء لكل قطاع في مصر، للتليفزيون يكون على رأسه مثلاً حسين عبد الغني، مدير مكتب الجزيرة السابق في القاهرة، ومؤسس إذاعة الثورة المصرية في ميدان التحرير، وحافظ الميرازي مدير مكتب الجزيرة السابق في واشنطن، ومجلس حكماء للإعلام ومجلس حكماء للصحافة ومجلس حكماء للصناعة والتجارة والقرى والنجوع وشئون الأمن القومي والأمن الوطني وهكذا في كل قطاع من القطاعات الحيوية والحساسة في مصر وحيث يقفز عليه هؤلاء الذين يمكن أن نطلق عليهم لقب "الانتهازيون الجدد" المتلونون باسم الثورة والثورية والثوار ومنهج التغيير!.
كلمة وفاء لوطني ...
بشرت المسيحية بالحب والحب ضد التطرف، وبشر الإسلام بالحق والحق ضد الظلم، ما أروع أن نكون في وطن يحتضن أتباع الحب وأتباع الحق، الحب والحق في مصر إن تآلفا واندمجا ستصبح مصر أمة عظمى كما كانت، ستصبح مصر الجديدة، مصر التي كانت وستظل أم الدنيا.

ثورة مصر والانتهازيون الجدد

بقلم محيي الدين إبراهيم

عبود الزمر هو أحد أكبر هؤلاء الانتهازيين الجدد، مايكل منير،السيد البدوي شحاتة رئيس حزب الوفد وقناة الحياة، يحي الجمل، عمرو موسى، ألبرادعي، ساويرس صاحب قناة اون تي في، أيمن نور، احمد بهجت صاحب قناة دريم، والداعية عمرو خالد، والكثير الكثير الذين نشفق على أنفسنا من تعدادهم لكثرتهم وهم نجوم النظام السابق الذين لم يقدموا شيئا لمصر ولكن أخذوا منها أكثر مما أعطوا.

ليس هناك عدم .. بل هناك فناء وجود في وجود .. فناء ذات في ذات .. كفناء ألوان الطيف في اللون الأبيض على سبيل التوضيح .. وفناء ثورة 25 يناير المصرية في ذات الانتهازيين الجدد.
قال لي سيادة اللواء "بدر حميد" احد الضباط الأحرار في ثورة 1952 وكان وقت الثورة يبلغ من العمر 25 عاماً: إن الثورة – أي ثورة – يقوم بها الحالمون بالتغيير لدرجة الاستشهاد لكن لا يستفيد منها ومن جثث الشهداء بعد نجاحها إلا أبناء الأفاعي والحيات، فالشعب بارك الثورة واعتقلناه بمراكز القوى في ستينيات القرن الماضي وحين ثار السادات في مايو 1971 وبارك الشعب هذا التغيير اعتقلناه أيضا بأمن الدولة ابتداءً من ثمانينيات القرن الماضي.
الثائرون إذن جسر تطأه أقدام الانتهازيين ليعبروا عليه إلى مطامحهم الخاصة التي لم ينالوها لولا دماء الشهداء التي سالت من اجل الحرية، فنرى بعد الثورة أسماء غير أسماء الذين قاموا بها ووجوه غير تلك الوجوه التي هللنا لها ساعة الثورة، لا نجد إلا مصالح تطفو فوق الكرامة ومخالب تعلو على إنكار الذات، ومعاقل ثورية يتم بها اعتقال أصحاب القيم في جلودهم أو في قبور جديدة تختلف في الاسم فقط عما كانت عليه أسماء القبور قديما قبل التغيير، الشعب بارك ثورة 25 يناير لكن يبدو انه سيتم اعتقاله أيضاً بالمسمى الجديد، سيتم اعتقاله بالأمن الوطني وحيث تبدأ ملامح وبشائر الاعتقال بظهور العصا الكهربائية في الشوارع ولكن بأيدي غير تلك الأيادي التي كانت تحملها قديماً، أو ربما نفس الأيادي القديمة ولكن مع تغيير القفازات، كما أشارت لي الزميلة الصحفية سامية أبو زيد في أحد تعليقاتها!. 
إنها دوائر التغيير الحتمي لا شك، لا تتلاشى أبداً ولكنها تقترب أو تبتعد، وتفنى في بعضها البعض، ولا يفني بعضها بعضاً، فيتغير الشكل فقط وتتغير الملامح لكنها تظل – شكلاً وملمحاً - محمله بنفس السيناريو، محملة بالقهر والانتهازية والوصولية، حيث باشاوات الأمس يصبحون فقراء اليوم وانتهازيوا اليوم يصبحوا ديكتاتوريو الثورة الجدد، هذا هو مسار التغيير في عالمنا الثالث، في عالمنا الشرق أوسطي الذي لا يعرف الاعتدال ولكنة تطرف من تطرف من عنترية رعناء تخلص كل أطوارها في النهاية إلى نقطة شديدة الظلمة تختزل في رحم نواتها المعتمة كل أجنة الانتهازية والشر، فلا فرق بين فاروق الملك ومبارك الخديوي، ولا فرق بين مبارك الخديوي وكل شماشرجية قصره ونظامه السابق الذين يرشحون أنفسهم اليوم لرئاسة مصر بانتهازية الجنين ( الطري ) المولود فيما بعد 25 يناير!. 
محاولة فاشلة لاغتيال عمر سليمان، ومحاولة فاشلة لانقلاب الحرس الجمهوري على الثورة، ومحاولة فاشلة لدخول أسلحة عبر حدود السودان إلى مصر، ألغاز غير قابلة لفك شفرتها، ألغاز تحمل في صدر صفحاتها الأولى شفرات شديدة التعقيد إلا لغزاً واحداً تم فك شفرته ببساطة، إنه لغز زيارة هيلاري كلينتون الناجحة لعودة ضخ الغاز المصري لإسرائيل بسعره القديم ( الانتهازي ) لصالح وزارة بنيامين ناتنياهو في تل أبيب ومحمد طويلة رئيس هيئة البترول، وحسين سالم صهر عائلة مبارك المخلوع، بخسائر سنوية مقدارها خمسة مليارات دولار بواقع 13 مليون دولار يومياً حسب ما كشف عنه السفير إبراهيم يسرى صاحب دعوى منع بيع الغاز المصري لإسرائيل!.
عبود الزمر ( مانديلا المصري كما صورته الآلات الإعلامية الفاشلة وأدمغة القش من الإعلاميين المحسوبين على مصر) هو أحد أكبر هؤلاء الانتهازيين الجدد، مايكل منير،السيد البدوي شحاتة رئيس حزب الوفد وقناة الحياة، يحي الجمل، عمرو موسى، ألبرادعي، ساويرس صاحب قناة اون تي في، أيمن نور، احمد بهجت صاحب قناة دريم، والداعية عمرو خالد، والكثير الكثير الذين نشفق على أنفسنا من تعدادهم لكثرتهم وهم نجوم النظام السابق الذين لم يقدموا شيئا لمصر ولكن أخذوا منها أكثر مما أعطوا، وضحكوا علينا أكثر مما صدقوا، هذا بخلاف مجموعة ( عظمى ) تحسب نفسها على الشباب الثوري وشباب التغيير من أنصاف وأشباه الإعلاميين ورؤساء تحرير وكتاب للسينما ومطربي وفناني الدرجة الثالثة في مصر، الذين يملأوون الدنيا اليوم ضجيجاً وصراخا عن انجازاتهم وثوريتهم وتاريخهم النضالي التنويري ولبناتهم الصلبة في بناء الهرم الرابع في مصر، هرم النهضة، ودولة الحرية والعدل والمساواة!.
لا وجود اليوم للوجوه التي كانت تمتلئ بالبراءة والحرية في 25 يناير 2011، لا نعرف حتى أسماء أكثر من 800 ثوري قتلته أيادي الشرطة ونظام مبارك حتى الأول من فبراير 2011، لا وجود لمن دفعوا بأرواحهم - وهم يعلمون - فداء لما آمنوا به، فداء لحرية مصر ونهضة مصر وثورية مصر، دون النظر لمنصب أو دخل، أو الطمع في ملجأ أو وظيفة تحقق لهم البصيص من أحلامهم الإنسانية المشروعة، هناك فرق هائل بين من رأيناهم في بداية الثورة من وجوه وبين من رأيناهم في بداية جمعة الشيخ القرضاوي من وجوه أخرى تماماً، وجوه تبدلت ونفوس تحولت ومطامع نُحتت، لا نرى اليوم سوى نفس الوجوه القديمة ( القبيحة أحياناً ) والتي تخرج علينا – كلما خرجت - بإعلان أقرب لإعلان السيد للعبد، فهي لا تملك – أمام طموحها - وقتاً في أن تتحاور معك أو أن تناقشها، فطموحها أعظم من أن تستشعر معها روح التواضع والأخوة بل والوطنية أحياناً في مسألة قبولك من عدمه، هم يريدونك مجرد رقم، رقم يضاف لرصيد مؤيديهم فتعلو بالأرقام أسهم مناصبهم الجديدة التي في انتظارهم وهم في انتظارها، لذا فأنت لا تلقى منهم سوى فقط إعلان، إعلان على صفحاتهم ( الشهيرة ) بالفيس بوك أو تويتر، أو صفحات الجرائد المثيرة للجدل أو شاشات تليفزيوناتهم التي جعلوها سداحا مداحا لرؤوس النظام الجديد كنوع من الحماية - بصداقتهم لأعضاء هذا النظام - من أن تتحول سمعتهم ودفاترهم ( القديمة ) للنائب العام بتهمة التربح والمحسوبية والثراء الفاحش السهل والسريع على حساب البسطاء وكذا كنوع من تطبيق المثل ( الفلاحي المصري ) الذي يقول: اطعم الفم تستحي العين، بمعنى أن أحولك ( كانتهازي ) إلى نجم شعبي وطني ثوري بتليفزيوناتي وطاقمي الإعلامي والصحفي مقابل أن تتغاضى ( قانوناً ) كصديق ( نظامي ) عن ما فعلت يداي من آثام في الماضي وتحميني، هذا هو المشهد العام في مصر الآن، المشهد الانتهازي، المشهد الذي تتحكم فيه فقط ثلاث تليفزيونات خاصة وثلاثة صحف شخصية، ومادون ذلك هو مجرد ذر الرماد في العيون، لكون لا أحد يطيق اليوم الإعلام الحكومي، أو الصحف القومية، أو مواقع الأخبار التابعة للنظام على صفحات الإنترنت.
وليس مستغربا في واقع هذا المشهد العام في مصر أن نجد في المستقبل وربما قريبا جدا الكثير من هؤلاء الانتهازيين وقد ابتكروا آليات ( شيطانية ) تمكنهم من اعتلاء صهوة الثورة والتغيير وصهوة النفوذ ورأس الوطن فنجدهم ينادون بمجلس حكماء لكل قطاع في مصر، للتليفزيون يكون على رأسه مثلاً حسين عبد الغني، مدير مكتب الجزيرة السابق في القاهرة، ومؤسس إذاعة الثورة المصرية في ميدان التحرير، وحافظ الميرازي مدير مكتب الجزيرة السابق في واشنطن، ومجلس حكماء للإعلام ومجلس حكماء للصحافة ومجلس حكماء للصناعة والتجارة والقرى والنجوع وشئون الأمن القومي والأمن الوطني وهكذا في كل قطاع من القطاعات الحيوية والحساسة في مصر وحيث يقفز عليه هؤلاء الذين يمكن أن نطلق عليهم لقب "الانتهازيون الجدد" المتلونون باسم الثورة والثورية والثوار ومنهج التغيير!.
كلمة وفاء لوطني ...
بشرت المسيحية بالحب والحب ضد التطرف، وبشر الإسلام بالحق والحق ضد الظلم، ما أروع أن نكون في وطن يحتضن أتباع الحب وأتباع الحق، الحب والحق في مصر إن تآلفا واندمجا ستصبح مصر أمة عظمى كما كانت، ستصبح مصر الجديدة، مصر التي كانت وستظل أم الدنيا.

الاثنين، 14 مارس 2011

الأحزاب الدينية في مصر هل هي بداية لولاية الفقيه؟


mohi_ibraheem
بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
يبدو أن تركيا ( العدالة والتنمية ) لا تريد لأحزاب الاخوان المشابهة لها في مصر أن تقع في نفس خطأ حزب الرفاة التركي، وربما من هذه الزاوية جاءت زيارة عبد الله جول السريعة لمصر رغم وفاة أستاذه اربكان منذ 36 ساعة لحظة وصوله القاهرة ليقابل في مبنى السفارة التركية بمصر كل رموز جماعة الإخوان، مقابلة رسمية ودبلوماسية.
بثورة 25 يناير نالت الجماعات الدينية في مصر حريتها كاملة، بل وحرية تحقيق طموحها السياسي والحزبي والوطني، وأصبحت بين عشية وضحاها من محظورة لمشروعة، بل أنه يمكننا الجزم بأن 25 يناير 2011 هو العصر الذهبي للجماعات الإسلامية في مصر ومن ثم في الوطن العربي والشرق وربما من بعدهما في العالم أجمع.
نحن لسنا ضد أن يخدم مصر أي من أبنائها الشرفاء مهما كانت انتماءتهم العقائدية، فالوطن لا يسأل الفلاح عن ديانته قبل أن يغرس في أعماقه شتله، ولا يضير ماكينة الإنتاج أن كان القائم عليها مؤمن أو غير ذلك، لأن الوطن لا يعرف سوى كونه واحداً بجهد أبنائه وكفاحهم أو صفراً بتناحرهم وتشتتهم ومن ثم فنحن لا نعلم أن كان هذا التاريخ - 25 يناير - سيكون بداية فتح لعهد يتولى فيه أمراء ومرشدي الجماعات الدينية الحكم العادل في البلاد على أسس وطنية أم أنه سيكون بداية لصراعهم المذهبي حول تفعيل مسائلهم الفقهية المختلف عليها فيما بينهم لمحاولة تطبيقها وفرضها على الفعل السياسي من تحت قبة البرلمان؟، أو كصراع دون كيشوت ضد طواحين الهواء يستنزف قوى الوطن والمستقبل دون عائد كما كان يتصارع أمراء المماليك واستنزفوا بصراعهم طيلة أربعة قرون قوى الوطن ومستقبله!.
لا يجوز لنا أن نغض البصر عن مسألة هامة وهي أن دخول أي جماعة دينية بوابة السياسة لممارسة دور سياسي يعني في المقام الأول أن رؤيتهم الدينية والمذهبية للأمور العامة والخاصة هي صلب أجندتهم السياسية وإلا ما جدوى أن يمارسوا السياسة من أصله إن لم يكن لهم هدفا دينيا يؤمنون به ويريدون تفعيله سياسيا ( دنيوياً ) عن طريق صناديق الاقتراع وبصيص الديمقراطية التي ربما تتمتع به أو ستتمتع به دولة ما بعد الثورة.
تركيا هي أول بلد استشعرت واقع الحال في مصر بعد الثورة مباشرة واستشعرت معه – بحسب خبرتها السياسودينية أن جاز لي إطلاق هذا التعبير –استشعرت سيناريوهات الواقع وملامح المستقبل لتلك الجماعات الدينية التي تحررت من المعتقلات بعد الثورة وتريد المشاركة السياسية وممارسة العمل السياسي في مصر بجانب ممارستها للعمل الديني والدعوي، وعلى رأس هذه الجماعات في مصر جماعة الإخوان المسلمون، فحزب العدالة والتنمية التركي هو حزب غالب مؤسسيه وأعضاءه لهم مرجعية دينية تقترب في منهجها من مرجعية أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، وهو حزب قائم على أنقاض حزب الرفاة لزعيمه نجم الدين اربكان، وحزب الرفاة تم تأسيسه سياسيا في ظروف كانت تتطلع فيه تركيا – ومازالت - لأن تُظهر أمام العالم سلوكا ديمقراطياً على النسق الغربي طمعا في رغبة انضمامها لأوروبا، ولهذا ظهر الرفاة بموافقة النظام وقتذاك كدليل على هذه المظاهر الديمقراطية التي كانت بمثابة نقلة ( ثورية ) على المنهج الأتاتوركي ( الكلاسيكي ) للدولة وبداية سطوع شمس العصر الذهبي للجماعات الدينية في تركيا ومشاركتها الفعلية في العملية السياسية هناك حتى رغم أنف الجيش التركي الذي يحكم تركيا من خلف كواليس السياسة بقبضة علمانية من حديد، ولكن وتحت حكمة أن بداية تعلم السير على الأقدام تتخلله الأخطاء التي تؤدي للسقوط فقد سقط الرفاة وتم حرمان اربكان من العمل السياسي حتى مات رغم عطاءه الوطني ورغم أنه يعتبر أبو الاقتصاد التركي الحديث.
أدى سقوط اربكان وسقوط حزبه إلى إعادة ترتيب الأوراق، ومعروف أن أي جماعة دينية في العالم لا تيأس من السقوط أو الهزيمة لكونها محددة الهدف ومؤمنة بقيمة لا تخطئها القلوب ولا تعرف الضمائر فيها معنى الانهزام، وحيث شتان مابين الهزيمة والانهزام، وعليه فإنها تخمد لفترة ثم تعاود الظهور بقوه بعد الخمود – وربما بعد الاعتقال والنفي والتعذيب - مستفيدة من كل أخطاء الماضي التي تحولها لمكاسب لا تعجزها الصراعات، وليظهر من صلب الصراع حزب العدالة والتنمية بقيادة عبد الله جول تلميذ اربكان النجيب وكاتم أسراره والأقرب له في المثل من قرب فتى موسى لمعلمه النبي.
يبدو أن تركيا ( العدالة والتنمية ) لا يريد للأحزاب المشابهة له في مصر أن تقع في نفس خطأ حزب الرفاة التركي حينما قام، وربما – في تقديري - من هذه الزاوية تحديداً كانت زيارة عبد الله جول السريعة لمصر رغم وفاة أستاذه ومعلمه اربكان والذي لم تمر على وفاته 36 ساعة على أقصى تقدير حين جاء القاهرة ليقابل في مبنى السفارة التركية بمصر كل رموز الجماعة، مقابلة رسمية ودبلوماسية.
اختارت إذن الجماعات الدينية في مصر النموذج التركي في العمل السياسي، واختارت معه في أول خروج رسمي لها في مهمة خارج مصر أن تذهب لتركيا لتقديم واجب العزاء في وفاة نجم الدين اربكان زعيم حزب الرفاة، و ربما لا يخلو الأمر أثناء تقديم واجب العزاء من طلب بصيص من النصح وبعض ملامح من مشورة، فهل سيحكم الجيش المصري مصر من خلف كواليس السياسة بقبضة من حديد كما في النموذج التركي، وتكون الأحزاب واجهة مدنية للحكم وتصريف شئون المجتمع، أم أن الوضع سينقلب ليتحول إلى ما يشبه حكم الفقيه في إيران؟ ضبابية السيناريو تجعلنا لا نرجح كفة على أخرى لكون الفعل السياسي مازال في طور التكوين ولكن وبالرغم من عدم القدرة على التكهن ( بجلاء) في تحديد ماهية ما سيؤول له الأمر إلا أنه لا يساورنا شك في أن السيناريو – على هذه الصورة مما نراه اليوم من أوضاع داخل المشهد السياسي المصري - لن يخرج عن مسألتين، حكم الجيش من وراء الكواليس وبقاء الأحزاب ذات المرجعيات الدينية على واجهة العمل السياسي، أو الحكم بمنهج ولاية الفقيه.
الغاضبون إذن في ميدان التحرير وماسبيرو قد اختاروا الشارع، أما الغاضبون ممن خرجوا من ظلمات المعتقل والنفي والتعذيب فقد اختاروا البرلمان، واعتقد أنه يظهر بجلاء مدى فرق العقول في إدارة دفة الغضب عند الطرفين والذي أرى انه كالفرق بين الحالم واليقظ، أو ربما كالفرق بين المتخلف والعبقري.
حزب الوسط، وجماعة الإخوان المسلمون، والجماعة الإسلامية، والسلفيون، والصوفيون، وأخيرا وليس آخراً السيد عبود الزمر الذي أعلن في أول ظهور أعلامي له بإنشاء حزب سياسي يترأس هو قيادته ويكون حزبا لكل المصريين، والسؤال هنا أمام كل هذه الأحزاب ذات المرجعيات الدينية أو القائمة على كيانات دينية ما هي الفروق السياسية التي ستجعل كل منها مختلفا عن الآخر؟ وهل سيكون الاختلاف في صالح الرؤية الفقهية للقائمين على الحزب أم في صالح مصر والسياسة بشكل عام؟ بلا شك ستكون الفروق بينهم هي ذات الفروق الفقهية والمذهبية التي تجعل كل منهم مختلف عن الآخر وإلا لكانوا ببساطة اتفقوا سياسيا فيما بينهم وانضموا جميعا تحت لواء حزب سياسي واحد يضمهم في خدمة مصر بعيدا عن مناهج الأحزاب الأخرى ذات المرجعيات اليسارية ( التجمع ) أو الليبرالية ( الوفد ) أو الناصرية ( العربي ) أو .. إلخ، والتي تتعارض مع ما يؤمنون به من منهج، بل أننا نتساءل أيضا عن لماذا يصر الأخوان المسلمون على سبيل المثال في إنشاء حزب خاص (العدالة و الحرية ) – ولنلاحظ قرب المسمى من حزب العدالة والتنمية التركي – أقول إنشاء حزب سياسي رغم أن حزب الوسط لأبو العلا ماضي غالب مؤسسيه من الإخوان! أي يحملون نفس المنهج!، ما هو الفرق بين حزب يؤسسه إخوان مسلمون وحزب آخر يؤسسه أيضا إخوان مسلمون؟ .. لا يمكن أن يكون الفرق فقط في مجرد الاسم؟ .. وهنا يكمن سؤال آخر وهو هل ينقسم الأخوان على بعضهم في التوجه السياسي ومن ثم ففريق منهم يجنح لحزب كحزب الوسط والآخر يميل لحزب كحزب العدالة والحرية ؟ وما هو التوجه السياسي الذي يختلف عليه كلا الطرفين رغم أنهما يحملان نفس المنهج ؟ أم أنها ( هوجة ) إنشاء الأحزاب؟.. مسألة عجيبة فعلاً!
معلوم أن الأحزاب السياسية تقوم على مبدأ خدمة الدولة، ومن ثم فكل الأحزاب في العالم تقبل عضوية المنتمين إليها على أساس وطني وليس على أساس ديني، هذه هي لعبة السياسة في كل بلدان العالم مع استثناء بسيط لا يتسع المجال هنا لنقده وتحليله، ومن ثم يبرز التساؤل في هل ستقبل الأحزاب المصرية ( الحديثة ) القائمة على كيانات دينية ( سنية ) عضوية مصري ( شيعي ) مهما كان إخلاصه وانتمائه الوطني؟ أو عضوية مصري بهائي، أو عضوية مصري قبطي؟ أو كاثوليكي؟، وهل سيقبل أصحاب الأحزاب القائمة على كيانات دينية ( سنية ) أن يتم إنشاء أحزاب سياسية أخرى يكون أعضاءها من ذوي المرجعيات والخلفيات الشيعية أو البهائية أو البروتستانتية؟؟! إنها بالفعل مسألة في غاية التعقيد.
ومن هنا كانت القوانين الوطنية ملتزمة بعدم إنشاء حزب يكون مؤسسيه أو أعضاءه من أصحاب منهج محدد يقوم على ايدولوجية معينة من شأنها إحداث خلل داخل المجتمع حتى ولو كانت ايدولوجية هؤلاء الناس لاعلاقة لها بالدين، كما نرى في أميركا على سبيل المثال رفضهم لتكوين حزب للشواذ أو حزب لطائفة "المورمن" لأن ذلك من شأنه تفكيك المجتمع لشيع وطوائف تبدأ حراكها حينما تبدأ بأحزاب سياسية لا تلبث أن تتحول لأحزاب طائفية ينتصر القائمين عليها لفئة على فئة من أبناء الوطن الواحد وتتحول ( بشكل آلي وحتمي ) من عراك سن قوانين تحت قبة البرلمان لمعارك ميليشيات مسلحة في القرى والمدن، ونعود بها لعصور القرون الوسطى.
نحن نريد الإجابة على هذا السؤال: هل مستقبل مصر السياسي والإقليمي والدولي سيكون مرهونا بطائفية البرلمان أم مرهونا بوطنيته وانتماء كل المستظلين تحته بدستور البلاد وانتمائهم لمصر؟ هذا ما ستجيب عليه الأيام القليلة المقبلة ونريد منهم أيضاً الإجابة عليه.


الأحزاب الدينية في مصر هل هي بداية لولاية الفقيه؟


mohi_ibraheem
بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
يبدو أن تركيا ( العدالة والتنمية ) لا تريد لأحزاب الاخوان المشابهة لها في مصر أن تقع في نفس خطأ حزب الرفاة التركي، وربما من هذه الزاوية جاءت زيارة عبد الله جول السريعة لمصر رغم وفاة أستاذه اربكان منذ 36 ساعة لحظة وصوله القاهرة ليقابل في مبنى السفارة التركية بمصر كل رموز جماعة الإخوان، مقابلة رسمية ودبلوماسية.
بثورة 25 يناير نالت الجماعات الدينية في مصر حريتها كاملة، بل وحرية تحقيق طموحها السياسي والحزبي والوطني، وأصبحت بين عشية وضحاها من محظورة لمشروعة، بل أنه يمكننا الجزم بأن 25 يناير 2011 هو العصر الذهبي للجماعات الإسلامية في مصر ومن ثم في الوطن العربي والشرق وربما من بعدهما في العالم أجمع.
نحن لسنا ضد أن يخدم مصر أي من أبنائها الشرفاء مهما كانت انتماءتهم العقائدية، فالوطن لا يسأل الفلاح عن ديانته قبل أن يغرس في أعماقه شتله، ولا يضير ماكينة الإنتاج أن كان القائم عليها مؤمن أو غير ذلك، لأن الوطن لا يعرف سوى كونه واحداً بجهد أبنائه وكفاحهم أو صفراً بتناحرهم وتشتتهم ومن ثم فنحن لا نعلم أن كان هذا التاريخ - 25 يناير - سيكون بداية فتح لعهد يتولى فيه أمراء ومرشدي الجماعات الدينية الحكم العادل في البلاد على أسس وطنية أم أنه سيكون بداية لصراعهم المذهبي حول تفعيل مسائلهم الفقهية المختلف عليها فيما بينهم لمحاولة تطبيقها وفرضها على الفعل السياسي من تحت قبة البرلمان؟، أو كصراع دون كيشوت ضد طواحين الهواء يستنزف قوى الوطن والمستقبل دون عائد كما كان يتصارع أمراء المماليك واستنزفوا بصراعهم طيلة أربعة قرون قوى الوطن ومستقبله!.
لا يجوز لنا أن نغض البصر عن مسألة هامة وهي أن دخول أي جماعة دينية بوابة السياسة لممارسة دور سياسي يعني في المقام الأول أن رؤيتهم الدينية والمذهبية للأمور العامة والخاصة هي صلب أجندتهم السياسية وإلا ما جدوى أن يمارسوا السياسة من أصله إن لم يكن لهم هدفا دينيا يؤمنون به ويريدون تفعيله سياسيا ( دنيوياً ) عن طريق صناديق الاقتراع وبصيص الديمقراطية التي ربما تتمتع به أو ستتمتع به دولة ما بعد الثورة.
تركيا هي أول بلد استشعرت واقع الحال في مصر بعد الثورة مباشرة واستشعرت معه – بحسب خبرتها السياسودينية أن جاز لي إطلاق هذا التعبير –استشعرت سيناريوهات الواقع وملامح المستقبل لتلك الجماعات الدينية التي تحررت من المعتقلات بعد الثورة وتريد المشاركة السياسية وممارسة العمل السياسي في مصر بجانب ممارستها للعمل الديني والدعوي، وعلى رأس هذه الجماعات في مصر جماعة الإخوان المسلمون، فحزب العدالة والتنمية التركي هو حزب غالب مؤسسيه وأعضاءه لهم مرجعية دينية تقترب في منهجها من مرجعية أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، وهو حزب قائم على أنقاض حزب الرفاة لزعيمه نجم الدين اربكان، وحزب الرفاة تم تأسيسه سياسيا في ظروف كانت تتطلع فيه تركيا – ومازالت - لأن تُظهر أمام العالم سلوكا ديمقراطياً على النسق الغربي طمعا في رغبة انضمامها لأوروبا، ولهذا ظهر الرفاة بموافقة النظام وقتذاك كدليل على هذه المظاهر الديمقراطية التي كانت بمثابة نقلة ( ثورية ) على المنهج الأتاتوركي ( الكلاسيكي ) للدولة وبداية سطوع شمس العصر الذهبي للجماعات الدينية في تركيا ومشاركتها الفعلية في العملية السياسية هناك حتى رغم أنف الجيش التركي الذي يحكم تركيا من خلف كواليس السياسة بقبضة علمانية من حديد، ولكن وتحت حكمة أن بداية تعلم السير على الأقدام تتخلله الأخطاء التي تؤدي للسقوط فقد سقط الرفاة وتم حرمان اربكان من العمل السياسي حتى مات رغم عطاءه الوطني ورغم أنه يعتبر أبو الاقتصاد التركي الحديث.
أدى سقوط اربكان وسقوط حزبه إلى إعادة ترتيب الأوراق، ومعروف أن أي جماعة دينية في العالم لا تيأس من السقوط أو الهزيمة لكونها محددة الهدف ومؤمنة بقيمة لا تخطئها القلوب ولا تعرف الضمائر فيها معنى الانهزام، وحيث شتان مابين الهزيمة والانهزام، وعليه فإنها تخمد لفترة ثم تعاود الظهور بقوه بعد الخمود – وربما بعد الاعتقال والنفي والتعذيب - مستفيدة من كل أخطاء الماضي التي تحولها لمكاسب لا تعجزها الصراعات، وليظهر من صلب الصراع حزب العدالة والتنمية بقيادة عبد الله جول تلميذ اربكان النجيب وكاتم أسراره والأقرب له في المثل من قرب فتى موسى لمعلمه النبي.
يبدو أن تركيا ( العدالة والتنمية ) لا يريد للأحزاب المشابهة له في مصر أن تقع في نفس خطأ حزب الرفاة التركي حينما قام، وربما – في تقديري - من هذه الزاوية تحديداً كانت زيارة عبد الله جول السريعة لمصر رغم وفاة أستاذه ومعلمه اربكان والذي لم تمر على وفاته 36 ساعة على أقصى تقدير حين جاء القاهرة ليقابل في مبنى السفارة التركية بمصر كل رموز الجماعة، مقابلة رسمية ودبلوماسية.
اختارت إذن الجماعات الدينية في مصر النموذج التركي في العمل السياسي، واختارت معه في أول خروج رسمي لها في مهمة خارج مصر أن تذهب لتركيا لتقديم واجب العزاء في وفاة نجم الدين اربكان زعيم حزب الرفاة، و ربما لا يخلو الأمر أثناء تقديم واجب العزاء من طلب بصيص من النصح وبعض ملامح من مشورة، فهل سيحكم الجيش المصري مصر من خلف كواليس السياسة بقبضة من حديد كما في النموذج التركي، وتكون الأحزاب واجهة مدنية للحكم وتصريف شئون المجتمع، أم أن الوضع سينقلب ليتحول إلى ما يشبه حكم الفقيه في إيران؟ ضبابية السيناريو تجعلنا لا نرجح كفة على أخرى لكون الفعل السياسي مازال في طور التكوين ولكن وبالرغم من عدم القدرة على التكهن ( بجلاء) في تحديد ماهية ما سيؤول له الأمر إلا أنه لا يساورنا شك في أن السيناريو – على هذه الصورة مما نراه اليوم من أوضاع داخل المشهد السياسي المصري - لن يخرج عن مسألتين، حكم الجيش من وراء الكواليس وبقاء الأحزاب ذات المرجعيات الدينية على واجهة العمل السياسي، أو الحكم بمنهج ولاية الفقيه.
الغاضبون إذن في ميدان التحرير وماسبيرو قد اختاروا الشارع، أما الغاضبون ممن خرجوا من ظلمات المعتقل والنفي والتعذيب فقد اختاروا البرلمان، واعتقد أنه يظهر بجلاء مدى فرق العقول في إدارة دفة الغضب عند الطرفين والذي أرى انه كالفرق بين الحالم واليقظ، أو ربما كالفرق بين المتخلف والعبقري.
حزب الوسط، وجماعة الإخوان المسلمون، والجماعة الإسلامية، والسلفيون، والصوفيون، وأخيرا وليس آخراً السيد عبود الزمر الذي أعلن في أول ظهور أعلامي له بإنشاء حزب سياسي يترأس هو قيادته ويكون حزبا لكل المصريين، والسؤال هنا أمام كل هذه الأحزاب ذات المرجعيات الدينية أو القائمة على كيانات دينية ما هي الفروق السياسية التي ستجعل كل منها مختلفا عن الآخر؟ وهل سيكون الاختلاف في صالح الرؤية الفقهية للقائمين على الحزب أم في صالح مصر والسياسة بشكل عام؟ بلا شك ستكون الفروق بينهم هي ذات الفروق الفقهية والمذهبية التي تجعل كل منهم مختلف عن الآخر وإلا لكانوا ببساطة اتفقوا سياسيا فيما بينهم وانضموا جميعا تحت لواء حزب سياسي واحد يضمهم في خدمة مصر بعيدا عن مناهج الأحزاب الأخرى ذات المرجعيات اليسارية ( التجمع ) أو الليبرالية ( الوفد ) أو الناصرية ( العربي ) أو .. إلخ، والتي تتعارض مع ما يؤمنون به من منهج، بل أننا نتساءل أيضا عن لماذا يصر الأخوان المسلمون على سبيل المثال في إنشاء حزب خاص (العدالة و الحرية ) – ولنلاحظ قرب المسمى من حزب العدالة والتنمية التركي – أقول إنشاء حزب سياسي رغم أن حزب الوسط لأبو العلا ماضي غالب مؤسسيه من الإخوان! أي يحملون نفس المنهج!، ما هو الفرق بين حزب يؤسسه إخوان مسلمون وحزب آخر يؤسسه أيضا إخوان مسلمون؟ .. لا يمكن أن يكون الفرق فقط في مجرد الاسم؟ .. وهنا يكمن سؤال آخر وهو هل ينقسم الأخوان على بعضهم في التوجه السياسي ومن ثم ففريق منهم يجنح لحزب كحزب الوسط والآخر يميل لحزب كحزب العدالة والحرية ؟ وما هو التوجه السياسي الذي يختلف عليه كلا الطرفين رغم أنهما يحملان نفس المنهج ؟ أم أنها ( هوجة ) إنشاء الأحزاب؟.. مسألة عجيبة فعلاً!
معلوم أن الأحزاب السياسية تقوم على مبدأ خدمة الدولة، ومن ثم فكل الأحزاب في العالم تقبل عضوية المنتمين إليها على أساس وطني وليس على أساس ديني، هذه هي لعبة السياسة في كل بلدان العالم مع استثناء بسيط لا يتسع المجال هنا لنقده وتحليله، ومن ثم يبرز التساؤل في هل ستقبل الأحزاب المصرية ( الحديثة ) القائمة على كيانات دينية ( سنية ) عضوية مصري ( شيعي ) مهما كان إخلاصه وانتمائه الوطني؟ أو عضوية مصري بهائي، أو عضوية مصري قبطي؟ أو كاثوليكي؟، وهل سيقبل أصحاب الأحزاب القائمة على كيانات دينية ( سنية ) أن يتم إنشاء أحزاب سياسية أخرى يكون أعضاءها من ذوي المرجعيات والخلفيات الشيعية أو البهائية أو البروتستانتية؟؟! إنها بالفعل مسألة في غاية التعقيد.
ومن هنا كانت القوانين الوطنية ملتزمة بعدم إنشاء حزب يكون مؤسسيه أو أعضاءه من أصحاب منهج محدد يقوم على ايدولوجية معينة من شأنها إحداث خلل داخل المجتمع حتى ولو كانت ايدولوجية هؤلاء الناس لاعلاقة لها بالدين، كما نرى في أميركا على سبيل المثال رفضهم لتكوين حزب للشواذ أو حزب لطائفة "المورمن" لأن ذلك من شأنه تفكيك المجتمع لشيع وطوائف تبدأ حراكها حينما تبدأ بأحزاب سياسية لا تلبث أن تتحول لأحزاب طائفية ينتصر القائمين عليها لفئة على فئة من أبناء الوطن الواحد وتتحول ( بشكل آلي وحتمي ) من عراك سن قوانين تحت قبة البرلمان لمعارك ميليشيات مسلحة في القرى والمدن، ونعود بها لعصور القرون الوسطى.
نحن نريد الإجابة على هذا السؤال: هل مستقبل مصر السياسي والإقليمي والدولي سيكون مرهونا بطائفية البرلمان أم مرهونا بوطنيته وانتماء كل المستظلين تحته بدستور البلاد وانتمائهم لمصر؟ هذا ما ستجيب عليه الأيام القليلة المقبلة ونريد منهم أيضاً الإجابة عليه.