الأربعاء، 20 يونيو 2018

ولا الضالين .. آمين ( قصة مستندة على احداث حقيقية )

 درويش الأعمي .. ( مؤذن ) مسجد قريتنا الكفيف .. كان بيته على بُعد نصف ميل من المسجد .. لم يكن بيتاً بالمعنى المتعارف عليه .. فقط غرفة من الطين بسقف من ( سعف ) النخيل .. غرفة عارية تماماً من أي شئ .. كان فقيراً جداً لدرجة أنك تندهش من فقره .. بل وكأن الله خلق الفقر على هيئة درويش الأعمى !! .. توفى والده وهو في سن السابعة من ( عضة ) كلب .. كان يمكن أن تكتب لأبيه النجاة لو تم حقنه لمدة 21 يوماً بحقنة داء الكلب .. لكن أكتفى أهل قريتنا أن يرسلوا له حلاق قريتنا ( حامد أبو عيشة ) ليضع فوق الجرح الغائر من ( ناب ) عضة الكلب بعضاً من حبات الإسبرين المسحوق .. فمات المسكين بعد ثلاثة أيام وتم دفنه بملابسه فلم تكن تمتلك زوجته مايمكنها من شراء ( كفن ) .. لكنها تمكنت من تربية ( درويش ) قدر استطاعتها في خدمة بيوت الفلاحين الأثرياء .. كان درويش ذكياً .. يحفظ كل مايستمع إليه بمجرد أن يقال مرة واحدة .. في سن التاسعة كان قد حفظ القرآن لمجرد أنه كان يجلس في إحدى زوايا المسجد بعيداً .. يستمع للشيخ وهو يلقن أبناء الفلاحين دروس حفظ القرآن ليتمكنوا من دخول الأزهر .. كان أبناء الفلاحين بمجرد الإنتهاء من دروس حفظ القرآن يذهبوا إليه .. ثم يقيموا حلقة من حوله .. ثم يصرخون ويتصايحون وهم يرددون: الأعمي آهو .. الأعمى آهو .. حتى ينقذه من يدهم الشيخ رضا .. وحين مات الشيخ رضا .. كان درويش في الثالثة والعشرين من عمره .. ولم يجد أهل ( قريتنا ) من يتولى أمور الآذان وقراءة قرآن الجمعة وتحفيظ أبنائهم القرآن الكريم .. إلا ( درويش ) .. ورغم أنه عملُُ يرتبط بشعائر الدين إلا أنه كان أشبه بالعبودية .. أشبه بالسخرة .. استعبده أهل قريتنا .. فقد كان لا يحصل مقابل ذلك إلا على رغيفين من الأرغفة الفلاحي كل يوم وصحن خضار مطبوخ من بقايا البيوت كل يوم خميس وقليل من الجبن القديم تكفيه وأمه طيلة الأسبوع .. كان راضياً .. لم نسمعه يشتكي أبداً .. بل أننا لم نسمع له صوتاً إلا في الآذان وقراءة وتحفيظ القرآن .. حين كبرت أمه في السن لم تعد تقوى على ( سحبه ) من يده في كل وقت صلاة إلا صلاة الفجر .. لتدفع عنه الكلاب .. كان يخاف من الكلاب بعد موت أبيه من عضة كلب .. ثم تنتظره حتى تنتهي الصلاة وتعود به لغرفتهما لينام .. ثم يأتي طفل من أبناء الأثرياء يسحبه من يده قبل صلاة الظهر بساعتين ميعاد دروس تحفيظ القرآن الكريم .. ويظل درويش بالمسجد حتى تنتهي صلاة العشاء .. فيسحبه أحد المصلين لغرفته حيث تكون أمه في استقباله .. هي تعلم أنه جائع .. فلم يتذكره أحد طيلة يومه ولو بنصف رغيف ( حاف ) .. كان من شدة التعب ينام وهو يأكل ويستيقظ على صوت أمه قبل صلاة الفجر حتى يستعد معها للذهاب إلى المسجد ليؤذن للصلاة ويصلي بالناس .. في أحد الأعوام .. جاء الشتاء قاسياً .. عنيداً .. جاء الشتاء لا يحمل في رحم أيامه شفقة .. كان هطول أمطاره كطلقات الرصاص حتى غرقت غرفته التي ينام على أرضها الطينية إلى أن اصبح النوم فيها مستحيلاً .. مستحيل الصقيع .. ومستحيل السقف المفتوح على السماء .. ومستحيل الأرض المبللة دوماً بالماء .. كان الفلاحون يمرون من أمام غرفته يومياً أثناء عودتهم من الحقول .. ولم يفكر واحد فيهم رفع جزء من معاناة هذا الشاب البائس الفقير .. في الثالث من شهر ديسمبر .. خرج من صلاة الفجر متأخراً لدرجة أن أمه كاد قلبها أن يتوقف من شدة تأخره .. لكنها وجدته خارجاً حاملاً ( حصيرة ) من حصائر المسجد لينام فوقها مع أمه وتحجز بينه وعظامه وبين رطوبة طين أرضية غرفته .. وحين سألته عنها .. أجابها: هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ .. حين أشرقت الشمس .. كان معظم فلاحين قريتنا يحملون ( فؤوسهم ) ويحيطون بغرفة ( درويش الأعمى ) لص حصائر المسجد .. ليهدموا الغرفة فوق رأسه ورأس أمه .. أول مرة تتحد قلوب فلاحين قريتنا على قلب رجل واحد .. دخل أحدهم الغرفة بالقوة .. سحبه بالقوة ولم يرحم ( عماه ) .. ألقاه كالكلب بين الفلاحين الغاضبين ليقيموا عليه حد السرقة .. وهنا .. هنا فقط سمعنا صوت درويش لأول مرة .. درويش الثائر .. درويش الغاضب .. نهض من سقطته وواجه الجميع: ماذا تريدون مني أيها الضالون .. يامن تتوسلون لله زوراً أن يكشف عنكم الضر وأنتم أهل ضر .. بلد شر وأهلها شر وأهل شر .. ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) .. أنتم كالأنعام بل أنتم أضل .. تقرأون القرآن لايصل حناجركم من شدة ضلالكم .. وبخل نفوسكم .. وقساوة قلوبكم .. تلك القساوة التي دفعتني لمنزل العاطي الوهاب .. لبيت الله .. للرحمن الرحيم .. لمسجده .. لم أجد سواه لأنجو ببدني وأمي بحصيرة منه أفرشها فوق ارضية غرفتي لأستطيع أن أنام بعد أن أكل الصقيع جسدينا وكاد أن يقتلنا على مرأي منكم وليس فيكم محسن .. حصيرة من بيت الرحمن تحافظ على ماتبقى في جسدي من قوة أقوى بها على أن أصلي بكم عسى أن تلين قلوبكم التي كالحجارة .. ( وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) .. ياكفرة !!
أجلس الآن بين صلاة المغرب والعشاء بمسجد قريتنا بعد التجديدات والتوسعة .. أجلس ممتلأ بالحماس لسماع بقية الحكاية من الشيخ ( عبد المعطي طناني ) .. مستندين أنا وهو على حائط غرفة ملحقة بالمسجد منذ ثمانين عاماً .. قرر الفلاحين بنائها للشيخ درويش بعدما أبكاهم بثورته وغضبه .. فعادوا من حيث أتوا .. ثم قرروا بناء تلك الغرفة له ولأمه ملحقة بالمسجد على أن يمنحوه مبلغاً شهرياً يعينه على المعيشة وأيضا ليحافظوا على ما تبقى لهم من عفو .. يعفو به الله عنهم وعن ماأقترفوه في حق درويش .. هب الشيخ عبد المعطي واقفاً فقد إقترب ميعاد آذان العشاء .. ثم أشار لي نحو شاب يقف بالقرب من المحراب ثم قال: عزوز .. حفيد الشيخ درويش الله يرحمه .. هو من سيؤذن لصلاة العشاء !!
بقلم محيي الدين إبراهيم
كاتب وإعلامي مصري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق