الثلاثاء، 26 يونيو 2018

الإنسانية .. العدالة .. الحرية ( من القصص السياسي )


( مشهد سينما خيالي لا يمت ولا يرمز للواقع بأي صلة وإن مس هامش من واقع فهو محض صدفة لا علاقة للكاتب بها )

انزعج العمدة ( عبد الجليل ) من كتابات هذا الصعلوك الحقير .. فأمر شيخ الغفر بأن يأتوا بهذا الضال صاحب المنشور .. ليأتوا به .. وينالوا منه .. فجاءوا به .. أجلسوه وحده في غرفة مظلمة بعد أن أزالوا الغمامة من فوق عينيه.. يومان كاملان لا يدري أين هو .. لا طعام .. لا نوم .. فقط ( دورق ) مملوء بالماء ليملأ به جوفه إن شعر بألم الجوع في معدته الفارغة .. لم يدخل عليه أحد .. لا أحد .. مسألة أقرب للحرب النفسية .. تكسير نفسيته .. هزيمته دون أي مواجهة .. إنهم يمارسون معه نوعاً من الانهيار الذاتي .. يتركوه وحيداً حتى تقفز أفكاره السوداء بأسئلتها السوداء في فراغ الغرفة المظلمة ثم لا يجد سوى اليأس فيسقط .. وحين يسقط يستطيعون الحصول على كل ما يريدونه من إجابات .. هو لا يريد سوى ( الإنسانية ) .. عدالة العمدة التي تتيح حدود الرضا عند الناس ليمارسوا إنسانيتهم الطبيعية دون أن يعيشوا حالة من الانسحاق .. عدالة العمدة لتستشعر الناس النور .. عدالة العمدة في قريتنا ليمارس الفلاحين حرية وجودهم كبشر وليس كبهائم .. هذه هي إجابته الوحيدة التي يمتلكها .. لا يريد شيئاً آخر.
اليوم الثالث .. فتح أحدهم الغرفة وكان ملثماً .. بينما النور المتسلل من باب الغرفة المفتوح كاد أن يفتك بعينية المجهدتين بفعل الظلام .. ألقى ( الملثم ) في وجهه كومة من الورق .. مئات الأوراق مدوناً فيها كل كلمة كتبها منذ خمسة عشرة عاماً .. وبعض الصور الأبيض والأسود منذ أن كان في المهد صبيا .. أقرأ كتابك !!
أطلقوا سراحه سراحاً مشروطاً .. كان شرطاً وحيداً .. أن لا يكتب .. فكتاباته تستفز الفلاحين .. والفلاحين إذا غضبت ستثور على العمدة .. وبنبرة يملأها التهديد رسموا له مستقبلاً أسوداً في حال كتب وأنزعج العمدة مما يكتب حيث في انزعاج العمدة .. ما تدري نفس ماذا تكسب غداً .. وما تدري نفس بأي أرض تموت .. نظر سبعة رجال ملثمون بأعينهم الجامدة من خلف اللثام في وجهه بنظرات تحدي قاتم وبفراغ روح معتم شعر من قسوته بمدى الغضب الذي يختزنونه إن فعل عكس ما يملونه عليه من تهديد .. وضع أحدهم غمامة فوق عينيه .. وساقوه إلى حيث ما يعتقد أنه مصيره المجهول .. بعد ثلاث ساعات من ركوب سيارة بصحبة أحدهم توقفوا فجأة .. أخرجوه من السيارة .. حملوه من يديه ومن قدميه .. ثم شعر أنه تم إلقاؤه في الماء .. حاول أن يخلص عينيه من الغمامة التي ربطوه بها .. وحين فتح عينية وجد نفسه وسط النهر .. ولا أثر لهم .. عاد لبيته بمعجزة .. وكان شبه عاجز عن الحركة من شدة الإجهاد .. إنه لا يريد من الحياة الدنيا الآن سوى أن ينام .. يناااااام .. خلع ملابسه تماماً حتى صار عارياً تماماً كيوم ولدته أمه .. ألقى بنفسه فوق سرير غرفة نومه .. نظر إلى سقف الغرفة لمدة ساعة .. ثم استلقى على جانبه الأيمن فوجد قلمه .. تذكر آخر كلمه قالوها له قبل أن يلقوا به في النهر .. تذكر سراحه المشروط بعدم الكتابة أبداً .. أن ينسى أنه كان في يوم من الأيام كاتباً .. فكتاباته تستفز الفلاحين .. تذكر المشهد الأخير مع ( الملثمين ) .. تذكر كيف رسموا له مستقبلاً أسوداً في حال كتب وأنزعج العمدة مما يكتب وحيث في انزعاج العمدة .. ما تدري نفس بأي أرض تموت .. نظر للقلم نظرة المتوجس .. راجع تاريخ حياته في لحظة .. ثم أدرك أن القلم هو محرك روحه .. القلم وجوده .. القلم أثره الباقي .. نهض بخفه كأنه شاب في الثامنة عشرة .. ألتقط القلم .. فتح صفحة جديدة بيضاء .. وبدأ بعناد شديد وبإصرار مدهش .. يكتب .. ( الإنسانية ) .. العدالة .. الحرية .. هذه هي الكلمات الثلاث التي تزعج العمدة وحيث في انزعاج العمدة .. ما تدري نفس بأي أرض تموت !! .. لتموت النفس إذن .. ولكن .. لتكن ميتة الشرفاء !!
بقلم: محيي الدين إبراهيم
كاتب وإعلامي مصري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق