‏إظهار الرسائل ذات التسميات سير وتراجم. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات سير وتراجم. إظهار كافة الرسائل

الأحد، 4 مارس 2018

حين تلقى الإمام محمد عبده علقة ساخنة بمسجد الحسين بفتوى من شيخ الأزهر !

mohi_ibraheem

 

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
انتشرت بيننا وفي أوساطنا روح العداوة ضد الأفغاني وضد من يتصلون به من جماعتنا وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده الذي كنا نظن فيه أنه حامل لواء الإلحاد بين الطلبة لقربه من الأفغاني ، ومن ثم حزمنا أمرنا على الإساءة إليهم جميعاً لعلهم يعدلون عن الاتصال بالأفغاني !
 رائد سامق من رواد الإصلاح وعالم جليل من علماء هذا الزمان، أدرك حتى قبل الاحتلال الإنجليزي لمصر أن مصر تحتاج إلى اصلاحات جذرية وأن أول تلك الإصلاحات يجب أن تتركز في اصلاح المؤسسة الدينية، أول تلك الإصلاحات يجب أن تضع عينيها على ألأزهر فقامت عليه قيامة الأزهر.
كان عنيداً فاتفق مع بعض الطلاب على أن يقرأ لهم بعض الكتب في المنطق وعلم الكلام مما لم يكن يُقرأ مثلها في الأزهر فأزداد عدد محبيه من طلبة الأزهر حتى اشتهر بين أقرانه الأمر الذي أغضب الشيخ محمد عليش شيخ المذهب المالكي بالجامع الأزهر عليه خاصة بعدما بلغه أن محمد عبده لا يقرأ كتب المعتزلة والمتكلمين فقط بل ويرجح مذهبهم أيضاً وهو أمر كان يبغضه الشيخ عليش الذي كان - كما يقول العقاد - رجلا صادق النية في كراهة البدع التي يخشى منها على الدين، وعليه أرسل في طلب محمد عبده وناقشه نقاشاً أفضى إلى نزاع وخصومه مؤلمة بينهما، وما زاد من تفاقم هذه الأزمة ذلك الحوار الذي دار بين الشيخ البحيري عضو مجلس إدارة الأزهر وأحد رافضي إصلاح البرامج التعليمية للأزهر وبين الشيخ محمد عبده والذي جاء في الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، الجزء الثالث، ص: 194 حيث قال له الشيخ البحيري: إننا نعلّمهم كما تعلمنا فأجابه الشيخ محمد عبده وهذا الذي أخاف منه ! فرد عليه الشيخ البحيري: ألم تتعلم أنت فى الأزهر، وقد بلغتَ من مراقي العلم وصرت فيه العلم الفرد ؟ وهنا فاجأه الشيخ محمد عبده بقوله: إذا كان لي حظ من العلم الصحيح الذي تذكر، فإنني لم أحصّله إلا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من الأزهر !.. كان هذا الحوار هو القشة التي قصمت ظهر البعير، ويحكي لنا إبراهيم الهلباوي في مذكراته ص: 52 أن الشيخ محمد عبده كان من أهم الأزهريين الذين يداومون الاتصال بالسيد جمال الدين الأفغاني الذي حضر لمصر من الآستانة في مارس 1871 وشاع اسمه بين طلبة الأزهر بالرغم ما كان معروفاً عنه في أروقة الأزهر من أنه ملحداً وأن الأزهر يخاف على الطلبة من التأثر به وبعقيدته وآرائه، وهنا انتشرت بيننا وفي أوساطنا روح العداوة ضد الأفغاني وضد من يتصلون به من جماعتنا وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده الذي كنا نظن فيه أنه حامل لواء الإلحاد بين الطلبة لقربه من الأفغاني ، ومن ثم حزمنا أمرنا على الإساءة إليهم جميعاً لعلهم يعدلون عن الاتصال بالأفغاني، وفي أحد الأيام حين كنا نحضر بعض الدروس في مسجد سيدنا الحسين لمحت الشيخ محمد عبده يصلي صلاة العصر فقطعت الدرس وذهبت للشيخ محمد عليش الذي كان يداوم على أداء صلاة العصر بمسجد الحسين كل يوم وابلغته أن محمد عبده موجود بالجامع بيننا ويصلي بدون وضوء وطلبت منه أن يأذن لي في تأديبه، وكان بجوار الشيخ عليش جمع من العلماء فاستثارتهم دعوتي وبعثوا معي نفراً من الطلاب فلحقنا بالشيخ محمد عبده قبل التسليم وخروجه من الصلاة وسقناه كرهاً للشيخ محمد عليش فوجه إليه تهمة الإلحاد فاستخف الشيخ محمد عبده بهذه التهمة وحين استخف بها سمح الشيخ عليش للمهوسيين من الطلبة الذين كانوا معي أن يطرحوا الشيخ محمد عبده أرضاً ثم ضربناه ضرباً مبرحاً وأخرجناه من المسجد !
ومن طرائف الخصومة مع الشيخ محمد عبده أيضاً أنه في يوم 7 مايو سنة 1884، أصدرت حكومة الاحتلال البريطاني في مصر "القانون نمرة 68"، باستبدال الميضة في الجوامع بصنابير مياة مربوطة بشبكة مياه الشرب التي بدأت الحكومة في تركيبها. على أن يـُلزم ديوان الأوقاف بمصاريف الإحلال ، فعارض هذا القانون علماء مذاهب "الحنابلة والشافعية والمالكية"، بفتوى أن الصنابير بدعة فى الدين، أما الشيخ محمد عبده فكان له رأي مخالف بعدما كان يرى الناس يتوضؤون من نفس الماء الراكد في قناة صغيرة قذرة يرمي فيها السقا الماء فأيد فكرة الصنبور ووقف ضد الأزهر هو ومن وقفوا معه من الأحناف أتباع المذهب الحنفي، الذين أفتوا بأن الوضوء من ماء الصنبور مقبول بل ومستحب ويرفع المشقة عن المسلمين ومن هنا سمى الصنبور بـ"الحنفية"، نسبة إلى المذهب الحنفى، وأصبحت كلمة "الحنفية" دالة على الصنبور أكثر مما تدل على المذهب الديني والسبب كان الشيخ الجليل والمصلح العلاّمة الشيخ محمد عبده.

حين تلقى الإمام محمد عبده علقة ساخنة بمسجد الحسين بفتوى من شيخ الأزهر !

mohi_ibraheem

 

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
انتشرت بيننا وفي أوساطنا روح العداوة ضد الأفغاني وضد من يتصلون به من جماعتنا وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده الذي كنا نظن فيه أنه حامل لواء الإلحاد بين الطلبة لقربه من الأفغاني ، ومن ثم حزمنا أمرنا على الإساءة إليهم جميعاً لعلهم يعدلون عن الاتصال بالأفغاني !
 رائد سامق من رواد الإصلاح وعالم جليل من علماء هذا الزمان، أدرك حتى قبل الاحتلال الإنجليزي لمصر أن مصر تحتاج إلى اصلاحات جذرية وأن أول تلك الإصلاحات يجب أن تتركز في اصلاح المؤسسة الدينية، أول تلك الإصلاحات يجب أن تضع عينيها على ألأزهر فقامت عليه قيامة الأزهر.
كان عنيداً فاتفق مع بعض الطلاب على أن يقرأ لهم بعض الكتب في المنطق وعلم الكلام مما لم يكن يُقرأ مثلها في الأزهر فأزداد عدد محبيه من طلبة الأزهر حتى اشتهر بين أقرانه الأمر الذي أغضب الشيخ محمد عليش شيخ المذهب المالكي بالجامع الأزهر عليه خاصة بعدما بلغه أن محمد عبده لا يقرأ كتب المعتزلة والمتكلمين فقط بل ويرجح مذهبهم أيضاً وهو أمر كان يبغضه الشيخ عليش الذي كان - كما يقول العقاد - رجلا صادق النية في كراهة البدع التي يخشى منها على الدين، وعليه أرسل في طلب محمد عبده وناقشه نقاشاً أفضى إلى نزاع وخصومه مؤلمة بينهما، وما زاد من تفاقم هذه الأزمة ذلك الحوار الذي دار بين الشيخ البحيري عضو مجلس إدارة الأزهر وأحد رافضي إصلاح البرامج التعليمية للأزهر وبين الشيخ محمد عبده والذي جاء في الأعمال الكاملة للإمام الشيخ محمد عبده، الجزء الثالث، ص: 194 حيث قال له الشيخ البحيري: إننا نعلّمهم كما تعلمنا فأجابه الشيخ محمد عبده وهذا الذي أخاف منه ! فرد عليه الشيخ البحيري: ألم تتعلم أنت فى الأزهر، وقد بلغتَ من مراقي العلم وصرت فيه العلم الفرد ؟ وهنا فاجأه الشيخ محمد عبده بقوله: إذا كان لي حظ من العلم الصحيح الذي تذكر، فإنني لم أحصّله إلا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من الأزهر !.. كان هذا الحوار هو القشة التي قصمت ظهر البعير، ويحكي لنا إبراهيم الهلباوي في مذكراته ص: 52 أن الشيخ محمد عبده كان من أهم الأزهريين الذين يداومون الاتصال بالسيد جمال الدين الأفغاني الذي حضر لمصر من الآستانة في مارس 1871 وشاع اسمه بين طلبة الأزهر بالرغم ما كان معروفاً عنه في أروقة الأزهر من أنه ملحداً وأن الأزهر يخاف على الطلبة من التأثر به وبعقيدته وآرائه، وهنا انتشرت بيننا وفي أوساطنا روح العداوة ضد الأفغاني وضد من يتصلون به من جماعتنا وعلى رأسهم الشيخ محمد عبده الذي كنا نظن فيه أنه حامل لواء الإلحاد بين الطلبة لقربه من الأفغاني ، ومن ثم حزمنا أمرنا على الإساءة إليهم جميعاً لعلهم يعدلون عن الاتصال بالأفغاني، وفي أحد الأيام حين كنا نحضر بعض الدروس في مسجد سيدنا الحسين لمحت الشيخ محمد عبده يصلي صلاة العصر فقطعت الدرس وذهبت للشيخ محمد عليش الذي كان يداوم على أداء صلاة العصر بمسجد الحسين كل يوم وابلغته أن محمد عبده موجود بالجامع بيننا ويصلي بدون وضوء وطلبت منه أن يأذن لي في تأديبه، وكان بجوار الشيخ عليش جمع من العلماء فاستثارتهم دعوتي وبعثوا معي نفراً من الطلاب فلحقنا بالشيخ محمد عبده قبل التسليم وخروجه من الصلاة وسقناه كرهاً للشيخ محمد عليش فوجه إليه تهمة الإلحاد فاستخف الشيخ محمد عبده بهذه التهمة وحين استخف بها سمح الشيخ عليش للمهوسيين من الطلبة الذين كانوا معي أن يطرحوا الشيخ محمد عبده أرضاً ثم ضربناه ضرباً مبرحاً وأخرجناه من المسجد !
ومن طرائف الخصومة مع الشيخ محمد عبده أيضاً أنه في يوم 7 مايو سنة 1884، أصدرت حكومة الاحتلال البريطاني في مصر "القانون نمرة 68"، باستبدال الميضة في الجوامع بصنابير مياة مربوطة بشبكة مياه الشرب التي بدأت الحكومة في تركيبها. على أن يـُلزم ديوان الأوقاف بمصاريف الإحلال ، فعارض هذا القانون علماء مذاهب "الحنابلة والشافعية والمالكية"، بفتوى أن الصنابير بدعة فى الدين، أما الشيخ محمد عبده فكان له رأي مخالف بعدما كان يرى الناس يتوضؤون من نفس الماء الراكد في قناة صغيرة قذرة يرمي فيها السقا الماء فأيد فكرة الصنبور ووقف ضد الأزهر هو ومن وقفوا معه من الأحناف أتباع المذهب الحنفي، الذين أفتوا بأن الوضوء من ماء الصنبور مقبول بل ومستحب ويرفع المشقة عن المسلمين ومن هنا سمى الصنبور بـ"الحنفية"، نسبة إلى المذهب الحنفى، وأصبحت كلمة "الحنفية" دالة على الصنبور أكثر مما تدل على المذهب الديني والسبب كان الشيخ الجليل والمصلح العلاّمة الشيخ محمد عبده.

والله العظيم موزون .. في ذكرى ميلاد صلاح عبد الصبور مايو 1931

mohi_ibraheem

 

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
( بعت نفسك بمليم ) قالها له رسام الكاريكاتير " بهجت عثمان" وهو في قمة الغضب لأن إسرائيل إشتركت فى معرض الكتاب الذى تشرف عليه الهيئة المصرية العامة للكتاب التى كان يرأسها صلاح عبد الصبور وقتذاك، لم يتحمل قلب صلاح عبد الصبور تلك الكلمات الثلاث فمات!

 
حنينى غريب .. إلى صحبتى ..إلى أخوتى ..إلى حفنة الأشقياء الظهور ينامون ظهراً على المصطبة .. وقد يحلمون بقصر مشيد .. وباب حديد .. وحورية فى جوار السرير .. ومائدة فوقها ألف صحن .. دجاج وبط وخبز كثير .. إلى أمي البرة الطاهرة .. كلمات أبدعها في قصيدة " المُلك لك "، كانت أمه السيدة اعتدال عثمان الباجوري هي نافذته وعشقه على الشعر والأدب العربي حيث كان والده عبد الصبور يوسف الحواتكي يعمل في وزارة الداخلية وبعيد كل البعد عن الحقل الثقافي.

رفض الالتحاق بكلية الطب والتحق بكلية الآداب قسم اللغة العربية عام 1947 وتتلمذ علي يد الشيخ أمين الخولي أحد أهم الأدباء المصريين وأحد أهم كبار حماة اللغة العربية، ومناضل شارك في ثورة 1919 وحيث نُفي مع سعد زغلول إلى جزيرة سيشيل، وقد رأى حين كان رئيساً لقسم اللغة العربية بكلية الآداب في صلاح عبد الصبور نبوغاً مبكراً فضمه إلى جماعة (الأمناء) التي كوّنها، ثم إلى (الجمعية الأدبية) التي ورثت مهام الجماعة الأولى وحيث كان للجماعتين تأثيراً كبيراً على حركة الإبداع الأدبي والنقدي في مصر.
رغم أن الشاعر المرهف مرسي جميل عزيز كان من أعز اصدقاء عبد الحليم حافظ إلا أن عبد الحليم حافظ حينما تعرف على صلاح عبد الصبور عن طريق مرسي جميل عزيز طلب منه عام 1951 أن يكتب له قصيدة يستطيع بها أن يتقدم لإختبار الإذاعة وبالفعل كتب له صلاح عبد الصبور قصيدة " لقاء" وغناها واجتاز بها اختبار الإذاعة حيث وطدت هذه القصيدة العلاقة بين عبد الحليم وصلاح عبد الصبور بل وتعرف الناس من خلالها على صلاح عبد الصبور نفسه.
بعد خروج الملك فاروق على متن المركب المحروسة في أعقاب ثورة 1952 كان الميلاد الحقيقي للشاعر صلاح عبد الصبور لكن كان عليه أن يخوض حربا شرسة مع حراس عمود الشعر الذين كان على رأسهم عباس محمود العقاد، فقد كان العقاد يحيل قصائد صلاح عبد الصبور إلى لجنة النثر للاختصاص، لا لشئ سوى أنه كان يرى في مثل هذا الشعر شعراً ليس موزونا ، مما دعا صلاح عبد الصبور إلى كتابة مقالة عنونها ( والله العظيم موزون ) ، ونشبت الحرب بين أنصار عمود الشعر وبين أنصار تفعيلته، ولم تكن هذه الحرب بالطبع هي الوحيدة التي خاضها صلاح عبد الصبور، لكنها كانت الأولى، أما آخر الحروب، فقد كانت حربا صغيرةً في منزل أحمد عبد المعطي حجازي، حرباً لم تتعد كلمات ثلاث: ( بعت نفسك بمليم ) قالها له رسام الكاريكاتير " بهجت عثمان" وهو في قمة الغضب لأن إسرائيل إشتركت فى معرض الكتاب الذى تشرف عليه الهيئة المصرية العامة للكتاب التى كان يرأسها صلاح عبد الصبور وقتذاك، لم يتحمل قلب صلاح عبد الصبور تلك الكلمات الثلاث فمات، وربما أتذكر قبل وفاته بعام أو أكثر قليلاً حينما كنا طلبة بالجامعة ونقوم بعمل مسرحيته مسافر ليل ولم أكن أعرفه شخصياً، وجدت صخباً في صالة العرض أثناء البروفة بمسرح الطليعة ويهلل الجميع بأن صلاح عبد الصبور موجوداً فهرعت بمجرد سماع أسمه ناحيته، كنت أتمنى أن أراه وأن أستمع له وهو يتكلم فقد كان بالنسبة لنا جميعاً هرماً عظيما يجسد الأدب العربي المعاصر، كان هزيلاً جداً ولا يترك سيجارته تسقط من يده إذ كان يشعل سيجارة من أخرى، ووقتها دارت معه نقاشات كثيرة كانت تنتقده وربما أتذكر عبارة قطع بها كل الأسئلة التي حاوطته بأن قال بصوت خافت: دعوني أجد ثمن السيجارة التي لا غنى لي عنها فقد أخذ مني السجن والاعتقال كل شئ، كنت صغيراً فلم أستوعب خطابه القصير وحزنه العميق اللاهث، لكن فرحتي بلقائه كانت أعظم من أي لغز شاب هذا اللقاء القصير حيث صعدنا على المسرح لنجري البروفة النهائية لمسرحية مسافر ليل وكلنا فخر أنه يشاهدها على الرغم من أننا وقبل أن ننتهي من البروفة كان قد تسلل في الظلام ورحل .. ولم تمضي شهور على هذا اللقاء إلا وكان قد رحل عن دنيانا للأبد في 13 أغسطس 1981 متأثراً بكلمات رسام الكاريكاتير بهجت عثمان في منزل أحمد عبد المعطي حجازي. ولعنا نتذكر كلماته: الشعر زلتى التى من أجلها هدمت ما بنيت .. من أجلها خرجت .. من أجلها صُلبت .. وحينما عُلقت .. كان البرد والظلمة والرعد .. ترجنى خوفا .. وحينما ناديته، لم يستجب .. عرفت أننى ضُيعتُ ما أضعت "، رحم الله صلاح عبد الصبور.

والله العظيم موزون .. في ذكرى ميلاد صلاح عبد الصبور مايو 1931

mohi_ibraheem

 

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
( بعت نفسك بمليم ) قالها له رسام الكاريكاتير " بهجت عثمان" وهو في قمة الغضب لأن إسرائيل إشتركت فى معرض الكتاب الذى تشرف عليه الهيئة المصرية العامة للكتاب التى كان يرأسها صلاح عبد الصبور وقتذاك، لم يتحمل قلب صلاح عبد الصبور تلك الكلمات الثلاث فمات!

 
حنينى غريب .. إلى صحبتى ..إلى أخوتى ..إلى حفنة الأشقياء الظهور ينامون ظهراً على المصطبة .. وقد يحلمون بقصر مشيد .. وباب حديد .. وحورية فى جوار السرير .. ومائدة فوقها ألف صحن .. دجاج وبط وخبز كثير .. إلى أمي البرة الطاهرة .. كلمات أبدعها في قصيدة " المُلك لك "، كانت أمه السيدة اعتدال عثمان الباجوري هي نافذته وعشقه على الشعر والأدب العربي حيث كان والده عبد الصبور يوسف الحواتكي يعمل في وزارة الداخلية وبعيد كل البعد عن الحقل الثقافي.

رفض الالتحاق بكلية الطب والتحق بكلية الآداب قسم اللغة العربية عام 1947 وتتلمذ علي يد الشيخ أمين الخولي أحد أهم الأدباء المصريين وأحد أهم كبار حماة اللغة العربية، ومناضل شارك في ثورة 1919 وحيث نُفي مع سعد زغلول إلى جزيرة سيشيل، وقد رأى حين كان رئيساً لقسم اللغة العربية بكلية الآداب في صلاح عبد الصبور نبوغاً مبكراً فضمه إلى جماعة (الأمناء) التي كوّنها، ثم إلى (الجمعية الأدبية) التي ورثت مهام الجماعة الأولى وحيث كان للجماعتين تأثيراً كبيراً على حركة الإبداع الأدبي والنقدي في مصر.
رغم أن الشاعر المرهف مرسي جميل عزيز كان من أعز اصدقاء عبد الحليم حافظ إلا أن عبد الحليم حافظ حينما تعرف على صلاح عبد الصبور عن طريق مرسي جميل عزيز طلب منه عام 1951 أن يكتب له قصيدة يستطيع بها أن يتقدم لإختبار الإذاعة وبالفعل كتب له صلاح عبد الصبور قصيدة " لقاء" وغناها واجتاز بها اختبار الإذاعة حيث وطدت هذه القصيدة العلاقة بين عبد الحليم وصلاح عبد الصبور بل وتعرف الناس من خلالها على صلاح عبد الصبور نفسه.
بعد خروج الملك فاروق على متن المركب المحروسة في أعقاب ثورة 1952 كان الميلاد الحقيقي للشاعر صلاح عبد الصبور لكن كان عليه أن يخوض حربا شرسة مع حراس عمود الشعر الذين كان على رأسهم عباس محمود العقاد، فقد كان العقاد يحيل قصائد صلاح عبد الصبور إلى لجنة النثر للاختصاص، لا لشئ سوى أنه كان يرى في مثل هذا الشعر شعراً ليس موزونا ، مما دعا صلاح عبد الصبور إلى كتابة مقالة عنونها ( والله العظيم موزون ) ، ونشبت الحرب بين أنصار عمود الشعر وبين أنصار تفعيلته، ولم تكن هذه الحرب بالطبع هي الوحيدة التي خاضها صلاح عبد الصبور، لكنها كانت الأولى، أما آخر الحروب، فقد كانت حربا صغيرةً في منزل أحمد عبد المعطي حجازي، حرباً لم تتعد كلمات ثلاث: ( بعت نفسك بمليم ) قالها له رسام الكاريكاتير " بهجت عثمان" وهو في قمة الغضب لأن إسرائيل إشتركت فى معرض الكتاب الذى تشرف عليه الهيئة المصرية العامة للكتاب التى كان يرأسها صلاح عبد الصبور وقتذاك، لم يتحمل قلب صلاح عبد الصبور تلك الكلمات الثلاث فمات، وربما أتذكر قبل وفاته بعام أو أكثر قليلاً حينما كنا طلبة بالجامعة ونقوم بعمل مسرحيته مسافر ليل ولم أكن أعرفه شخصياً، وجدت صخباً في صالة العرض أثناء البروفة بمسرح الطليعة ويهلل الجميع بأن صلاح عبد الصبور موجوداً فهرعت بمجرد سماع أسمه ناحيته، كنت أتمنى أن أراه وأن أستمع له وهو يتكلم فقد كان بالنسبة لنا جميعاً هرماً عظيما يجسد الأدب العربي المعاصر، كان هزيلاً جداً ولا يترك سيجارته تسقط من يده إذ كان يشعل سيجارة من أخرى، ووقتها دارت معه نقاشات كثيرة كانت تنتقده وربما أتذكر عبارة قطع بها كل الأسئلة التي حاوطته بأن قال بصوت خافت: دعوني أجد ثمن السيجارة التي لا غنى لي عنها فقد أخذ مني السجن والاعتقال كل شئ، كنت صغيراً فلم أستوعب خطابه القصير وحزنه العميق اللاهث، لكن فرحتي بلقائه كانت أعظم من أي لغز شاب هذا اللقاء القصير حيث صعدنا على المسرح لنجري البروفة النهائية لمسرحية مسافر ليل وكلنا فخر أنه يشاهدها على الرغم من أننا وقبل أن ننتهي من البروفة كان قد تسلل في الظلام ورحل .. ولم تمضي شهور على هذا اللقاء إلا وكان قد رحل عن دنيانا للأبد في 13 أغسطس 1981 متأثراً بكلمات رسام الكاريكاتير بهجت عثمان في منزل أحمد عبد المعطي حجازي. ولعنا نتذكر كلماته: الشعر زلتى التى من أجلها هدمت ما بنيت .. من أجلها خرجت .. من أجلها صُلبت .. وحينما عُلقت .. كان البرد والظلمة والرعد .. ترجنى خوفا .. وحينما ناديته، لم يستجب .. عرفت أننى ضُيعتُ ما أضعت "، رحم الله صلاح عبد الصبور.

الخميس، 30 مارس 2017

ضم سيناء لمصر - هل كان الخديوي عباس حلمي أكثر وطنية من مصطفى كامل ؟

mohi_ibraheem

 

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
التهامي كان أهم شخصية وقفت بجوار ( السادات ) في ثورة التصحيح عام 1971 وهو أيضاً أحد أهم أعضاء المحكمة التي صدر لها قرار جمهوري بتشكيلها في الحادي والعشرين من يوليو تموز 1971 حيث أنتقم فيها حسن التهامي من كل خصوم السادات
كانت مسألة سيادة مصر على كامل شبه جزيرة سيناء مسألة كاشفة لكل الوطنيين والثوار في مصر عام 1906 وليست حادثة دنشواي كما يروج البعض، بل أن حادثة دنشواي – في تقديري - تم استخدامها للتخلص من الخصوم السياسيين الذين اختلفوا فيما بينهم حول مسألة أن سيناء ( عثمانية ) وتحت سيادة الدولة العثمانية وكان على رأس هؤلاء مصطفي كامل ومحمد فريد وإبراهيم الهلباوي بدعم من تركيا وبين من لهم رأي انها مصرية للنخاع بدعم من الخديوي.
المدهش أن الخديوي عباس حلمي الثاني في هذه المسألة تحديداً كان أكثر وطنية من الزعيم مصطفى كامل الذي أحبه وتبناه وذهب به لفرنسا كي يكمل تعليمه العالي وأسس معه بل وترأس الحزب الوطني منذ أن كان جمعية سرية وطنية ضد الأنجليز عكس مايذكره بعض المؤرخون في أن مصطفى كامل كان هو رئيس الحزب الوطني، لكن وبسبب الخلاف الذي دار حول ( سيادة مصر على سيناء ) الذي وصل لدرجة تجهيز جيش مصري ضد الدولة العثمانية غضب عباس حلمي من موقف مصطفى كامل ومنع عنه مصاريف البعثة التعليمية وكذلك منع مقالاته بالكامل في جريدة المؤيد. 
لقد كان عباس حلمي ضد تركيا واحتلال الإنجليز وهو ما دفع ثمنه غالياً بتخليه قهراً عن العرش بل وطرده من مصر على يد الإنجليز نهائياً بعد الحرب العالمية الأولى وموقفه من جلاء الإنجليز عن مصر وهو الأمر الذي جعل المصريين يضعونه في مكانة خاصة حتى أنهم ظلوا يرددون حتى وفاته في 19 /12 / 1944 ( الله حي عباس جاي ) ليغيظوا به الأنجليز، فماهي مسألة سيناء التي أطاحت بالثوار والوطنيين وخلقت فتنة ربما مازالت توابعها تحيا معنا حتى الآن؟
بعد تولي عباس حلمي مقاليد الحكم في مصر، أرادت تركيا إخراج جزيرة سيناء من فرمان التولية وهو الفرمان الذي حصل عليه محمد علي باشا بعد انتصاره على تركيا في 2 ربيع الآخر سنة 1257 هجرية بتصديق من انجلترا والنمسا وروسيا وبروسيا وكانت فحواه على لسان الخليفة العثماني لمحمد علي باشا: ( أبقي في عهدتكم – بطريق الإمتياز – إدارة مصر المحدودة بحدودها القديمة المعينة بالخريطة المختومة بختم الصدارة )، ويقول أحمد شفيق باشا في مذكراته أن الخريطة تحدد حدود مصر الشرقية من العريش شمالاً في خط مستقيم حتى مدينة السويس ويبقى شرق هذا الخط أراضي ولاية الحجاز وسورية مع عدم قبول تعيين الحدود في أرض تم تركها لمصر مع امكانية استرداد تركيا لها.
بإختصار رفض عباس حلمي ذلك الأمر وأعتبره انتقاص من قدر مصر خاصة فيما تعلق بمسألة الجيش المصري وأنه مجرد قوة معدودة من القوة العمومية العثمانية بل وشعب مصر مجرد شعب تابع للرعوية العثمانية.
برفض عباس حلمي أرسلت له تركيا رسالة مفادها : ( يجب العلم أن من حق الدولة العلية إرسال عساكرها لغاية جبهة السويس )، وهنا قرر عباس حلمي بدعم من إنجلترا إرسال البارجة العسكرية ( ديانا ) إلى جزيرة فرعون بالقرب من مدينة طابا وإحتلالها وإرسال عساكر لمدينة العقبة وقرية المرشرش ( المعروفة حالياً بأم الرشراش ) ليفرض أمر واقع في حدود مصر الشرقية بقوة السلاح وحماية الملاحة في قناة السويس من أي تدخل عسكري تركي من جهة الشرق وهنا جن جنون مصطفى كامل الذي أعتبر ذلك ( مروقاً ) على دولة الخلافة وظل يكتب في جريدة ( المؤيد ) مقالات يثير فيها الشعب ضد عباس حلمي ويؤكد على أهمية تبعية مصر لتركيا وأن مسألة ترسيم الحدود الشرقية لا تعني سوى فرض الحماية الإنجليزية على مصر التي هي في الأصل ولاية عثمانية ولابد أن تظل ولاية عثمانية حيث أعلن تأييده لحقوق تركيا على سيناء ، حتى بعد أنْ انتهتْ الأزمة - حسبما ورد في مقال قصير للباحث المصري طلعت رضوان - لقد كتب مصطفى كامل فى افتتاحية جريدة اللواء (22/4/1906) أنّ ((مصر لا ولاية لها على سيناء ، وأنّ الفرامانات التى تـُعطى لمصر سلطة إدارة سيناء إجراءات مؤقتة لا تؤثر فى الحق العثمانى الأصيل)) وفى عدد 8 مايو1906 كتب مقالا آخر قال فيه إنّ ((حادث طابا يجب أنْ يُنظر إليه على أنه خلاف بين دولة مُحتلة بالاغتصاب هى بريطانيا ، ودولة هى صاحبة السيادة على مصر هى تركيا)). وأنا أرى من خلال بحثي أن ذلك قد أغضب كثيراً من الثوار والوطنيين المعاصرين وقتذاك لمصطفى كامل وعلى رأسهم كما سبق وأسلفنا الخديو عباس حلمي فمنعه من الكتابة في جريدة المؤيد وأصر على موقفه من ترسيم الحدود حتى ولو أدى ذلك للحرب مع تركيا.
بإيجاز شديد انتهت المسألة بانسحاب الأترك من طابا في مايو سنة 1906، وتأليف لجنة مصرية تركية لتسوية مسألة الحدود على قاعدة معاهدة لندن سنة 1840 وتلغراف 8 أبريل سنة 1892 المرسل إلى الخديوي عباس الثاني والذي خول مصر ادارة شبه جزيرة طور سيناء، وانتهت اللجنة من عملها في 1 أكتوبر سنة 1906، إذ تم الاتفاق على الحدود الشرقية على أن تكون خطا ممتداً من رفح على البحر الأبيض المتوسط إلى نقطة واقعة غربي العقبة بثلاثة أميال، وبقيت طابا ضمن أملاك مصر والعقبة من أملاك تركيا.

ضم سيناء لمصر - هل كان الخديوي عباس حلمي أكثر وطنية من مصطفى كامل ؟

mohi_ibraheem

 

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
التهامي كان أهم شخصية وقفت بجوار ( السادات ) في ثورة التصحيح عام 1971 وهو أيضاً أحد أهم أعضاء المحكمة التي صدر لها قرار جمهوري بتشكيلها في الحادي والعشرين من يوليو تموز 1971 حيث أنتقم فيها حسن التهامي من كل خصوم السادات
كانت مسألة سيادة مصر على كامل شبه جزيرة سيناء مسألة كاشفة لكل الوطنيين والثوار في مصر عام 1906 وليست حادثة دنشواي كما يروج البعض، بل أن حادثة دنشواي – في تقديري - تم استخدامها للتخلص من الخصوم السياسيين الذين اختلفوا فيما بينهم حول مسألة أن سيناء ( عثمانية ) وتحت سيادة الدولة العثمانية وكان على رأس هؤلاء مصطفي كامل ومحمد فريد وإبراهيم الهلباوي بدعم من تركيا وبين من لهم رأي انها مصرية للنخاع بدعم من الخديوي.
المدهش أن الخديوي عباس حلمي الثاني في هذه المسألة تحديداً كان أكثر وطنية من الزعيم مصطفى كامل الذي أحبه وتبناه وذهب به لفرنسا كي يكمل تعليمه العالي وأسس معه بل وترأس الحزب الوطني منذ أن كان جمعية سرية وطنية ضد الأنجليز عكس مايذكره بعض المؤرخون في أن مصطفى كامل كان هو رئيس الحزب الوطني، لكن وبسبب الخلاف الذي دار حول ( سيادة مصر على سيناء ) الذي وصل لدرجة تجهيز جيش مصري ضد الدولة العثمانية غضب عباس حلمي من موقف مصطفى كامل ومنع عنه مصاريف البعثة التعليمية وكذلك منع مقالاته بالكامل في جريدة المؤيد. 
لقد كان عباس حلمي ضد تركيا واحتلال الإنجليز وهو ما دفع ثمنه غالياً بتخليه قهراً عن العرش بل وطرده من مصر على يد الإنجليز نهائياً بعد الحرب العالمية الأولى وموقفه من جلاء الإنجليز عن مصر وهو الأمر الذي جعل المصريين يضعونه في مكانة خاصة حتى أنهم ظلوا يرددون حتى وفاته في 19 /12 / 1944 ( الله حي عباس جاي ) ليغيظوا به الأنجليز، فماهي مسألة سيناء التي أطاحت بالثوار والوطنيين وخلقت فتنة ربما مازالت توابعها تحيا معنا حتى الآن؟
بعد تولي عباس حلمي مقاليد الحكم في مصر، أرادت تركيا إخراج جزيرة سيناء من فرمان التولية وهو الفرمان الذي حصل عليه محمد علي باشا بعد انتصاره على تركيا في 2 ربيع الآخر سنة 1257 هجرية بتصديق من انجلترا والنمسا وروسيا وبروسيا وكانت فحواه على لسان الخليفة العثماني لمحمد علي باشا: ( أبقي في عهدتكم – بطريق الإمتياز – إدارة مصر المحدودة بحدودها القديمة المعينة بالخريطة المختومة بختم الصدارة )، ويقول أحمد شفيق باشا في مذكراته أن الخريطة تحدد حدود مصر الشرقية من العريش شمالاً في خط مستقيم حتى مدينة السويس ويبقى شرق هذا الخط أراضي ولاية الحجاز وسورية مع عدم قبول تعيين الحدود في أرض تم تركها لمصر مع امكانية استرداد تركيا لها.
بإختصار رفض عباس حلمي ذلك الأمر وأعتبره انتقاص من قدر مصر خاصة فيما تعلق بمسألة الجيش المصري وأنه مجرد قوة معدودة من القوة العمومية العثمانية بل وشعب مصر مجرد شعب تابع للرعوية العثمانية.
برفض عباس حلمي أرسلت له تركيا رسالة مفادها : ( يجب العلم أن من حق الدولة العلية إرسال عساكرها لغاية جبهة السويس )، وهنا قرر عباس حلمي بدعم من إنجلترا إرسال البارجة العسكرية ( ديانا ) إلى جزيرة فرعون بالقرب من مدينة طابا وإحتلالها وإرسال عساكر لمدينة العقبة وقرية المرشرش ( المعروفة حالياً بأم الرشراش ) ليفرض أمر واقع في حدود مصر الشرقية بقوة السلاح وحماية الملاحة في قناة السويس من أي تدخل عسكري تركي من جهة الشرق وهنا جن جنون مصطفى كامل الذي أعتبر ذلك ( مروقاً ) على دولة الخلافة وظل يكتب في جريدة ( المؤيد ) مقالات يثير فيها الشعب ضد عباس حلمي ويؤكد على أهمية تبعية مصر لتركيا وأن مسألة ترسيم الحدود الشرقية لا تعني سوى فرض الحماية الإنجليزية على مصر التي هي في الأصل ولاية عثمانية ولابد أن تظل ولاية عثمانية حيث أعلن تأييده لحقوق تركيا على سيناء ، حتى بعد أنْ انتهتْ الأزمة - حسبما ورد في مقال قصير للباحث المصري طلعت رضوان - لقد كتب مصطفى كامل فى افتتاحية جريدة اللواء (22/4/1906) أنّ ((مصر لا ولاية لها على سيناء ، وأنّ الفرامانات التى تـُعطى لمصر سلطة إدارة سيناء إجراءات مؤقتة لا تؤثر فى الحق العثمانى الأصيل)) وفى عدد 8 مايو1906 كتب مقالا آخر قال فيه إنّ ((حادث طابا يجب أنْ يُنظر إليه على أنه خلاف بين دولة مُحتلة بالاغتصاب هى بريطانيا ، ودولة هى صاحبة السيادة على مصر هى تركيا)). وأنا أرى من خلال بحثي أن ذلك قد أغضب كثيراً من الثوار والوطنيين المعاصرين وقتذاك لمصطفى كامل وعلى رأسهم كما سبق وأسلفنا الخديو عباس حلمي فمنعه من الكتابة في جريدة المؤيد وأصر على موقفه من ترسيم الحدود حتى ولو أدى ذلك للحرب مع تركيا.
بإيجاز شديد انتهت المسألة بانسحاب الأترك من طابا في مايو سنة 1906، وتأليف لجنة مصرية تركية لتسوية مسألة الحدود على قاعدة معاهدة لندن سنة 1840 وتلغراف 8 أبريل سنة 1892 المرسل إلى الخديوي عباس الثاني والذي خول مصر ادارة شبه جزيرة طور سيناء، وانتهت اللجنة من عملها في 1 أكتوبر سنة 1906، إذ تم الاتفاق على الحدود الشرقية على أن تكون خطا ممتداً من رفح على البحر الأبيض المتوسط إلى نقطة واقعة غربي العقبة بثلاثة أميال، وبقيت طابا ضمن أملاك مصر والعقبة من أملاك تركيا.

الأربعاء، 6 يوليو 2016

أسرار وتفاصيل الأزمة بين جمال عبد الناصر ومحمود أبو الفتح


mohi_ibraheem
بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
بداية الأزمة لم تكن عام 1954 بل كانت عام 1952 وتحديداً ليلة 4 أغسطس بعد قيام الثورة في منزل أحمد فؤاد أحد الضباط الأحرار حيث اجتمع محمود أبو الفتح على الغذاء مع جمال عبد الناصر ويوسف صديق وخالد محيي الدين وإبراهيم طلعت وعبد الحكيم عامر ودار بينهم حديث طويل حول نظام الحكم بعد نجاح الثورة وعزل الملك. 
هل يعقل أن يكون جثمان أول نقيب للصحفيين المصريين وأهم شخصية ثورية قاومت الإنجليز وشاركت في ثورة 23 يوليو 1952 مدفوناً في تونس ولا تطالب نقابة الصحفيين المصريين بعودة رفات نقيبها الأول لترقد في تراب الوطن الذي عاش ومات من أجله !! .. هل نحن أمة تأكل أبنائها ؟؟ وما هي القصة ؟؟
ابتداءً لم يكن محمود أبو الفتح أول نقيب للصحفيين المصريين بل وأول نقيب للصحفيين في الشرق عموماً .. لم يكن صديقاً للرئيس جمال عبد الناصر من قريب أو من بعيد لا قبل الثورة ولا بعدها كما يزعم كثير ممن تناولوا قصة حياته، وربما لو كانوا سألوا أخيه الأصغر " أحمد أبو الفتح " قبل وفاته عام 2004 م لأجابهم ببساطة أن جمال عبد الناصر لم تجمعه بمحمود أبو الفتح أي علاقة فجمال عبد الناصر في عام ميلاده ( 15 يناير 1918 ) كان وقتها محمود أبو الفتح يبلغ من العمر 26 عاماً وملازماً لسعد باشا زغلول وواحداً ممن فجروا ثورة 1919 وواحداً من الوفد المصري الملازم لسعد باشا زغلول في رحلته لإنجلترا وأن بداية علاقة جمال عبد الناصر الحقيقية بعائلة " أبو الفتح " كانت عن طريق "إبراهيم طلعت " أحد أهم الوفديين قبل ثورة 23 يوليو وبعدها حيث كان صديقاً لجمال عبد الناصر أو ربما أهم أصدقائه وهو الذي من خلاله تم التعارف بين " أحمد أبو الفتح " الأخ الأصغر لمحمود أبو الفتح ورئيس تحرير جريدة المصري وبين "جمال عبد الناصر" إذ كان "إبراهيم طلعت" يعيش في الإسكندرية ولما كان ينزل للقاهرة كان يفضل عقد لقاءاته في حديقة جريدة المصري ( لسان حال الوفد ) ومن هنا تعرف جمال عبد الناصر على آل أبو الفتح وصار صديقاً لأحمد أبو الفتح بل وكان لا يفضل شرب القهوة إلا في حديقة جريدة المصري حتى في حالة عدم وجود " ابراهيم طلعت " ويسهر فيها مع غالب محرريها وعلى رأسهم " أحمد أبو الفتح " الذي ترك له أخيه الأكبر " محمود أبو الفتح " رئاسة تحريرها تحت رئاسة إدارتها لأخيهم الأوسط " حسين أبو الفتح " بعدما تفرغ هو لأن يكون رجل أعمال بعيداً عن الصحافة، بل ومن المدهش بعد أن توطدت العلاقة بين جمال عبد الناصر وأحمد أبو الفتح كانت دار جريدة " المصري" تعقد فيها الاجتماعات السرية للضباط الأحرار، ومن مطابعها كانت تخرج بياناتهم، وفيها يحتفظون بسلاحهم الخفيف بحضور أحمد أبو الفتح ومشاركته الشخصية، كما عقدت فيها جميع مراحل التخطيط لثورة 23 يوليو حتى أنه ذات ليلة، وقد اقترب موعد تنفيذ الثورة والضباط مجتمعون في جريدة "المصري"، هرع رجل الى الداخل وأبلغ أحمد أبو الفتح المتزوج من شقيقة ثروت عكاشة، قائد فوج الفرسان في معركة الضباط الأحرار ان البوليس السري يراقب الدار، فأسرع أحمد الى اخبار جمال عبد الناصر ورفاقه الذين تسللوا من الباب الخلفي للجريدة قبل أن يدخل البوليس الحربي ويفتش غرف دار الجريدة ويعود دون أي دليل، هذه إحدى القصص بين أحمد أبو الفتح وجمال عبد الناصر أما محمود أبو الفتح فإن أي كلام عن صداقة بينه وبين جمال عبد الناصر هي محض خيالات.
السؤال إذن ماهو السبب وراء الأزمة التي قامت بين آل أبو الفتح وجمال عبد الناصر جعلت عبد الناصر يرفض عودة جثمان محمود أبو الفتح عام 1958 ليتم دفنه في مصر ؟
يقول غالب من تعرض بالتحليل للأزمة بين عبد الناصر وعائلة أبو الفتح وعلى رأسهم محمود أبو الفتح أنها بدأت مع أزمة مارس 1954 حيث سار التساؤل: هل تستمر الثورة في الحكم؟ وقد تزعم هذا الجانب مجلس قيادة الثورة، أو هل يعود الجيش إلى ثكناته؟، وقد تزعم هذا الجانب محمد نجيب، وخالد محيى الدين، ويوسف صديق، وكانت جريدة "المصرى" في جانب الشعب والديمقراطية، وحاول وقتها أحمد أبو الفتح، وإحسان عبد القدوس، إقناع عبد الناصر بحل وسط وهو أن تتحول الثورة إلى حزب ديمقراطى يكتسح الانتخابات، لكن مجلس قيادة الثورة رفض ذلك العرض، وتم تحديد إقامة محمد نجيب، واعتقال يوسف صديق، وسافر محيى الدين إلى الخارج، وتم اتهام الأخوين محمود أبو الفتح وأخيه حسين أبو الفتح بأنهما "أتيا أفعالًا ضد سلامة الوطن ومن شأنها إفساد أداة الحكم"، وكانت تهمة محمود أبو الفتح أنه "في غضون سنة 1954 قام بدعايات واتصالات في الخارج ضد نظام الحكم القائم بغرض تقويض النشاط القومي للبلاد وإغراء موظفًا عموميًا بطرق غير مشروعة على المساهمة في إتمام صفقة تجارية لمصلحته الذاتية" وقد صدر الحكم بسجن محمود أبو الفتح ـ الذي كان متغيبًا بأوروبا ـ عشر سنوات ومصادرة 358,438 جنيهًا من أمواله، ومعاقبة حسين أبو الفتح بالحبس خمسة عشر سنة مع إيقاف التنفيذ، وطبقا لهذا الحكم عُطلت جريدة المصري منذ يوم 5 مايو 1954.
لكن، هل هذه القصة هي القصة الحقيقية وراء أزمة ( آل أبو الفتح – عبد الناصر ) أم أن هناك تفاصيل أخرى؟
في تقديري أن بداية الأزمة لم تكن عام 1954 بل كانت عام 1952 وتحديداً ليلة 4 أغسطس بعد قيام الثورة بأقل من أسبوعين في منزل أحمد فؤاد أحد الضباط الأحرار والضابط المسئول عن الشئون الثقافية لقسم الجيش في حركة ( حدتو ) الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني قبل قيام ثورة 23 يوليو حيث اجتمع على الغذاء بمنزله كل من جمال عبد الناصر ويوسف صديق وخالد محيي الدين وإبراهيم طلعت وعبد الحكيم عامر ودار بينهم حديث طويل حول نظام الحكم بعد نجاح الثورة وعزل الملك وتم الاتفاق على ضرورة عودة الحياة الدستورية بما يحقق الحرية والديمقراطية وإجراء انتخابات حرة الغرض منها قيام مجلس النواب الذي يجب أن يمثل الشعب تمثيلاً حقيقياً ومن ثم وجوب دعوة البرلمان المنحل للانعقاد بمجلسيه الشيوخ والنواب لإقرار عزل الملك وإضفاء المشروعية على الثورة، وقد نقل " إبراهيم طلعت " هذا الكلام بالحرف لأحمد أبو الفتح في حضور جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر في حديقة جريدة المصري يوم 10 أغسطس 1952 م، الأمر الذي دفع أبو الفتح لأن يطرق صامتاً ولم يعلق خاصة بعد سماعه مسألة قانون تحديد الملكية الزراعية من جمال عبد الناصر، وفي يوم 11 أغسطس وفي كافيتريا ( البافيون ) بمصر الجديدة تقابل أحمد أبو الفتح مع أبراهيم طلعت وصارحه بأنه خائف وحين سأله أبراهيم عن سبب خوفه أجاب: ما أعرفش .. إحساس عندي .. كل ( اللغوصة ) اللي بتحصل في البلد دي ! ولكن بالرغم من خوف أحمد أبو الفتح كان هو الوحيد في مصر الذي انفردت جريدته يوم 12 أغسطس 1952م بنشر نص مشروع تحديد الملكية الزراعية تحت عنوان " نص مشروع قانون تحديد الملكية الزراعية الذي قدمه مجلس الثورة للوزارة لإصداره ) وكان ذلك العنوان هو القشة التي قصمت ظهر البعير !
بعد نشر الخبر 12 اغسطس وفي تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً فوجئ إبراهيم طلعت بأحمد أبو الفتح على رأسه في غرفته بالفندق وهو يصيح في وجهه : رحنا في داهية يا إبراهيم !!
كانت الداهية التي يصيح بها أحمد أبو الفتح في وجه إبراهيم طلعت مصدرها حفل وضع حجر الأساس لمبنى الإذاعة الجديد بحضور "محمد نجيب" الذي سبقه لمكان الأحتفال " علي باشا ماهر" رئيس الحكومة وهو في حالة عصبية وانفعال شديد ليخبر محمد نجيب عن أن جريدة المصري قد نشرت خبراً ( مكذوباً ) حول مشروع قانون الملكية الزراعية في محاولة منها لدس الفتنة بين الوزارة ومجلس قيادة الثورة. 
لم يكن "محمد نجيب" على علم بكل ما دار بالأمس بين جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وإبراهيم طلعت وأحمد أبو الفتح ومن ثم صرح في الميكرفون للصحفيين الموجودين أمامه أن ما نشرته جريدة المصري صباح 12 أغسطس هو عار تماماً من الصحة وكاذب جملة وتفصيلاً وأنه من خيال هذه الجريدة وطلب تكذيباً رسمياً للخبر، وهنا وكما يقول إبراهيم طلعت في مذكراته أهتزت الدنيا ولم تقعد.
ولكن كيف كان اهتزاز الدنيا التي قامت؟
قرر محمد نجيب أن تنشر جريدة الزمان تكذيباً على لسانه بأن مجلس قيادة الثورة لا علاقة له بما نشرته جريدة المصري وأنه لا مشروع إطلاقاً لمسألة تحديد الملكية الزراعية، وفي مساء نفس يوم 12 أغسطس، تقابل أحمد أبو الفتح وابراهيم طلعت مع جمال عبد الناصر في مكتبه بمجلس قيادة الثورة وتحدثوا معه عن الفضيحة التي ستتلقاها جريدة المصري حيث تم انتهاء جريدة الزمان من اصدار طبعتها الأولى التي تحمل في المانشيت الرئيسي لها تكذيب "محمد نجيب" لمشروع تحديد الملكية الزراعية، لكن لم يدر بخلدهما أبداً وسط ابتسامة جمال عبد الناصر الهادئة والمطمئنة أنه قد تم سحب كل نسخ الطبعة الأولي لجريدة الزمان ومصادرة كل ما طبع منها على رأس قوة من الجنود بقيادة الصاغ عبد المنعم النجار ( سفير مصر في باريس وبغداد فيما بعد ) وإعادة طبعها من جديد بمانشيت رئيسي مختلف يحمل عنوان : ما نشرته جريدة المصري هو نص المشروع الذي قدمه مجلس قيادة الثورة للحكومة لإصدارة.
مذهولان خرج كل من أحمد أبو الفتح وإبراهيم طلعت من مكتب جمال عبد الناصر حيث نظر ابراهيم طلعت لأحمد أبو الفتح قائلاً : أنا الآن يا أحمد أستطيع القول بأني اشاركك الخوف الذي انتابك يوم أمس .. فما حدث بجريدة الزمان النهاردة من المحتم أن يحدث لجريدة المصري غداً.
كانت آثار نشر خبر تحديد الملكية على الناس شبه كارثي، فقد أثار بتفاصيله في جريدة المصري اضطرابات ومظاهرات عنيفة في الأوساط العمالية بمصر سقط فيها قتلى حتى كادت تصل هذه الإضطرابات إلى حد الفوضى، كانت كل تلك الأمور قد وصلت لعلم محمود أبو الفتح الأخ الأكبر لأحمد أبو الفتح وكان وقتها رجل أعمال وأدرك بحسه الصحفي أن هناك أزمة داخل مجلس قيادة الثورة نفسه حول محمد نجيب والوزارة الحالية بقيادة علي باشا ماهر الذي يرى جمال عبد الناصر أنه يريد الإنفراد بالسلطة ولذلك فهو يرحب بتولي الدكتور عبد الرزاق السنهوري رئاسة الحكومة بدلاً من "علي ماهر" رغم فتوى " السنهوري" الكارثية هو وسليمان حافظ بعدم إعمال النص الدستوري بدعوة مجلس النواب المنحل بعد عزل الملك، بل وإلغاء الدستور نفسه وعمل دستور جديد يتفق مع المناخ الثوري الجديد بهوى من فتحي رضوان وحسن الهضيبي، وهنا قرر محمود الفتح السفر إلى سويسرا عن طريق لبنان فقد كانت أعماله في مصر شبه متوقفة بسبب حالة عدم الأستقرار في بيزنس المال والأعمال الذي صاحب قيام الثورة وبالفعل غادر مصر ربما في شهر مايو عام 1953م وكان نقيب الصحفيين المصريين وقتها أخيه الأوسط حسين أبو الفتح.
في لبنان تقابل مع "زهير عسيران " - نقيب الصحافيين اللبنانيين فيما بعد - الذي كانت تربطه بعائلة أبو الفتح صلة صداقة انسانية ومهنية، وحين وصل محمود أبو الفتح لبيروت كان "زهير عسيران" يستعد للسفر إلى مصر حيث عهد إليه "عفيف الطيبي" نقيب الصحافيين اللبنانيين وقتذاك لإلقاء كلمة الصحافيين اللبنانيين في احتفال مصر بعيد الثورة الأول يوليو 1953.
علم "محمود أبو الفتح" من "زهير عسيران" بعد عودته من مصر بأنه ألقى كلمة صحافة لبنان بنصها الأصلي متجاهلا علامات الاستفهام والتعديل التي قام بها الرقيب المصري الذي فرضته الثورة على كل وسائل الإعلام في مصر وقتذاك، وأنه بوصوله الى الكلام عن الحرية وحق الشعوب في ان تحكم نفسها بنفسها اشتعلت القاعة بالتصفيق ، وأضاف "زهير عسيران" بأنه بعد أن أنهى كلمته نهض محمد نجيب في نهاية المؤتمر فشكر الوفود الصحافية ثم تحدّث عن الحرية، "وأن لمصر تاريخ طويل معها ومع الاستعمار، وأن "محمد نجيب" قال ذلك بنبرة قوية وشجاعة، دفعت "زهير عسيران" للتساؤل في إما ان الرئيس محمد نجيب اراد ان يزايد على كلمته ليفهم الحاضرين ان الحرية بخير، أو ان الرقيب الذي عينته الثورة يتبع سلطة خارجة عن ارادة محمد نجيب".
ويقول "زهير عسيران" في مذكراته : وتبين لي في ما بعد ان استنتاجي كان في محله وأن هناك خلاف داخل رجال الثورة أنفسهم حول قيادة محمد نجيب.
اتصل محمود أبو الفتح من بيروت بأخيه حسين أبو الفتح ( نقيب الصحافيين المصريين ) ودعاه لنشر كلمة "زهير عسيران" التي ألقاها في احتفالات الثورة بعيدها الأول بجريدة "المصري" فصدرت في مقالات "لأحمد أبو الفتح" تحت عنوان "حكم الشعب"، وهنا يقول "أحمد أبو الفتح" : ألم يكن الاتفاق بين أصحاب جريدة "المصري" والضباط الأحرار ان تعود الحياة البرلمانية الديموقراطية بعد نجاح الثورة، وهو الأمر الذي لم يرضى عنه الضباط الأحرار ومقالات استوجبت عقد اجتماع بين جمال عبد الناصر وأحمد أبو الفتح في منزل ثروت عكاشة شقيق زوجة أبو الفتح، وانتهى اللقاء إلى خلاف حاد في الرأي عندما أصر أحمد أبو الفتح على رأيه وعلى مقالاته التي تدعو بوجوب عودة الحياة البرلمانية فورا الى مصر، وبتحدي حقيقي ضد جمال عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة وبمباركة من محمود أبو الفتح المتواجد في بيروت وقتها استمرت "المصري" في موقفها المطالب بأن يعود الحكم الى الشعب بعد نجاح الثورة، وحين علم محمود ابو الفتح بأن هناك نية لإسكات صوت جريدة "المصري" قرر أن ينتقل بها لبيروت لكن الوقت كان قد فات وتم مصادرتها ومصادرة مطابعها.
من خلال صداقة "محمود أبو الفتح" بكل الصحافيين العرب ونقبائهم قرر أن يشن حملة صحفية من بيروت ويبدأها من خلال جريدة "الهدف" لصاحبها "زهير عسيران" .. كانت حملة قاسية ( من وجهة نظر محمود أبو الفتح ) على عبد الناصر الذي غيّر موقفه من رفاقه وخصوصا جريدة "المصري" وأصحابها، وفي عام 1954 م قرر جمال عبد الناصر أمام هذه الحملة تجريد محمود أبو الفتح من جنسيته المصرية والحكم عليه في محكمة الثورة بعشرة سنوات سجن وتجريده أيضاً من جميع ممتلكاته وتحويل منزله بشارع أحمد حشمت بالزمالك إلى مدرسة ابتدائية وكذلك أخاه حسين أبو الفتح.
سافر "أحمد أبو الفتح" لملاقاة أخيه محمود في بيروت ولكن محمود كان قد غادرها إلى سويسرا فور سماعه بنبأ تجريده من الجنسية المصرية حتى يدخلها قبل أن تمنعه السلطات السويسرية من دخولها بعد اسقاط جنسيته، حينها أرسل له أحمد أبو الفتح برقية من بيروت تفيد بضرورة أن يلتقيه في ايطاليا ولما كان محمود أبو الفتح قد انتزعت منه الجنسية المصرية ومضطر لملاقاة أخيه في ايطاليا ولا يستطيع مغادرة سويسرا والعودة إليها بل ولا يستطيع دخول ايطاليا أيضاً فقد استطاع بواسطة اصدقاء منهم "زهير عسيران" الحصول على جواز مرور سويسري من السلطات السويسرية تتيح له السفر والعودة بموجبه، وعند الحدود الايطالية - السويسرية دقق ضباط الجوازات مع حامل جواز المرور وهنا بكى محمود أبو الفتح ولسان حاله يقول: هكذا أصبحت مشرداً في الارض لا هوية لي كأني لم أكن يوما عربيا ولم أخدم قضايا وطني؟".
في فندق "أكسلسيور" في العاصمة روما بإيطاليا كان "محمود أبو الفتح" في شبه انهيار مما يحدث، وبينما هو في انتظار أحمد أبو الفتح أخيه اتصل "زهير عسيران" الذي كان يرافقه في رحلته من سويسرا لإيطاليا بل ومنذ خروجه من لبنان بالدكتور "فاضل الجمالي" وزير الخارجية العراقي يومئذ وتحدث معه عن "محمود أبو الفتح" فتأثر جداً وطلب مقابلتهما.
في صباح اليوم التالي ذهب "زهير عسيران" بصحبة "محمود أبو الفتح" للسفارة العراقية في روما فوجدا الدكتور "فاضل الجمالي" قد أعطى أوامره بإعطاء "محمود أبو الفتح" جواز مرور للسفر الى بغداد فوراً. 
وصل "محمود أبو الفتح" بصحبة "زهير عسيران" الى مطار بغداد فوجدا مندوباً من وزير الخارجية يقودهما الى مقر وزارة الخارجية حيث استقبلهما هناك "فاضل الجمالي" بنفسه وهو يطمئنه: "سترى ما يسرك ان شاء الله".
وانعقد مجلس الوزراء العراقي واتخذ قرارا بمنح "محمود أبو الفتح" الجنسية العراقية، تقديرا لخدماته وتضحياته في سبيل العرب والعروبة، وخلال يوم واحد كان "محمود أبو الفتح" يحمل الجنسية العراقية وجواز سفر يتحرك به كيفما شاء.
كان التحرك الاول الى سويسرا حيث يقيم فحصل من القنصلية السويسرية على تأشيرة دخول الى سويسرا، ورغم ان السلطات السويسرية لفت نظرها تغيير الجنسية، الا أنها تتساهل مع الشخصيات المعروفة لديها وأن "محمود أبو الفتح" ليس مجهولا منها وهو يقيم فيها منذ مدة وله مصالح فيها قبل ان يتم الحكم عليه بنزع الجنسية المصرية.
وظل "محمود أبو الفتح" عراقيا حتى الثورة التي قام بها "عبد الكريم قاسم" وحينها قرر مجلس الوزراء العراقي في أول جلسة له بسحب الجنسية العراقية من "محمود أبو الفتح".
تشاور "محمود أبو الفتح" مع صديقة القديم "زهير عسيران" في التليفون فدعاه أن يحضر الى بيروت فوراً وكان سفير العراق فيها صديقا لزهير عسيران حيث أطلعه على ما حدث لمحمود أبو الفتح وهنا قرروا الحل الذي تلخص في العودة الى الجريدة الرسمية العراقية "الوقائع العراقية" والتي تحمل مرسوم اعطاء الجنسية العراقية الى "محمود ابو الفتح" حيث يقدموه للسلطات السويسرية لتبقى الجنسية العراقية سارية المفعول لمحمود في سويسرا وهو ماحدث بالفعل.
حزن محمود أبو الفتح مما حدث له ويحدث حزنا شديداً فساءت صحته وتدهورت بشكل سريع فانتقل الى المانيا وتوفي في مستشفى "بادن"، ولم يتمكن اهله من دفنه في مسقط رأسه مصر، بحسب وصيته، لمعارضة السلطات المصرية استقبال جثمانه فدفن في تونس بأمر من الرئيس الحبيب بورقيبة.
فهل حان الوقت لإعادة رفات هذا الرجل الوطني لأحضان وطنه ليستعيد الجثمان شرف الدفن في تراب الوطن كما أعاد أنور السادات شرف هذا الرجل ومنح أسمه وسام الجمهورية .. لا نريد أن نكون أمة تأكل أبنائها وقد حان لنقابة الصحفيين في يوبيلها الماسي أن تفكر في إعادة رفات أول نقيب لها من تونس ليتم دفنه في مصر. 
وننتهي بالثناء على شعب تونس العظيم الذي دائماً ما يظهر معدنه النقي والعروبي في لحظات العسرة إن مرت بأمتنا حيث تجد في "تونس" وشعبها حضناً انسانياً رحباً وفياضاً.
 


أسرار وتفاصيل الأزمة بين جمال عبد الناصر ومحمود أبو الفتح


mohi_ibraheem
بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
بداية الأزمة لم تكن عام 1954 بل كانت عام 1952 وتحديداً ليلة 4 أغسطس بعد قيام الثورة في منزل أحمد فؤاد أحد الضباط الأحرار حيث اجتمع محمود أبو الفتح على الغذاء مع جمال عبد الناصر ويوسف صديق وخالد محيي الدين وإبراهيم طلعت وعبد الحكيم عامر ودار بينهم حديث طويل حول نظام الحكم بعد نجاح الثورة وعزل الملك. 
هل يعقل أن يكون جثمان أول نقيب للصحفيين المصريين وأهم شخصية ثورية قاومت الإنجليز وشاركت في ثورة 23 يوليو 1952 مدفوناً في تونس ولا تطالب نقابة الصحفيين المصريين بعودة رفات نقيبها الأول لترقد في تراب الوطن الذي عاش ومات من أجله !! .. هل نحن أمة تأكل أبنائها ؟؟ وما هي القصة ؟؟
ابتداءً لم يكن محمود أبو الفتح أول نقيب للصحفيين المصريين بل وأول نقيب للصحفيين في الشرق عموماً .. لم يكن صديقاً للرئيس جمال عبد الناصر من قريب أو من بعيد لا قبل الثورة ولا بعدها كما يزعم كثير ممن تناولوا قصة حياته، وربما لو كانوا سألوا أخيه الأصغر " أحمد أبو الفتح " قبل وفاته عام 2004 م لأجابهم ببساطة أن جمال عبد الناصر لم تجمعه بمحمود أبو الفتح أي علاقة فجمال عبد الناصر في عام ميلاده ( 15 يناير 1918 ) كان وقتها محمود أبو الفتح يبلغ من العمر 26 عاماً وملازماً لسعد باشا زغلول وواحداً ممن فجروا ثورة 1919 وواحداً من الوفد المصري الملازم لسعد باشا زغلول في رحلته لإنجلترا وأن بداية علاقة جمال عبد الناصر الحقيقية بعائلة " أبو الفتح " كانت عن طريق "إبراهيم طلعت " أحد أهم الوفديين قبل ثورة 23 يوليو وبعدها حيث كان صديقاً لجمال عبد الناصر أو ربما أهم أصدقائه وهو الذي من خلاله تم التعارف بين " أحمد أبو الفتح " الأخ الأصغر لمحمود أبو الفتح ورئيس تحرير جريدة المصري وبين "جمال عبد الناصر" إذ كان "إبراهيم طلعت" يعيش في الإسكندرية ولما كان ينزل للقاهرة كان يفضل عقد لقاءاته في حديقة جريدة المصري ( لسان حال الوفد ) ومن هنا تعرف جمال عبد الناصر على آل أبو الفتح وصار صديقاً لأحمد أبو الفتح بل وكان لا يفضل شرب القهوة إلا في حديقة جريدة المصري حتى في حالة عدم وجود " ابراهيم طلعت " ويسهر فيها مع غالب محرريها وعلى رأسهم " أحمد أبو الفتح " الذي ترك له أخيه الأكبر " محمود أبو الفتح " رئاسة تحريرها تحت رئاسة إدارتها لأخيهم الأوسط " حسين أبو الفتح " بعدما تفرغ هو لأن يكون رجل أعمال بعيداً عن الصحافة، بل ومن المدهش بعد أن توطدت العلاقة بين جمال عبد الناصر وأحمد أبو الفتح كانت دار جريدة " المصري" تعقد فيها الاجتماعات السرية للضباط الأحرار، ومن مطابعها كانت تخرج بياناتهم، وفيها يحتفظون بسلاحهم الخفيف بحضور أحمد أبو الفتح ومشاركته الشخصية، كما عقدت فيها جميع مراحل التخطيط لثورة 23 يوليو حتى أنه ذات ليلة، وقد اقترب موعد تنفيذ الثورة والضباط مجتمعون في جريدة "المصري"، هرع رجل الى الداخل وأبلغ أحمد أبو الفتح المتزوج من شقيقة ثروت عكاشة، قائد فوج الفرسان في معركة الضباط الأحرار ان البوليس السري يراقب الدار، فأسرع أحمد الى اخبار جمال عبد الناصر ورفاقه الذين تسللوا من الباب الخلفي للجريدة قبل أن يدخل البوليس الحربي ويفتش غرف دار الجريدة ويعود دون أي دليل، هذه إحدى القصص بين أحمد أبو الفتح وجمال عبد الناصر أما محمود أبو الفتح فإن أي كلام عن صداقة بينه وبين جمال عبد الناصر هي محض خيالات.
السؤال إذن ماهو السبب وراء الأزمة التي قامت بين آل أبو الفتح وجمال عبد الناصر جعلت عبد الناصر يرفض عودة جثمان محمود أبو الفتح عام 1958 ليتم دفنه في مصر ؟
يقول غالب من تعرض بالتحليل للأزمة بين عبد الناصر وعائلة أبو الفتح وعلى رأسهم محمود أبو الفتح أنها بدأت مع أزمة مارس 1954 حيث سار التساؤل: هل تستمر الثورة في الحكم؟ وقد تزعم هذا الجانب مجلس قيادة الثورة، أو هل يعود الجيش إلى ثكناته؟، وقد تزعم هذا الجانب محمد نجيب، وخالد محيى الدين، ويوسف صديق، وكانت جريدة "المصرى" في جانب الشعب والديمقراطية، وحاول وقتها أحمد أبو الفتح، وإحسان عبد القدوس، إقناع عبد الناصر بحل وسط وهو أن تتحول الثورة إلى حزب ديمقراطى يكتسح الانتخابات، لكن مجلس قيادة الثورة رفض ذلك العرض، وتم تحديد إقامة محمد نجيب، واعتقال يوسف صديق، وسافر محيى الدين إلى الخارج، وتم اتهام الأخوين محمود أبو الفتح وأخيه حسين أبو الفتح بأنهما "أتيا أفعالًا ضد سلامة الوطن ومن شأنها إفساد أداة الحكم"، وكانت تهمة محمود أبو الفتح أنه "في غضون سنة 1954 قام بدعايات واتصالات في الخارج ضد نظام الحكم القائم بغرض تقويض النشاط القومي للبلاد وإغراء موظفًا عموميًا بطرق غير مشروعة على المساهمة في إتمام صفقة تجارية لمصلحته الذاتية" وقد صدر الحكم بسجن محمود أبو الفتح ـ الذي كان متغيبًا بأوروبا ـ عشر سنوات ومصادرة 358,438 جنيهًا من أمواله، ومعاقبة حسين أبو الفتح بالحبس خمسة عشر سنة مع إيقاف التنفيذ، وطبقا لهذا الحكم عُطلت جريدة المصري منذ يوم 5 مايو 1954.
لكن، هل هذه القصة هي القصة الحقيقية وراء أزمة ( آل أبو الفتح – عبد الناصر ) أم أن هناك تفاصيل أخرى؟
في تقديري أن بداية الأزمة لم تكن عام 1954 بل كانت عام 1952 وتحديداً ليلة 4 أغسطس بعد قيام الثورة بأقل من أسبوعين في منزل أحمد فؤاد أحد الضباط الأحرار والضابط المسئول عن الشئون الثقافية لقسم الجيش في حركة ( حدتو ) الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني قبل قيام ثورة 23 يوليو حيث اجتمع على الغذاء بمنزله كل من جمال عبد الناصر ويوسف صديق وخالد محيي الدين وإبراهيم طلعت وعبد الحكيم عامر ودار بينهم حديث طويل حول نظام الحكم بعد نجاح الثورة وعزل الملك وتم الاتفاق على ضرورة عودة الحياة الدستورية بما يحقق الحرية والديمقراطية وإجراء انتخابات حرة الغرض منها قيام مجلس النواب الذي يجب أن يمثل الشعب تمثيلاً حقيقياً ومن ثم وجوب دعوة البرلمان المنحل للانعقاد بمجلسيه الشيوخ والنواب لإقرار عزل الملك وإضفاء المشروعية على الثورة، وقد نقل " إبراهيم طلعت " هذا الكلام بالحرف لأحمد أبو الفتح في حضور جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر في حديقة جريدة المصري يوم 10 أغسطس 1952 م، الأمر الذي دفع أبو الفتح لأن يطرق صامتاً ولم يعلق خاصة بعد سماعه مسألة قانون تحديد الملكية الزراعية من جمال عبد الناصر، وفي يوم 11 أغسطس وفي كافيتريا ( البافيون ) بمصر الجديدة تقابل أحمد أبو الفتح مع أبراهيم طلعت وصارحه بأنه خائف وحين سأله أبراهيم عن سبب خوفه أجاب: ما أعرفش .. إحساس عندي .. كل ( اللغوصة ) اللي بتحصل في البلد دي ! ولكن بالرغم من خوف أحمد أبو الفتح كان هو الوحيد في مصر الذي انفردت جريدته يوم 12 أغسطس 1952م بنشر نص مشروع تحديد الملكية الزراعية تحت عنوان " نص مشروع قانون تحديد الملكية الزراعية الذي قدمه مجلس الثورة للوزارة لإصداره ) وكان ذلك العنوان هو القشة التي قصمت ظهر البعير !
بعد نشر الخبر 12 اغسطس وفي تمام الساعة الثانية عشرة ظهراً فوجئ إبراهيم طلعت بأحمد أبو الفتح على رأسه في غرفته بالفندق وهو يصيح في وجهه : رحنا في داهية يا إبراهيم !!
كانت الداهية التي يصيح بها أحمد أبو الفتح في وجه إبراهيم طلعت مصدرها حفل وضع حجر الأساس لمبنى الإذاعة الجديد بحضور "محمد نجيب" الذي سبقه لمكان الأحتفال " علي باشا ماهر" رئيس الحكومة وهو في حالة عصبية وانفعال شديد ليخبر محمد نجيب عن أن جريدة المصري قد نشرت خبراً ( مكذوباً ) حول مشروع قانون الملكية الزراعية في محاولة منها لدس الفتنة بين الوزارة ومجلس قيادة الثورة. 
لم يكن "محمد نجيب" على علم بكل ما دار بالأمس بين جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وإبراهيم طلعت وأحمد أبو الفتح ومن ثم صرح في الميكرفون للصحفيين الموجودين أمامه أن ما نشرته جريدة المصري صباح 12 أغسطس هو عار تماماً من الصحة وكاذب جملة وتفصيلاً وأنه من خيال هذه الجريدة وطلب تكذيباً رسمياً للخبر، وهنا وكما يقول إبراهيم طلعت في مذكراته أهتزت الدنيا ولم تقعد.
ولكن كيف كان اهتزاز الدنيا التي قامت؟
قرر محمد نجيب أن تنشر جريدة الزمان تكذيباً على لسانه بأن مجلس قيادة الثورة لا علاقة له بما نشرته جريدة المصري وأنه لا مشروع إطلاقاً لمسألة تحديد الملكية الزراعية، وفي مساء نفس يوم 12 أغسطس، تقابل أحمد أبو الفتح وابراهيم طلعت مع جمال عبد الناصر في مكتبه بمجلس قيادة الثورة وتحدثوا معه عن الفضيحة التي ستتلقاها جريدة المصري حيث تم انتهاء جريدة الزمان من اصدار طبعتها الأولى التي تحمل في المانشيت الرئيسي لها تكذيب "محمد نجيب" لمشروع تحديد الملكية الزراعية، لكن لم يدر بخلدهما أبداً وسط ابتسامة جمال عبد الناصر الهادئة والمطمئنة أنه قد تم سحب كل نسخ الطبعة الأولي لجريدة الزمان ومصادرة كل ما طبع منها على رأس قوة من الجنود بقيادة الصاغ عبد المنعم النجار ( سفير مصر في باريس وبغداد فيما بعد ) وإعادة طبعها من جديد بمانشيت رئيسي مختلف يحمل عنوان : ما نشرته جريدة المصري هو نص المشروع الذي قدمه مجلس قيادة الثورة للحكومة لإصدارة.
مذهولان خرج كل من أحمد أبو الفتح وإبراهيم طلعت من مكتب جمال عبد الناصر حيث نظر ابراهيم طلعت لأحمد أبو الفتح قائلاً : أنا الآن يا أحمد أستطيع القول بأني اشاركك الخوف الذي انتابك يوم أمس .. فما حدث بجريدة الزمان النهاردة من المحتم أن يحدث لجريدة المصري غداً.
كانت آثار نشر خبر تحديد الملكية على الناس شبه كارثي، فقد أثار بتفاصيله في جريدة المصري اضطرابات ومظاهرات عنيفة في الأوساط العمالية بمصر سقط فيها قتلى حتى كادت تصل هذه الإضطرابات إلى حد الفوضى، كانت كل تلك الأمور قد وصلت لعلم محمود أبو الفتح الأخ الأكبر لأحمد أبو الفتح وكان وقتها رجل أعمال وأدرك بحسه الصحفي أن هناك أزمة داخل مجلس قيادة الثورة نفسه حول محمد نجيب والوزارة الحالية بقيادة علي باشا ماهر الذي يرى جمال عبد الناصر أنه يريد الإنفراد بالسلطة ولذلك فهو يرحب بتولي الدكتور عبد الرزاق السنهوري رئاسة الحكومة بدلاً من "علي ماهر" رغم فتوى " السنهوري" الكارثية هو وسليمان حافظ بعدم إعمال النص الدستوري بدعوة مجلس النواب المنحل بعد عزل الملك، بل وإلغاء الدستور نفسه وعمل دستور جديد يتفق مع المناخ الثوري الجديد بهوى من فتحي رضوان وحسن الهضيبي، وهنا قرر محمود الفتح السفر إلى سويسرا عن طريق لبنان فقد كانت أعماله في مصر شبه متوقفة بسبب حالة عدم الأستقرار في بيزنس المال والأعمال الذي صاحب قيام الثورة وبالفعل غادر مصر ربما في شهر مايو عام 1953م وكان نقيب الصحفيين المصريين وقتها أخيه الأوسط حسين أبو الفتح.
في لبنان تقابل مع "زهير عسيران " - نقيب الصحافيين اللبنانيين فيما بعد - الذي كانت تربطه بعائلة أبو الفتح صلة صداقة انسانية ومهنية، وحين وصل محمود أبو الفتح لبيروت كان "زهير عسيران" يستعد للسفر إلى مصر حيث عهد إليه "عفيف الطيبي" نقيب الصحافيين اللبنانيين وقتذاك لإلقاء كلمة الصحافيين اللبنانيين في احتفال مصر بعيد الثورة الأول يوليو 1953.
علم "محمود أبو الفتح" من "زهير عسيران" بعد عودته من مصر بأنه ألقى كلمة صحافة لبنان بنصها الأصلي متجاهلا علامات الاستفهام والتعديل التي قام بها الرقيب المصري الذي فرضته الثورة على كل وسائل الإعلام في مصر وقتذاك، وأنه بوصوله الى الكلام عن الحرية وحق الشعوب في ان تحكم نفسها بنفسها اشتعلت القاعة بالتصفيق ، وأضاف "زهير عسيران" بأنه بعد أن أنهى كلمته نهض محمد نجيب في نهاية المؤتمر فشكر الوفود الصحافية ثم تحدّث عن الحرية، "وأن لمصر تاريخ طويل معها ومع الاستعمار، وأن "محمد نجيب" قال ذلك بنبرة قوية وشجاعة، دفعت "زهير عسيران" للتساؤل في إما ان الرئيس محمد نجيب اراد ان يزايد على كلمته ليفهم الحاضرين ان الحرية بخير، أو ان الرقيب الذي عينته الثورة يتبع سلطة خارجة عن ارادة محمد نجيب".
ويقول "زهير عسيران" في مذكراته : وتبين لي في ما بعد ان استنتاجي كان في محله وأن هناك خلاف داخل رجال الثورة أنفسهم حول قيادة محمد نجيب.
اتصل محمود أبو الفتح من بيروت بأخيه حسين أبو الفتح ( نقيب الصحافيين المصريين ) ودعاه لنشر كلمة "زهير عسيران" التي ألقاها في احتفالات الثورة بعيدها الأول بجريدة "المصري" فصدرت في مقالات "لأحمد أبو الفتح" تحت عنوان "حكم الشعب"، وهنا يقول "أحمد أبو الفتح" : ألم يكن الاتفاق بين أصحاب جريدة "المصري" والضباط الأحرار ان تعود الحياة البرلمانية الديموقراطية بعد نجاح الثورة، وهو الأمر الذي لم يرضى عنه الضباط الأحرار ومقالات استوجبت عقد اجتماع بين جمال عبد الناصر وأحمد أبو الفتح في منزل ثروت عكاشة شقيق زوجة أبو الفتح، وانتهى اللقاء إلى خلاف حاد في الرأي عندما أصر أحمد أبو الفتح على رأيه وعلى مقالاته التي تدعو بوجوب عودة الحياة البرلمانية فورا الى مصر، وبتحدي حقيقي ضد جمال عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة وبمباركة من محمود أبو الفتح المتواجد في بيروت وقتها استمرت "المصري" في موقفها المطالب بأن يعود الحكم الى الشعب بعد نجاح الثورة، وحين علم محمود ابو الفتح بأن هناك نية لإسكات صوت جريدة "المصري" قرر أن ينتقل بها لبيروت لكن الوقت كان قد فات وتم مصادرتها ومصادرة مطابعها.
من خلال صداقة "محمود أبو الفتح" بكل الصحافيين العرب ونقبائهم قرر أن يشن حملة صحفية من بيروت ويبدأها من خلال جريدة "الهدف" لصاحبها "زهير عسيران" .. كانت حملة قاسية ( من وجهة نظر محمود أبو الفتح ) على عبد الناصر الذي غيّر موقفه من رفاقه وخصوصا جريدة "المصري" وأصحابها، وفي عام 1954 م قرر جمال عبد الناصر أمام هذه الحملة تجريد محمود أبو الفتح من جنسيته المصرية والحكم عليه في محكمة الثورة بعشرة سنوات سجن وتجريده أيضاً من جميع ممتلكاته وتحويل منزله بشارع أحمد حشمت بالزمالك إلى مدرسة ابتدائية وكذلك أخاه حسين أبو الفتح.
سافر "أحمد أبو الفتح" لملاقاة أخيه محمود في بيروت ولكن محمود كان قد غادرها إلى سويسرا فور سماعه بنبأ تجريده من الجنسية المصرية حتى يدخلها قبل أن تمنعه السلطات السويسرية من دخولها بعد اسقاط جنسيته، حينها أرسل له أحمد أبو الفتح برقية من بيروت تفيد بضرورة أن يلتقيه في ايطاليا ولما كان محمود أبو الفتح قد انتزعت منه الجنسية المصرية ومضطر لملاقاة أخيه في ايطاليا ولا يستطيع مغادرة سويسرا والعودة إليها بل ولا يستطيع دخول ايطاليا أيضاً فقد استطاع بواسطة اصدقاء منهم "زهير عسيران" الحصول على جواز مرور سويسري من السلطات السويسرية تتيح له السفر والعودة بموجبه، وعند الحدود الايطالية - السويسرية دقق ضباط الجوازات مع حامل جواز المرور وهنا بكى محمود أبو الفتح ولسان حاله يقول: هكذا أصبحت مشرداً في الارض لا هوية لي كأني لم أكن يوما عربيا ولم أخدم قضايا وطني؟".
في فندق "أكسلسيور" في العاصمة روما بإيطاليا كان "محمود أبو الفتح" في شبه انهيار مما يحدث، وبينما هو في انتظار أحمد أبو الفتح أخيه اتصل "زهير عسيران" الذي كان يرافقه في رحلته من سويسرا لإيطاليا بل ومنذ خروجه من لبنان بالدكتور "فاضل الجمالي" وزير الخارجية العراقي يومئذ وتحدث معه عن "محمود أبو الفتح" فتأثر جداً وطلب مقابلتهما.
في صباح اليوم التالي ذهب "زهير عسيران" بصحبة "محمود أبو الفتح" للسفارة العراقية في روما فوجدا الدكتور "فاضل الجمالي" قد أعطى أوامره بإعطاء "محمود أبو الفتح" جواز مرور للسفر الى بغداد فوراً. 
وصل "محمود أبو الفتح" بصحبة "زهير عسيران" الى مطار بغداد فوجدا مندوباً من وزير الخارجية يقودهما الى مقر وزارة الخارجية حيث استقبلهما هناك "فاضل الجمالي" بنفسه وهو يطمئنه: "سترى ما يسرك ان شاء الله".
وانعقد مجلس الوزراء العراقي واتخذ قرارا بمنح "محمود أبو الفتح" الجنسية العراقية، تقديرا لخدماته وتضحياته في سبيل العرب والعروبة، وخلال يوم واحد كان "محمود أبو الفتح" يحمل الجنسية العراقية وجواز سفر يتحرك به كيفما شاء.
كان التحرك الاول الى سويسرا حيث يقيم فحصل من القنصلية السويسرية على تأشيرة دخول الى سويسرا، ورغم ان السلطات السويسرية لفت نظرها تغيير الجنسية، الا أنها تتساهل مع الشخصيات المعروفة لديها وأن "محمود أبو الفتح" ليس مجهولا منها وهو يقيم فيها منذ مدة وله مصالح فيها قبل ان يتم الحكم عليه بنزع الجنسية المصرية.
وظل "محمود أبو الفتح" عراقيا حتى الثورة التي قام بها "عبد الكريم قاسم" وحينها قرر مجلس الوزراء العراقي في أول جلسة له بسحب الجنسية العراقية من "محمود أبو الفتح".
تشاور "محمود أبو الفتح" مع صديقة القديم "زهير عسيران" في التليفون فدعاه أن يحضر الى بيروت فوراً وكان سفير العراق فيها صديقا لزهير عسيران حيث أطلعه على ما حدث لمحمود أبو الفتح وهنا قرروا الحل الذي تلخص في العودة الى الجريدة الرسمية العراقية "الوقائع العراقية" والتي تحمل مرسوم اعطاء الجنسية العراقية الى "محمود ابو الفتح" حيث يقدموه للسلطات السويسرية لتبقى الجنسية العراقية سارية المفعول لمحمود في سويسرا وهو ماحدث بالفعل.
حزن محمود أبو الفتح مما حدث له ويحدث حزنا شديداً فساءت صحته وتدهورت بشكل سريع فانتقل الى المانيا وتوفي في مستشفى "بادن"، ولم يتمكن اهله من دفنه في مسقط رأسه مصر، بحسب وصيته، لمعارضة السلطات المصرية استقبال جثمانه فدفن في تونس بأمر من الرئيس الحبيب بورقيبة.
فهل حان الوقت لإعادة رفات هذا الرجل الوطني لأحضان وطنه ليستعيد الجثمان شرف الدفن في تراب الوطن كما أعاد أنور السادات شرف هذا الرجل ومنح أسمه وسام الجمهورية .. لا نريد أن نكون أمة تأكل أبنائها وقد حان لنقابة الصحفيين في يوبيلها الماسي أن تفكر في إعادة رفات أول نقيب لها من تونس ليتم دفنه في مصر. 
وننتهي بالثناء على شعب تونس العظيم الذي دائماً ما يظهر معدنه النقي والعروبي في لحظات العسرة إن مرت بأمتنا حيث تجد في "تونس" وشعبها حضناً انسانياً رحباً وفياضاً.
 


الأربعاء، 29 يونيو 2016

السيدة نفيسة ومحنة آل بيت النبي بقلم محيي الدين إبراهيم

mohi_ibraheem
بقلم: محيي الدين إبراهيم
أحب المصريون السيدة نفيسة حباً جماً لدرجة أنهم أخذوا في بناء بيوتهم الجديدة بجوارها وبجوار منزلها في " درب السباع" حتى عمرت الصحراء المحيطة ببيتها ببيوت وقلوب المحبين لها، كما عرفوا أيضاً جرأتها في الحق فاشتكوا لها ظلم بعض أمرائهم الذين يسرقون الناس ويتحكمون في الأرزاق فخرجت السيدة نفيسة من دارها ذات يوم وكانت قد علمت أن والي مصر سيمر بجوارها حتى جاء فصرخت فيه قائله:


زالت الدولة الأموية بالكامل وتم قتل بني أمية جميعاً وآخر من تم قتله كان الخليفة الأخير "مروان بن محمد" في مصر بعدما ( فر ) إليها من دمشق عام 132 هـ مع نفر من حلفائه ليلحق بهم العباسيون من دمشق ويقتلوه وحلفائه في قرية "أبو صير الملق" بمحافظة بني سويف ولم ينجو من مجزرة قتل آخر الأمويين في هذه القرية سوى "عبد الرحمن بن معاوية" المُلقب بـعبد الرحمن الداخل، الذي فر من مصر إلى الأندلس وأسس الدولة الأموية الثانية هناك، كان أهل مصر - في ذلك الزمان – يعتقدون أن زوال دولة بني أمية إنما جاء بسبب قتلهم آل بيت رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام وقد كان أهل مصر يحبون أهل بيت رسول الله حباً عظيما ويحمونهم ويحيطون بهم إحاطة الرحم بالجنين. 
لا يمكن تصور أن أهل بيت النبي يصل بهم الأمر إلى حد تحديد الإقامة الجبرية في المدينة المنورة طيلة فترة الدولة الأموية تجنباً لقتلهم في عملية قتل متعمده أقرب للتطهير العرقي والإبادة الجماعية؟، كان الأمويين يذبحونهم ذبح الشاة فيفصلون الرأس عن الجسد حتى ولو كان طفلاً رضيعاً !!، ولذلك كاد خلفاء الدولة الأموية الذين استمروا في الحكم "ثمانين عاماً"، كادوا أن يقضوا على آل بيت النبي باستثناء من لجأ منهم إلى مصر في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ولم يغادرها حتى مات أو من بقى منهم في المدينة المنورة وظل بها حتى مات إلى أن انتهت دولة بني أمية على يد العباسيين وحلفائهم وعلى رأسهم سادة كبار من بني هاشم، وظن الجميع أن مصيبة آل بيت رسول الله في قتلهم وذبحهم قد انتهت بصعود نجم العباسيين لكن لم يدم هذا الظن سوى عقد من الزمان هي مدة حكم الخليفة العباسي الأول الذي مات بالجدري وهو في طريقة للحج.
لم تنته المصيبة بالطبع !!، لماذا ؟، من هنا تبدأ المأساة، تبدأ بمحمد ( النفس الزكية ) بن عبد الله ( الكامل ) بن الحسن ( المثنى ) بن الحسن ( السبط ) بن علي بن أبي طالب، وهو إبن عم السيدة نفيسة ( كريمة الدارين ) بنت الحسن ( الأنور) بن زيد (الأبلج ) بن الحسن ( السبط ) بن علي بن أبي طالب، حين بايعه في المدينة المنورة أثناء استعدادهم للثورة والحرب والقضاء على بني أمية واستلاب الخلافة منهم جماعة من بني هاشم ومعهم "عَبْد الله بن محمد بن علي بن عَبْد الله ابن العباس بن عَبْد المُطَّلِب" المعروف ( أبو العباس السفاح أول الخلفاء العباسيين ) وأبن أخيه "عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم" المعروف ( أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء العباسيين ) بايعوا " محمد النفس الزكية " على أن يكون هو خليفة المسلمين بعد زوال حكم بني أمية، وأتفق الناس على ذلك وحاربوا بني أمية وظفروا بالنصر عليهم ولكن تراجع ( أبو عباس السفاح ) ومعه إبن أخيه ( أبو جعفر المنصور ) عن بيعتهم لمحمد النفس الزكية وقرروا أن تكون الخلافة فيهم وفي أبنائهم من بعدهم وبدأوا في التخلص من كل حلفائهم الذين ناصروهم في القضاء على بني أمية ودولتهم، وعلى رأسهم محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم اللذان حينما علما بذلك الغدر سافرا لليمن ومنها للهند ليتوارا عن أعين بني العباس الذين يبحثون عنهم لقتلهم.
حين مات " ابو العباس السفاح" بالجدري عاد محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم للمدينة المنورة، وكتب خطاباً لأبي جعفر المنصور يؤكد له فيه أحقيته بالخلافة عنه جاء فيه:"من محمد بن عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن محمد، {طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}[القصص: 1-6]، وأنا أعرض عليك من الأمان ما عرضته، فإنَّ الحقَّ معنا، وإنَّما ادَّعيتم هذا الأمر بنا، وخَرجتم إليه بنا، وحَظيتم عليه بفضلنا، وإن أبانا عليًّا رحمه الله كان الإمام، فكيف ورثتم ولايةَ ولده؟!! وقد علِمتُم أنه لم يطلب هذا الأمر أحدٌ بمثل نَسَبنا ولا شرفنا، وأنَّا لسنا من أبناء الظِّئار( أي لسنا أبناء وأخوة من الرضاعة مع أبناء فاطمة الزهراء )، ولا من أبناء الطُّلقاء (يقصد بهم أهل مكة بعد الفتح الذين قال فيهم النبي: أذهبوا فأنتم الطلقاء)، وأنه ليس يَمُتُّ أحدٌ بمثل ما نَمُتُّ به من القرابة، والسابقة، والفضل"، وهنا رد عليه أبو جعفر المنصور في خطاب – نوجزه – حيث قال فيما اختصرناه: "من عبد الله أمير المُؤمنين إلى محمد بن عبد الله بن حَسن، أمَّا بَعْدُ؛ فقد بلغني كتابُك، وفهمتُ كلامَك، فإذا جُلُّ فَخْرِكَ بقَرابة النِّساء؛ لتُضِلَّ به الغوغاء، ولم يَجعل اللهُ النساءَ كالعُمومة، ولا كالعَصَبَة الأولياء؛ لأنَّ الله جعل العمَّ أبًا، وبدأ به في القرآن على الوالد الأدنى، ولو كان اختيارُ الله لهنَّ على قدر قَرابتهن لكانت آمنة أقربَهن رَحِمًا، وأعظمَهن حقًّا، وأوَّلَ مَن يدخل الجنَّة غدًا، ولكنَّ اختيارَ الله لخَلقه على قَدْرِ عِلْمِه الماضي لهم"، وأطال في خطابه واسترسل حتى قال له يذكره: " لقد خرج عمُّك الحُسيَن على ابن مَرْجانة ( ويقصد به أبو حفص، عبيد الله بن زياد ابن أبيه، ولي خراسان، في عهد معاوية وابنه يزيد، وهو قاتل الحسين بن علي "الذهبي: سير أعلام النبلاء 3/546)، فكان الناس معه عليه حتى قَتلوه وأَتَوْا برأْسِه إليه، ثم خرجتُم على بني أُميَّة فقتَّلوكم وصَلَّبوكم على جُذوع النخل، وأحرقوكم بالنِّيرانِ، ونَفَوْكم من البُلدان، حتى قُتل يحيى بن زيد بأرض خُراسان، وقَتلوا رجالَكم، وأسروا الصِّبية والنِّساء، وحَملوهم كالسَّبي المجلوب إلى الشام، حتى خرجنا عليهم، فَطلبنا بثأرِكم، وأدْركنا بدمائكم، وأورثناكم أرضَهم وديارَهم وأَموالَهم، وأردنا إشراككم في مُلكنا، فأبيتم إلاَّ الخروجَ علينا"، ثم أنهى خطابه بالقول: وقد علمت أنَّ المكْرمة في الجاهلية سِقَايَةُ الحاجِّ الأعظم وولاية بئر زمزم، وكانت للعبَّاس، وقد نازعَنا فيها أبوك، فقضى لنا بها رسولُ الله، فلم نَزل نَليها في الجاهليَّة والإسلام، فقد علمتَ أنه لم يَبْق أحدٌ مِن بعد النبيِّ من بني عبد المطلب غير العبَّاس وحدَه، فكان وارثَه من بين إخوته، ثم طَلَبَ هذا الأمرَ غيرُ واحد من بني هاشم، فلم يَنله إلاَّ ولدُه، فالسقاية سقايتُنا، وميراث النبيِّ ميراثُنا، والخلافة بأيدينا، فلم يبقَ فَضل ولا شَرف في الجاهليَّة والإسلام إلاَّ والعبَّاس وارثه ومُورِّثه"، خرج "محمد" النفس الزكية بعد الخطاب ثائراً بالمدينة سنة 145هـ، وبويع له فى كثير من الأمصار وخرج أخوه "إبراهيم" بالبصرة، واجتمع معه كثير من الفقهاء، وغلب أتباعه على فارس وواسط والكوفة، وشارك فى هذه الثورة كثير من الأتباع وكانت المواجهة العسكرية أقرب للمجازر، واستطاعت في النهاية جيوش أبى جعفر أن تهزم "النفس الزكية" بالمدينة وتقتله وتفصل رأسه عن جسده، وتقضى كذلك على أتباع إبراهيم أخيه فى قرية قريبة من الكوفة وتقتله وتفصل رأسه أيضاً.
بمقتل " النفس الزكية" ظهر دور عمه الحسن ( الأنور) والد السيدة نفيسة رضي الله عنها حيث كان أهل المدينة وما حولها في شدة الغضب من أبو جعفر المنصور الذي سار على نهج سلفه من بني أمية في قتل أحفاد رسول الله، ولكي يُطفئ "أبو جعفر المنصور" نيران هذا الغضب الذي ربما يطيح بعرش خلافته قرر أن يسامح من وقف إلى جانب ثـورتي محمد وأخيه إبراهيم بالمدينة، ولاسيمـا من الشخصيات البـارزة في المجتمع، سـواءً في الحجاز أو في العـراق، ومـن هؤلاء الإمــام أبو حنيفة، والفقيه عبـد الحميد بن جعفر، وابن عجــلان، والإمــام مـالك بن أنس، ولما اطمأن الخليفة إلى موقف الإمام جعفر الصادق أكرمه وبره، ثم ولى على المدينة المنورة "الحسن ( الأنور ) بن زيد بن الحسن" عم " النفس الزكية" ووالد السيدة "نفيسة" وأبقاه والياً علي المدينة المنورة خمس سنين (لأنه لم يشترك في ثورة محمد النفس الزكية) فظل والياً عليها من سنة 150-155ﻫ/767-772م، وحين هدأ غضب الفقهاء والناس وسادة بني هاشم في المدينة وما حولها وأذعن الجميع للأمر الواقع بخلافة أبو جعفر المنصور وأنه قد صار بالفعل "أمير المؤمنين" وثاني الخلفاء العباسيين قام أبو جعفر بخلع "الحسن الأنور" من ولاية المدينة المنورة ولم يكتف بذلك وحسب بل قام بسجنه ثلاث سنوات، ثم أرسل له رسول بالسجن ليختار بين السجن أو الرحيل لبلد يختارها فأختار "مصر" ليرحل إليها هو وأهله، وبالفعل رحل "الحسن الأنور" هو وجميع أهله إلى مصر، واستقبل قدومهم جمع غفير من أهل مصر بمدينة "العريش" بسيناء وظلوا يرافقونهم حتى دخلوا مدينة الفسطاط حيث استقبلهم والي مصر "الحسن بن البحباح".
قرر حسن الأنور أن يقيم على أطراف مدينة الفسطاط ( المكان المعروف حالياً " الجيارة") أما السيدة نفيسة وزوجها "إسحاق المؤتمن بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب" فأقاما في منزل أحد الأعيان تحت سفح المقطم في المنطقة التي تعرف اليوم بسوق الجمعة أمام مسجد السيدة عائشة بطريق مسجد الإمام الشافعي وكان يدعى هذا الرجل المصري " جمال بن عبد الله الجصاص" وكان تاجراً وربما جاء لقبه " الجصاص" نسبة إلى حرفته أو حرفة أبيه في صناعة " الجص " في العمارة وخاصة عمارة المساجد والأضرحة ، وقد كانت هذه المنطقة صحراء خالية تماماً من أي روح لكونها على أطراف الفسطاط العاصمة وخارج أسوارها وتقع وسط مقابر المسلمين الذين أشتروا أرضها أسفل جبل المقطم من أقباط مصر ( طريق اوتوستراد المعادي وحلوان حالياً )، وكان للجصاص أرض ينوي إنشاءها مقبرة له ولأبنائه في أعلى أحد تلال جبل المقطم ( بالقرب من مقام الشيخ أحمد بن عطاء السكندري حالياً ) فاختارتها السيدة نفيسة " صومعة " تعتزل فيها ليلاً لتصلي وتقرأ القرآن ومازالت هذه "الصومعة" موجودة حتى الآن باسمها وهي تسع شخصين فقط للصلاة لضيق حجمها لكونها أقرب لكهف صغير محفور في أعلى التبة وقد حالفني الحظ ذات مرة وزرتها وصليت فيها، وحين علم الإمام الشافعي في محبسه بالكوفة الذي سجنه فيه أبو جعفر المنصور بسبب فتاواه التي تؤيد " النفس الزكية" وتدعم موقفه في الثورة قرر إن خرج من سجنه ليذهبن إلى مصر ليكون بجوار الشيخ "حسن الأنور" وأبناءه وبالفعل حين فك الله أسره جاء إلى مصر وقرر أن يختار مكاناً بالقرب من إقامة السيدة نفيسة وزوجها اسحاق المؤتمن بدار " الجصاص" فكان مقامه على مقربة شديدة من دارهما ( في مكانه الحالي المعروف بمسجد الإمام الشافعي)، وكان الشافعي يعتبر السيدة نفيسة هي سيدة العلم إذ تربت في مسجد الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، وأخذت عن علمائه ما يدفعها لقمة هرم العلم الديني والفقهي ولعل أهم من التقت بهم في المسجد النبوي كان الإمام "مالك " الذي أخذت عنه العلم من كتابه "الموطأ" إذ كان فقهه حديث الأمصار في كل بلاد المسلمين، ومن ثم كان الشافعي دائم الزيارة لها ولزوجها يسألها ويحاورها ويدعوها دوماً للدعاء إليه، كما كانت علاقته بزوجها هي علاقة تلميذ بأستاذة إذ أن أستاذ الشافعي الذي تتلمذ الشافعي على يديه كان دائم القول عن "إسحاق المؤتمن": حدثني الثقة، حدثني الرضا، حدثني "إسحاق المؤتمن بن جعفر" وحتى بعد أن أمر أحد أمراء مصر في ذلك الوقت وهو " السري بن الحكم " بأن يهديها داراً واسعة كان قد أنشأها في "درب السباع" وقبلتها ( حيث مسجدها ومقامها الحالي ) ظل الإمام الشافعي يزورها هو وتلاميذه ومنهم ذو النون المصري وعبد الله بن الحكم والربيع المرادي والربيع الجيزي وغيرهما.
أحب المصريون السيدة نفيسة حباً جماً لدرجة أنهم أخذوا في بناء بيوتهم الجديدة بجوارها وبجوار منزلها في " درب السباع" حتى عمرت الصحراء المحيطة ببيتها ببيوت وقلوب المحبين لها، كما عرفوا أيضاً جرأتها في الحق فاشتكوا لها ظلم بعض أمرائهم الذين يسرقون الناس ويتحكمون في الأرزاق فخرجت السيدة نفيسة من دارها ذات يوم وكانت قد علمت أن والي مصر سيمر بجوارها حتى جاء فصرخت فيه قائله: "ملكتم فأسرفتم وقدرتم فقهرتم وخولتم ففسقتم وردت إليكم الأرزاق فقطعتم ،هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نافذة غير مخطئة لاسيما من قلوب أوجعتموها ..وأكباد جوعتموها.. وأجساد عريتموها.. ومحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم ،اعملوا ما شئتم فإنا صابرون.. وجاوروا فانا مستجيرون ..وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) سمعها جيداً وما أن انتهت من صرختها حتى خر الحاكم باكيا ووقف بين يديها ووعد بالتغيير ونفذه بالفعل الأمر الذي فاض على المستجيرين بها عدلاً وإحسانا.
عُرفت أيضاً السيدة نفيسة بكرامات لها كثيرة وقد ذكر ابن حجر رضي الله عنه نحواً من مائة وخمسين كرامة، أما هي رضوان الله عليها فحينما واجهوها بذلك قالت: "أما فيما يتعلق بما سماه الناس لي من كرامات فهذه ليست إلا من قبيل النوع الذي يقود إلى الطاعة، والسير فيما يرضي الله، حتى يصل من شاء الله له بالهداية إلى منازل الصالحين" وفي شهر رجب من عام 208 هـ أصاب السيدة نفيسة مرض أقعدها عن الحركة وصار يزداد، فأحضروا لها الطبيب فأمرها بالفطر، فقالت: واعجباه! لي ثلاثين سنة وأنا أسأل الله أن يتوفاني وأنا صائمة، أأفطر؟!، وكانت ترقد ومن وراءها ستار يخفي وراءه ( القبر ) الذي حفرته بيدها لنفسها فقالت للمحيطين بها بعد أن أزاحت جزءاً من الستار وهي تشير للقبر: "هذا قبري، فإذا متُّ فأدخلوني فيه"، فلمّا فاضت روحها الطاهرة الشريفة دفنت في قبرها الذي حفرته بيدها، رضي الله عنها وعلى جدها سيدنا النبي محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة والسلام.

السيدة نفيسة ومحنة آل بيت النبي بقلم محيي الدين إبراهيم

mohi_ibraheem
بقلم: محيي الدين إبراهيم
أحب المصريون السيدة نفيسة حباً جماً لدرجة أنهم أخذوا في بناء بيوتهم الجديدة بجوارها وبجوار منزلها في " درب السباع" حتى عمرت الصحراء المحيطة ببيتها ببيوت وقلوب المحبين لها، كما عرفوا أيضاً جرأتها في الحق فاشتكوا لها ظلم بعض أمرائهم الذين يسرقون الناس ويتحكمون في الأرزاق فخرجت السيدة نفيسة من دارها ذات يوم وكانت قد علمت أن والي مصر سيمر بجوارها حتى جاء فصرخت فيه قائله:


زالت الدولة الأموية بالكامل وتم قتل بني أمية جميعاً وآخر من تم قتله كان الخليفة الأخير "مروان بن محمد" في مصر بعدما ( فر ) إليها من دمشق عام 132 هـ مع نفر من حلفائه ليلحق بهم العباسيون من دمشق ويقتلوه وحلفائه في قرية "أبو صير الملق" بمحافظة بني سويف ولم ينجو من مجزرة قتل آخر الأمويين في هذه القرية سوى "عبد الرحمن بن معاوية" المُلقب بـعبد الرحمن الداخل، الذي فر من مصر إلى الأندلس وأسس الدولة الأموية الثانية هناك، كان أهل مصر - في ذلك الزمان – يعتقدون أن زوال دولة بني أمية إنما جاء بسبب قتلهم آل بيت رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام وقد كان أهل مصر يحبون أهل بيت رسول الله حباً عظيما ويحمونهم ويحيطون بهم إحاطة الرحم بالجنين. 
لا يمكن تصور أن أهل بيت النبي يصل بهم الأمر إلى حد تحديد الإقامة الجبرية في المدينة المنورة طيلة فترة الدولة الأموية تجنباً لقتلهم في عملية قتل متعمده أقرب للتطهير العرقي والإبادة الجماعية؟، كان الأمويين يذبحونهم ذبح الشاة فيفصلون الرأس عن الجسد حتى ولو كان طفلاً رضيعاً !!، ولذلك كاد خلفاء الدولة الأموية الذين استمروا في الحكم "ثمانين عاماً"، كادوا أن يقضوا على آل بيت النبي باستثناء من لجأ منهم إلى مصر في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ولم يغادرها حتى مات أو من بقى منهم في المدينة المنورة وظل بها حتى مات إلى أن انتهت دولة بني أمية على يد العباسيين وحلفائهم وعلى رأسهم سادة كبار من بني هاشم، وظن الجميع أن مصيبة آل بيت رسول الله في قتلهم وذبحهم قد انتهت بصعود نجم العباسيين لكن لم يدم هذا الظن سوى عقد من الزمان هي مدة حكم الخليفة العباسي الأول الذي مات بالجدري وهو في طريقة للحج.
لم تنته المصيبة بالطبع !!، لماذا ؟، من هنا تبدأ المأساة، تبدأ بمحمد ( النفس الزكية ) بن عبد الله ( الكامل ) بن الحسن ( المثنى ) بن الحسن ( السبط ) بن علي بن أبي طالب، وهو إبن عم السيدة نفيسة ( كريمة الدارين ) بنت الحسن ( الأنور) بن زيد (الأبلج ) بن الحسن ( السبط ) بن علي بن أبي طالب، حين بايعه في المدينة المنورة أثناء استعدادهم للثورة والحرب والقضاء على بني أمية واستلاب الخلافة منهم جماعة من بني هاشم ومعهم "عَبْد الله بن محمد بن علي بن عَبْد الله ابن العباس بن عَبْد المُطَّلِب" المعروف ( أبو العباس السفاح أول الخلفاء العباسيين ) وأبن أخيه "عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم" المعروف ( أبو جعفر المنصور ثاني خلفاء العباسيين ) بايعوا " محمد النفس الزكية " على أن يكون هو خليفة المسلمين بعد زوال حكم بني أمية، وأتفق الناس على ذلك وحاربوا بني أمية وظفروا بالنصر عليهم ولكن تراجع ( أبو عباس السفاح ) ومعه إبن أخيه ( أبو جعفر المنصور ) عن بيعتهم لمحمد النفس الزكية وقرروا أن تكون الخلافة فيهم وفي أبنائهم من بعدهم وبدأوا في التخلص من كل حلفائهم الذين ناصروهم في القضاء على بني أمية ودولتهم، وعلى رأسهم محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم اللذان حينما علما بذلك الغدر سافرا لليمن ومنها للهند ليتوارا عن أعين بني العباس الذين يبحثون عنهم لقتلهم.
حين مات " ابو العباس السفاح" بالجدري عاد محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم للمدينة المنورة، وكتب خطاباً لأبي جعفر المنصور يؤكد له فيه أحقيته بالخلافة عنه جاء فيه:"من محمد بن عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الله بن محمد، {طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}[القصص: 1-6]، وأنا أعرض عليك من الأمان ما عرضته، فإنَّ الحقَّ معنا، وإنَّما ادَّعيتم هذا الأمر بنا، وخَرجتم إليه بنا، وحَظيتم عليه بفضلنا، وإن أبانا عليًّا رحمه الله كان الإمام، فكيف ورثتم ولايةَ ولده؟!! وقد علِمتُم أنه لم يطلب هذا الأمر أحدٌ بمثل نَسَبنا ولا شرفنا، وأنَّا لسنا من أبناء الظِّئار( أي لسنا أبناء وأخوة من الرضاعة مع أبناء فاطمة الزهراء )، ولا من أبناء الطُّلقاء (يقصد بهم أهل مكة بعد الفتح الذين قال فيهم النبي: أذهبوا فأنتم الطلقاء)، وأنه ليس يَمُتُّ أحدٌ بمثل ما نَمُتُّ به من القرابة، والسابقة، والفضل"، وهنا رد عليه أبو جعفر المنصور في خطاب – نوجزه – حيث قال فيما اختصرناه: "من عبد الله أمير المُؤمنين إلى محمد بن عبد الله بن حَسن، أمَّا بَعْدُ؛ فقد بلغني كتابُك، وفهمتُ كلامَك، فإذا جُلُّ فَخْرِكَ بقَرابة النِّساء؛ لتُضِلَّ به الغوغاء، ولم يَجعل اللهُ النساءَ كالعُمومة، ولا كالعَصَبَة الأولياء؛ لأنَّ الله جعل العمَّ أبًا، وبدأ به في القرآن على الوالد الأدنى، ولو كان اختيارُ الله لهنَّ على قدر قَرابتهن لكانت آمنة أقربَهن رَحِمًا، وأعظمَهن حقًّا، وأوَّلَ مَن يدخل الجنَّة غدًا، ولكنَّ اختيارَ الله لخَلقه على قَدْرِ عِلْمِه الماضي لهم"، وأطال في خطابه واسترسل حتى قال له يذكره: " لقد خرج عمُّك الحُسيَن على ابن مَرْجانة ( ويقصد به أبو حفص، عبيد الله بن زياد ابن أبيه، ولي خراسان، في عهد معاوية وابنه يزيد، وهو قاتل الحسين بن علي "الذهبي: سير أعلام النبلاء 3/546)، فكان الناس معه عليه حتى قَتلوه وأَتَوْا برأْسِه إليه، ثم خرجتُم على بني أُميَّة فقتَّلوكم وصَلَّبوكم على جُذوع النخل، وأحرقوكم بالنِّيرانِ، ونَفَوْكم من البُلدان، حتى قُتل يحيى بن زيد بأرض خُراسان، وقَتلوا رجالَكم، وأسروا الصِّبية والنِّساء، وحَملوهم كالسَّبي المجلوب إلى الشام، حتى خرجنا عليهم، فَطلبنا بثأرِكم، وأدْركنا بدمائكم، وأورثناكم أرضَهم وديارَهم وأَموالَهم، وأردنا إشراككم في مُلكنا، فأبيتم إلاَّ الخروجَ علينا"، ثم أنهى خطابه بالقول: وقد علمت أنَّ المكْرمة في الجاهلية سِقَايَةُ الحاجِّ الأعظم وولاية بئر زمزم، وكانت للعبَّاس، وقد نازعَنا فيها أبوك، فقضى لنا بها رسولُ الله، فلم نَزل نَليها في الجاهليَّة والإسلام، فقد علمتَ أنه لم يَبْق أحدٌ مِن بعد النبيِّ من بني عبد المطلب غير العبَّاس وحدَه، فكان وارثَه من بين إخوته، ثم طَلَبَ هذا الأمرَ غيرُ واحد من بني هاشم، فلم يَنله إلاَّ ولدُه، فالسقاية سقايتُنا، وميراث النبيِّ ميراثُنا، والخلافة بأيدينا، فلم يبقَ فَضل ولا شَرف في الجاهليَّة والإسلام إلاَّ والعبَّاس وارثه ومُورِّثه"، خرج "محمد" النفس الزكية بعد الخطاب ثائراً بالمدينة سنة 145هـ، وبويع له فى كثير من الأمصار وخرج أخوه "إبراهيم" بالبصرة، واجتمع معه كثير من الفقهاء، وغلب أتباعه على فارس وواسط والكوفة، وشارك فى هذه الثورة كثير من الأتباع وكانت المواجهة العسكرية أقرب للمجازر، واستطاعت في النهاية جيوش أبى جعفر أن تهزم "النفس الزكية" بالمدينة وتقتله وتفصل رأسه عن جسده، وتقضى كذلك على أتباع إبراهيم أخيه فى قرية قريبة من الكوفة وتقتله وتفصل رأسه أيضاً.
بمقتل " النفس الزكية" ظهر دور عمه الحسن ( الأنور) والد السيدة نفيسة رضي الله عنها حيث كان أهل المدينة وما حولها في شدة الغضب من أبو جعفر المنصور الذي سار على نهج سلفه من بني أمية في قتل أحفاد رسول الله، ولكي يُطفئ "أبو جعفر المنصور" نيران هذا الغضب الذي ربما يطيح بعرش خلافته قرر أن يسامح من وقف إلى جانب ثـورتي محمد وأخيه إبراهيم بالمدينة، ولاسيمـا من الشخصيات البـارزة في المجتمع، سـواءً في الحجاز أو في العـراق، ومـن هؤلاء الإمــام أبو حنيفة، والفقيه عبـد الحميد بن جعفر، وابن عجــلان، والإمــام مـالك بن أنس، ولما اطمأن الخليفة إلى موقف الإمام جعفر الصادق أكرمه وبره، ثم ولى على المدينة المنورة "الحسن ( الأنور ) بن زيد بن الحسن" عم " النفس الزكية" ووالد السيدة "نفيسة" وأبقاه والياً علي المدينة المنورة خمس سنين (لأنه لم يشترك في ثورة محمد النفس الزكية) فظل والياً عليها من سنة 150-155ﻫ/767-772م، وحين هدأ غضب الفقهاء والناس وسادة بني هاشم في المدينة وما حولها وأذعن الجميع للأمر الواقع بخلافة أبو جعفر المنصور وأنه قد صار بالفعل "أمير المؤمنين" وثاني الخلفاء العباسيين قام أبو جعفر بخلع "الحسن الأنور" من ولاية المدينة المنورة ولم يكتف بذلك وحسب بل قام بسجنه ثلاث سنوات، ثم أرسل له رسول بالسجن ليختار بين السجن أو الرحيل لبلد يختارها فأختار "مصر" ليرحل إليها هو وأهله، وبالفعل رحل "الحسن الأنور" هو وجميع أهله إلى مصر، واستقبل قدومهم جمع غفير من أهل مصر بمدينة "العريش" بسيناء وظلوا يرافقونهم حتى دخلوا مدينة الفسطاط حيث استقبلهم والي مصر "الحسن بن البحباح".
قرر حسن الأنور أن يقيم على أطراف مدينة الفسطاط ( المكان المعروف حالياً " الجيارة") أما السيدة نفيسة وزوجها "إسحاق المؤتمن بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب" فأقاما في منزل أحد الأعيان تحت سفح المقطم في المنطقة التي تعرف اليوم بسوق الجمعة أمام مسجد السيدة عائشة بطريق مسجد الإمام الشافعي وكان يدعى هذا الرجل المصري " جمال بن عبد الله الجصاص" وكان تاجراً وربما جاء لقبه " الجصاص" نسبة إلى حرفته أو حرفة أبيه في صناعة " الجص " في العمارة وخاصة عمارة المساجد والأضرحة ، وقد كانت هذه المنطقة صحراء خالية تماماً من أي روح لكونها على أطراف الفسطاط العاصمة وخارج أسوارها وتقع وسط مقابر المسلمين الذين أشتروا أرضها أسفل جبل المقطم من أقباط مصر ( طريق اوتوستراد المعادي وحلوان حالياً )، وكان للجصاص أرض ينوي إنشاءها مقبرة له ولأبنائه في أعلى أحد تلال جبل المقطم ( بالقرب من مقام الشيخ أحمد بن عطاء السكندري حالياً ) فاختارتها السيدة نفيسة " صومعة " تعتزل فيها ليلاً لتصلي وتقرأ القرآن ومازالت هذه "الصومعة" موجودة حتى الآن باسمها وهي تسع شخصين فقط للصلاة لضيق حجمها لكونها أقرب لكهف صغير محفور في أعلى التبة وقد حالفني الحظ ذات مرة وزرتها وصليت فيها، وحين علم الإمام الشافعي في محبسه بالكوفة الذي سجنه فيه أبو جعفر المنصور بسبب فتاواه التي تؤيد " النفس الزكية" وتدعم موقفه في الثورة قرر إن خرج من سجنه ليذهبن إلى مصر ليكون بجوار الشيخ "حسن الأنور" وأبناءه وبالفعل حين فك الله أسره جاء إلى مصر وقرر أن يختار مكاناً بالقرب من إقامة السيدة نفيسة وزوجها اسحاق المؤتمن بدار " الجصاص" فكان مقامه على مقربة شديدة من دارهما ( في مكانه الحالي المعروف بمسجد الإمام الشافعي)، وكان الشافعي يعتبر السيدة نفيسة هي سيدة العلم إذ تربت في مسجد الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، وأخذت عن علمائه ما يدفعها لقمة هرم العلم الديني والفقهي ولعل أهم من التقت بهم في المسجد النبوي كان الإمام "مالك " الذي أخذت عنه العلم من كتابه "الموطأ" إذ كان فقهه حديث الأمصار في كل بلاد المسلمين، ومن ثم كان الشافعي دائم الزيارة لها ولزوجها يسألها ويحاورها ويدعوها دوماً للدعاء إليه، كما كانت علاقته بزوجها هي علاقة تلميذ بأستاذة إذ أن أستاذ الشافعي الذي تتلمذ الشافعي على يديه كان دائم القول عن "إسحاق المؤتمن": حدثني الثقة، حدثني الرضا، حدثني "إسحاق المؤتمن بن جعفر" وحتى بعد أن أمر أحد أمراء مصر في ذلك الوقت وهو " السري بن الحكم " بأن يهديها داراً واسعة كان قد أنشأها في "درب السباع" وقبلتها ( حيث مسجدها ومقامها الحالي ) ظل الإمام الشافعي يزورها هو وتلاميذه ومنهم ذو النون المصري وعبد الله بن الحكم والربيع المرادي والربيع الجيزي وغيرهما.
أحب المصريون السيدة نفيسة حباً جماً لدرجة أنهم أخذوا في بناء بيوتهم الجديدة بجوارها وبجوار منزلها في " درب السباع" حتى عمرت الصحراء المحيطة ببيتها ببيوت وقلوب المحبين لها، كما عرفوا أيضاً جرأتها في الحق فاشتكوا لها ظلم بعض أمرائهم الذين يسرقون الناس ويتحكمون في الأرزاق فخرجت السيدة نفيسة من دارها ذات يوم وكانت قد علمت أن والي مصر سيمر بجوارها حتى جاء فصرخت فيه قائله: "ملكتم فأسرفتم وقدرتم فقهرتم وخولتم ففسقتم وردت إليكم الأرزاق فقطعتم ،هذا وقد علمتم أن سهام الأسحار نافذة غير مخطئة لاسيما من قلوب أوجعتموها ..وأكباد جوعتموها.. وأجساد عريتموها.. ومحال أن يموت المظلوم ويبقى الظالم ،اعملوا ما شئتم فإنا صابرون.. وجاوروا فانا مستجيرون ..وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) سمعها جيداً وما أن انتهت من صرختها حتى خر الحاكم باكيا ووقف بين يديها ووعد بالتغيير ونفذه بالفعل الأمر الذي فاض على المستجيرين بها عدلاً وإحسانا.
عُرفت أيضاً السيدة نفيسة بكرامات لها كثيرة وقد ذكر ابن حجر رضي الله عنه نحواً من مائة وخمسين كرامة، أما هي رضوان الله عليها فحينما واجهوها بذلك قالت: "أما فيما يتعلق بما سماه الناس لي من كرامات فهذه ليست إلا من قبيل النوع الذي يقود إلى الطاعة، والسير فيما يرضي الله، حتى يصل من شاء الله له بالهداية إلى منازل الصالحين" وفي شهر رجب من عام 208 هـ أصاب السيدة نفيسة مرض أقعدها عن الحركة وصار يزداد، فأحضروا لها الطبيب فأمرها بالفطر، فقالت: واعجباه! لي ثلاثين سنة وأنا أسأل الله أن يتوفاني وأنا صائمة، أأفطر؟!، وكانت ترقد ومن وراءها ستار يخفي وراءه ( القبر ) الذي حفرته بيدها لنفسها فقالت للمحيطين بها بعد أن أزاحت جزءاً من الستار وهي تشير للقبر: "هذا قبري، فإذا متُّ فأدخلوني فيه"، فلمّا فاضت روحها الطاهرة الشريفة دفنت في قبرها الذي حفرته بيدها، رضي الله عنها وعلى جدها سيدنا النبي محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الصلاة والسلام.