الاثنين، 11 مايو 2015

مدد ..


mohi_ibraheem
بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com

كان في قريتنا ( عبيط ) إن خاطبته وظن أنك تهزأ به قضى على كرامتك حتى تصير سخرية القرية من أقصاها إلى أقصاها .. كان يريد أن يخاطبه الجميع كما يخاطبون ( العمدة ) .. كان يدعي معرفة كل شئ حتى لماذا قاموا بتسمية ( أمك ) بإسمها .. ولماذا أعطاه الله علماً ( لدنياً ) حتى صار ظاهره أمان لباطنه من عبث الجاهلين بعلمه .. كان يصر على الصلاة ( إماماً ) بالناس وكانوا ينصاعون لإمامته خوفاً من إهانته .. كان يؤم الناس عارياً كما ولدته أمه ويمسك بيده اليمنى سيفاً خشبياً ليلكز كل من يتحرش به في ركوعه أو سجوده .. مرت عشرة أعوام سافرت فيها خارج البلاد عرفت فيها أنه أصبح نائب قريتنا في البرلمان بدعم من العمدة نفسه دورة برلمانية كامله ! .. وحين مات أقاموا له مقاماً فاخراً في وسط قريتنا وأطلقوا عليه " مقام سيدي العبيط" أقف أمامه الآن أقرأ الفاتحة وأطلب .. المدد !

 

مدد ..


mohi_ibraheem
بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com

كان في قريتنا ( عبيط ) إن خاطبته وظن أنك تهزأ به قضى على كرامتك حتى تصير سخرية القرية من أقصاها إلى أقصاها .. كان يريد أن يخاطبه الجميع كما يخاطبون ( العمدة ) .. كان يدعي معرفة كل شئ حتى لماذا قاموا بتسمية ( أمك ) بإسمها .. ولماذا أعطاه الله علماً ( لدنياً ) حتى صار ظاهره أمان لباطنه من عبث الجاهلين بعلمه .. كان يصر على الصلاة ( إماماً ) بالناس وكانوا ينصاعون لإمامته خوفاً من إهانته .. كان يؤم الناس عارياً كما ولدته أمه ويمسك بيده اليمنى سيفاً خشبياً ليلكز كل من يتحرش به في ركوعه أو سجوده .. مرت عشرة أعوام سافرت فيها خارج البلاد عرفت فيها أنه أصبح نائب قريتنا في البرلمان بدعم من العمدة نفسه دورة برلمانية كامله ! .. وحين مات أقاموا له مقاماً فاخراً في وسط قريتنا وأطلقوا عليه " مقام سيدي العبيط" أقف أمامه الآن أقرأ الفاتحة وأطلب .. المدد !

 

الاثنين، 4 مايو 2015

ورحل الأبنودي .. رحل ( خال ) المصريين

mohi_ibraheem
بقلم: محيي الدين إبراهيم
تحدثت مع الأستاذ والناقد الكبير توفيق حنا وأقنعته بنشر كتاب شرط أن يقدم الكتاب شخصية مشهورة جداً واقترحت الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي .. حينها لمعت الفكرة في عقل الأستاذ توفيق حنا وقال لي: انت اخترت تلميذي .. عبد الرحمن الأبنودي تلميذي ولن يرفض .. أنا هكلمه فوراً
رحم الله الخال الذي وجه رسالة بمثابة وصيته للمصريين، حين قال: أنا عبد الرحمن
الأستاذ وتلميذه .. ا.توفيق حنا مع تلميذه عبد الرحمن الأبنودي بالإسماعيلية
الأبنودي، عشت حياتي طفلاً، أكلوا ذراعي عملت بالذراع الآخر، ظلموني فرفضت أن أظلم، من أحبوني كان رد فعلي هو غرامي بهم، أنا أحببت هذا الوطن وأحببت هذه الأرض، وأحببت الناس وأنا ابن ناس فقراء للغاية، وعملت في الأرض بيدي”. ثم أكمل الأبنودي قائلاً “اسمحوا لي أن أحيي الشعب المصري وأقول لهم (لا تنسوني)”، مشيراً إلى كونه يعيش في قرية بعيدة، في إشارة إلى منزله بمحافظة الإسماعيلية، كما أن مقبرته شيدها في مكان بعيد، لا يريد أن يتم لفه بالعلم أو حتى بـ “ملايه” وقت دفنه. كما تحدث عمن يدين لهم بالمال “في ناس ليهم عندي فلوس، فاللي ليه عندي فلوس يسامحني، واللي ليا عنده فلوس، بناتي لسن أقل غلاوة من بناته”. وفي ختام كلماته تحدث الأبنودي عن الوضع السياسي “إحنا في زمن السيسي، نحن تلوثنا بما فيه الكفاية، وهذا الرجل جاء قطعة طيبة من عند الله، في زمن سيء بمصر”، داعيا الله أن يحسن أحواله وظروفه، لأنه جاء ومصر بحالة غير جيدة، وطالما أن الجيش المصري موجود ستظل مصر موجودة.

ولد الأبنودي عام 1939 في قرية أبنود بمحافظة قنا في صعيد مصر، لأب كان يعمل مأذونا شرعيا وهو الشيخ محمود الأبنودي، وانتقل إلى مدينة قنا وتحديداً في شارع بني علي، حيث استمع إلى أغاني السيرة الهلالية التي تأثر بها، وهو متزوج من المذيعة المصرية نهال كمال وله منها ابنتان آية ونور. من أشهر أعماله السيرة الهلالية التي جمعها من شعراء الصعيد ولم يؤلفها، ومن أشهر كتبه كتاب أيامي الحلوة الذي نشره في حلقات منفصلة في ملحق أيامنا الحلوة بجريدة الأهرام تم جمعها في هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة، وفيه يحكي الأبنودي قصصاً وأحداثاً مختلفة من حياته في صعيد مصر. يذكر أن الأبنودي قدم العديد من الأعمال الغنائية الدرامية لعدد من المسلسلات التي عرضت خلال السنوات الأخيرة، ومنها مسلسل “الرحايا”، وكتب أول قصيدة بعد ثورة 25 يناير اسمها “الميدان”، والتي كانت من تمائم الثورة في تلك الفترة، ثم كتب العديد من الأعمال في ثورة 30 يونيو. وحصل الأبنودي على لقب تميمة الثورات المصرية، فهو مغني الشعب بعد نكسة 67 بأغنية “وبلدنا على الترعة بتغسل شعرها”، وصاحب صرخة “مسيح”، إضافة إلى العديد من الأعمال الإبداعية منذ منتصف الخمسينيات، وحتى الآن مروراً “بالسيرة الهلالية” و”الأحزان العادية” و”المشروع الممنوع” و”صمت الجرس”، و”عمليات” و”أحمد سماعين”، وأعمال كثيرة أثرى بها الحياة الثقافية في مصر والعالم العربي.

حين قررت أنشاء دار نشر وإعلام في مصر كان من المهم أن يكون أول عمل يتم نشره لكاتب كبير .. تحدثت مع الأستاذ والناقد الكبير توفيق حنا – أطال الله لنا في عمره – وأقنعته بنشر كتاب له ولكن شرط أن يقدم الكتاب شخصية مصرية مشهورة جداً وليكن على سبيل المثال الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي .. حينها لمعت الفكرة في عقل الأستاذ توفيق حنا وقال لي: يامحيي ياابراهيم انت اخترت تلميذي .. عبد الرحمن الأبنودي تلميذي ولن يرفض .. أنا هكلمه فوراً .. فقلت:  ولكن يااستاذ توفيق أخشى أن يطلب مبلغاً كبيراً مقابل أن يكتب مقدمة الكتاب .. فقال الاستاذ توفيق حنا كلمة واحدة هي: مستحيل.
مر اسبوع واحد وكنت حينها في الولايات المتحدة بولاية مسيسيبي وفوجئت بمكالمة تليفونية .. آلو مين معايا .. أنا عبد الرحمن الأبنودي .. عبد الرحمن الأبنودي؟؟؟؟ .. عبد الرحمن الأبنودي مين؟؟ .. عبد الرحمن الأبنودي  بتاعنا؟؟ .. أيوة ياوليدي أنا خالك عبد الرحمن وعمك توفيق حنا هو اللي كتب لي رقم تليفونك وقال لي اتصل بيك .. لم اتمالك نفسي من السعادة .. قيمة كبيرة تساندك حتى تقف على قدميك .. قيمة كبيرة تدفعك للأمام دون مقابل .. قيمة كبيرة كان شرطها الوحيد للعمل أن تصبح دار النشر في زمن قصير دار كبيرة ومحترمة .. قيمة كبيرة لم يكتف بالدعم المعنوي والإبداعي بل ودعانا جميعاً لزيارته في منزله بقرية الضبعية بمحافظة الإسماعيلية لنقضي معه يوماً كاملاً من أروع أيام العمر حكى لنا فيها كثير من مواقفه وحياته ولحظاته الحرجة وربما أهمها علاقته بأم كلثوم وعبد الحليم ونجيب محفوظ بل واستاذه توفيق حنا الذي أكتشفه وهو مازال ( عود أخضر ) وقدمه للأضواء في القاهرة حيث قال الأبنودي عن استاذه توفيق حنا بعرفان حي ورد جميل واضح وروح مبدع عملاق واثق في نفسه:
الأستاذ “توفيق حنا” هو الكتاب الأهم الذي قرأناه فى تلك الفترة – منذ نصف قرن.
الأستاذ توفيق حنا سلط علينا ضوءه العبقري فأشرقت فى أرواحنا البكر آهات رائعة خضراء جديدة وكأنه استصلح أرضا لم تُزرع من قبل.
أستاذنا “توفيق حنا” هو الذي تسبب فى بداية شهرتنا. هو الذي أطلق الشرارة الأولى.
ولكنه اليوم يصر دائما على أن هذا لم يحدث … لاشك .. فمثل الأستاذ توفيق حنا المتصالح المصالح بصوره مطلقه يمكن له أن يطرد تلميذا مشاغبا من فصله.
على الرغم من ذلك أؤكد له دائما انه طردني من حصته الأولى بعد أن تطاولت عليه كعادتي فى استقبال المدرسين الجدد.
كان الأستاذ توفيق حنا نحيلا بصورة ملفتة، لم يختلف كثيراً عما هو عليه الآن. بهذا استقويت ولهذا طردت من الفصل الى الفناء كعادتي.
هو يصر دائما على أن هذا لم يحدث.
واظننى لم أر ذلك فى مشهد سينمائي كنت بطله .. فتشت فى ذاكرتي ربما حدث ذلك لي مع معلم آخر فاشتبكا فى ذاكرتي.
ماهى إلا أيام حتى اكتشفنا أن مدرسنا ليس مدرسا وإنما هو عاشق رومانسي لا يرى فى الحياة سوى خيرها وفى البشر سوى الجوانب الطيبة التي لم يلتفتوا إليها.
كنا فى الجنوب المصرى الأعلى، فى مدينة قنا. كنا نعانى فقرا حياتيا وثقافيا إذ كانت الكتب تنهك شديدا قبل أن تصل إلينا، ولم يكن يصل الى أيدينا منها سوى ما يفرّط فيه أصحابه.
كان الأستاذ “توفيق حنا” هو الكتاب الأهم الذي قرأناه فى تلك الفترة – منذ نصف قرن.

هبط بيننا كالمبشر الذي قرر أن يهدى شعب الغابة الى النور الذي لا ينطفئ.
كنا مجموعة من نابهين موهوبين فقيري الثقافة. الواقع يحاصر بلا رحمة، الحياة الاجتماعية، بُعد المكان الذي كان يبدو كالمنفى، ندرة الكتب أو المال الذي يأتي بها صاغرة الى عالمنا البعيد البعيد.
أبو الوفا القاضي الشاعر والمخرج المسرحي، أمل دنقل الشاعر الفذ المضئ الذي انتشر شعره فى الأمة العربية كلها. محمد سلامه آدم، أنا، لقد رحلوا جميعا الآن عداي.
فجأة اكتشفنا ذلك الأستاذ المختلف، أو اكتشفنا هو ليلتقطنا كلا على حده فتتحقق أخّوة ما سعى إليها معلم من قبل فى حياتنا الدراسية. راح يحدثنا عن القرية المصرية – كان يعرف عددها وكم أهْوّلنا الرقم فى زمن لم نكن رأينا فيه حتى قرى بعضنا البعض رغم صداقة أهالينا”.
أشبه بقطع الحلوى راح يخرج من جيوبه مواويل وأغنيات وكلمات نور من حولها ويرينا ما غفلت أعيننا عن التقاط جمالياته المختبئة في استعمالاتنا اليومية لها. لنكتشف أننا نملك كنوزا حقيقية نتجاهلها بحثا عن غير الجوهري.

المواويل التي كانت تنزلق على الأذن اليومية، سلط الأستاذ توفيق حنا عليها ضوءه العبقري فأشرقت فى أرواحنا البكر آهات رائعة خضراء جديدة وكأنه استصلح أرضا لم تُزرع من قبل.
جرى “محمد سلامة آدم” ليكتب عن قريته (البارود)، وكتب “أبو الوفا القاضي” ملحمته الشعبية بلغة المحكية فى بلدته (فرشوط) أما شاعرنا العظيم “أمل دنقل” فراح يكتب قاموسا متواضعا للألفاظ اليومية المغايرة للسان المصرى من قريته (القلعة).
أما أنا فقد عدت من مدينة “قنا” الى قريتي (أبنود) أحاول أن أستمع الى أغنيات السواقي ونوارج درس السنابل والصراخ في الشواديف التي تنقل الماء الى الأرض العطشى. اغانى الرعاة ومواويل الشباب وحكايات الكهول وأغنيات الحياة فرحا وحزنا وحياة وموتا.
بل لا أبالغ أن أستاذ المدرسة الثانوية هو الذي دفع بى دون أن يدرى أن أطارد شعراء الرباب والسير الشعبية لثلاثين عاما وأكثر لجمع “السيرة الهلالية”.
وقبل كل ذلك وبعده، فإن أستاذنا “توفيق حنا” هو الذي تسبب فى بداية شهرتنا. هو الذي أطلق الشرارة الأولى.

هو أول من اعترف بنا – بخلاف أصدقائنا- ورأى أننا نستحق أن نُسمع فى القاهرة، فأتفق – بعد انتهاء فترة انتدابه وعودته الى العاصمة – مع مركز الفنون الشعبية وكان مؤسسة جديدة النشأة لكي نقيم أمسية شعرية: أمل دنقل وأنا كنا قد بدأنا وضع أقدامنا على أعتاب نضج، ونجحت الأمسية بعد أن قدمنا الأستاذ الى حضور كثيف لأدباء ومثقفي مصر من أحباب الأستاذ توفيق ليصير معظمهم أصدقاء لنا بعد ذلك وعدنا وقد وهبتنا تلك الأمسية ثقة لا حدود لها فيما نفعل.

ورحل الأبنودي .. رحل ( خال ) المصريين

mohi_ibraheem
بقلم: محيي الدين إبراهيم
تحدثت مع الأستاذ والناقد الكبير توفيق حنا وأقنعته بنشر كتاب شرط أن يقدم الكتاب شخصية مشهورة جداً واقترحت الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي .. حينها لمعت الفكرة في عقل الأستاذ توفيق حنا وقال لي: انت اخترت تلميذي .. عبد الرحمن الأبنودي تلميذي ولن يرفض .. أنا هكلمه فوراً
رحم الله الخال الذي وجه رسالة بمثابة وصيته للمصريين، حين قال: أنا عبد الرحمن
الأستاذ وتلميذه .. ا.توفيق حنا مع تلميذه عبد الرحمن الأبنودي بالإسماعيلية
الأبنودي، عشت حياتي طفلاً، أكلوا ذراعي عملت بالذراع الآخر، ظلموني فرفضت أن أظلم، من أحبوني كان رد فعلي هو غرامي بهم، أنا أحببت هذا الوطن وأحببت هذه الأرض، وأحببت الناس وأنا ابن ناس فقراء للغاية، وعملت في الأرض بيدي”. ثم أكمل الأبنودي قائلاً “اسمحوا لي أن أحيي الشعب المصري وأقول لهم (لا تنسوني)”، مشيراً إلى كونه يعيش في قرية بعيدة، في إشارة إلى منزله بمحافظة الإسماعيلية، كما أن مقبرته شيدها في مكان بعيد، لا يريد أن يتم لفه بالعلم أو حتى بـ “ملايه” وقت دفنه. كما تحدث عمن يدين لهم بالمال “في ناس ليهم عندي فلوس، فاللي ليه عندي فلوس يسامحني، واللي ليا عنده فلوس، بناتي لسن أقل غلاوة من بناته”. وفي ختام كلماته تحدث الأبنودي عن الوضع السياسي “إحنا في زمن السيسي، نحن تلوثنا بما فيه الكفاية، وهذا الرجل جاء قطعة طيبة من عند الله، في زمن سيء بمصر”، داعيا الله أن يحسن أحواله وظروفه، لأنه جاء ومصر بحالة غير جيدة، وطالما أن الجيش المصري موجود ستظل مصر موجودة.

ولد الأبنودي عام 1939 في قرية أبنود بمحافظة قنا في صعيد مصر، لأب كان يعمل مأذونا شرعيا وهو الشيخ محمود الأبنودي، وانتقل إلى مدينة قنا وتحديداً في شارع بني علي، حيث استمع إلى أغاني السيرة الهلالية التي تأثر بها، وهو متزوج من المذيعة المصرية نهال كمال وله منها ابنتان آية ونور. من أشهر أعماله السيرة الهلالية التي جمعها من شعراء الصعيد ولم يؤلفها، ومن أشهر كتبه كتاب أيامي الحلوة الذي نشره في حلقات منفصلة في ملحق أيامنا الحلوة بجريدة الأهرام تم جمعها في هذا الكتاب بأجزائه الثلاثة، وفيه يحكي الأبنودي قصصاً وأحداثاً مختلفة من حياته في صعيد مصر. يذكر أن الأبنودي قدم العديد من الأعمال الغنائية الدرامية لعدد من المسلسلات التي عرضت خلال السنوات الأخيرة، ومنها مسلسل “الرحايا”، وكتب أول قصيدة بعد ثورة 25 يناير اسمها “الميدان”، والتي كانت من تمائم الثورة في تلك الفترة، ثم كتب العديد من الأعمال في ثورة 30 يونيو. وحصل الأبنودي على لقب تميمة الثورات المصرية، فهو مغني الشعب بعد نكسة 67 بأغنية “وبلدنا على الترعة بتغسل شعرها”، وصاحب صرخة “مسيح”، إضافة إلى العديد من الأعمال الإبداعية منذ منتصف الخمسينيات، وحتى الآن مروراً “بالسيرة الهلالية” و”الأحزان العادية” و”المشروع الممنوع” و”صمت الجرس”، و”عمليات” و”أحمد سماعين”، وأعمال كثيرة أثرى بها الحياة الثقافية في مصر والعالم العربي.

حين قررت أنشاء دار نشر وإعلام في مصر كان من المهم أن يكون أول عمل يتم نشره لكاتب كبير .. تحدثت مع الأستاذ والناقد الكبير توفيق حنا – أطال الله لنا في عمره – وأقنعته بنشر كتاب له ولكن شرط أن يقدم الكتاب شخصية مصرية مشهورة جداً وليكن على سبيل المثال الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي .. حينها لمعت الفكرة في عقل الأستاذ توفيق حنا وقال لي: يامحيي ياابراهيم انت اخترت تلميذي .. عبد الرحمن الأبنودي تلميذي ولن يرفض .. أنا هكلمه فوراً .. فقلت:  ولكن يااستاذ توفيق أخشى أن يطلب مبلغاً كبيراً مقابل أن يكتب مقدمة الكتاب .. فقال الاستاذ توفيق حنا كلمة واحدة هي: مستحيل.
مر اسبوع واحد وكنت حينها في الولايات المتحدة بولاية مسيسيبي وفوجئت بمكالمة تليفونية .. آلو مين معايا .. أنا عبد الرحمن الأبنودي .. عبد الرحمن الأبنودي؟؟؟؟ .. عبد الرحمن الأبنودي مين؟؟ .. عبد الرحمن الأبنودي  بتاعنا؟؟ .. أيوة ياوليدي أنا خالك عبد الرحمن وعمك توفيق حنا هو اللي كتب لي رقم تليفونك وقال لي اتصل بيك .. لم اتمالك نفسي من السعادة .. قيمة كبيرة تساندك حتى تقف على قدميك .. قيمة كبيرة تدفعك للأمام دون مقابل .. قيمة كبيرة كان شرطها الوحيد للعمل أن تصبح دار النشر في زمن قصير دار كبيرة ومحترمة .. قيمة كبيرة لم يكتف بالدعم المعنوي والإبداعي بل ودعانا جميعاً لزيارته في منزله بقرية الضبعية بمحافظة الإسماعيلية لنقضي معه يوماً كاملاً من أروع أيام العمر حكى لنا فيها كثير من مواقفه وحياته ولحظاته الحرجة وربما أهمها علاقته بأم كلثوم وعبد الحليم ونجيب محفوظ بل واستاذه توفيق حنا الذي أكتشفه وهو مازال ( عود أخضر ) وقدمه للأضواء في القاهرة حيث قال الأبنودي عن استاذه توفيق حنا بعرفان حي ورد جميل واضح وروح مبدع عملاق واثق في نفسه:
الأستاذ “توفيق حنا” هو الكتاب الأهم الذي قرأناه فى تلك الفترة – منذ نصف قرن.
الأستاذ توفيق حنا سلط علينا ضوءه العبقري فأشرقت فى أرواحنا البكر آهات رائعة خضراء جديدة وكأنه استصلح أرضا لم تُزرع من قبل.
أستاذنا “توفيق حنا” هو الذي تسبب فى بداية شهرتنا. هو الذي أطلق الشرارة الأولى.
ولكنه اليوم يصر دائما على أن هذا لم يحدث … لاشك .. فمثل الأستاذ توفيق حنا المتصالح المصالح بصوره مطلقه يمكن له أن يطرد تلميذا مشاغبا من فصله.
على الرغم من ذلك أؤكد له دائما انه طردني من حصته الأولى بعد أن تطاولت عليه كعادتي فى استقبال المدرسين الجدد.
كان الأستاذ توفيق حنا نحيلا بصورة ملفتة، لم يختلف كثيراً عما هو عليه الآن. بهذا استقويت ولهذا طردت من الفصل الى الفناء كعادتي.
هو يصر دائما على أن هذا لم يحدث.
واظننى لم أر ذلك فى مشهد سينمائي كنت بطله .. فتشت فى ذاكرتي ربما حدث ذلك لي مع معلم آخر فاشتبكا فى ذاكرتي.
ماهى إلا أيام حتى اكتشفنا أن مدرسنا ليس مدرسا وإنما هو عاشق رومانسي لا يرى فى الحياة سوى خيرها وفى البشر سوى الجوانب الطيبة التي لم يلتفتوا إليها.
كنا فى الجنوب المصرى الأعلى، فى مدينة قنا. كنا نعانى فقرا حياتيا وثقافيا إذ كانت الكتب تنهك شديدا قبل أن تصل إلينا، ولم يكن يصل الى أيدينا منها سوى ما يفرّط فيه أصحابه.
كان الأستاذ “توفيق حنا” هو الكتاب الأهم الذي قرأناه فى تلك الفترة – منذ نصف قرن.

هبط بيننا كالمبشر الذي قرر أن يهدى شعب الغابة الى النور الذي لا ينطفئ.
كنا مجموعة من نابهين موهوبين فقيري الثقافة. الواقع يحاصر بلا رحمة، الحياة الاجتماعية، بُعد المكان الذي كان يبدو كالمنفى، ندرة الكتب أو المال الذي يأتي بها صاغرة الى عالمنا البعيد البعيد.
أبو الوفا القاضي الشاعر والمخرج المسرحي، أمل دنقل الشاعر الفذ المضئ الذي انتشر شعره فى الأمة العربية كلها. محمد سلامه آدم، أنا، لقد رحلوا جميعا الآن عداي.
فجأة اكتشفنا ذلك الأستاذ المختلف، أو اكتشفنا هو ليلتقطنا كلا على حده فتتحقق أخّوة ما سعى إليها معلم من قبل فى حياتنا الدراسية. راح يحدثنا عن القرية المصرية – كان يعرف عددها وكم أهْوّلنا الرقم فى زمن لم نكن رأينا فيه حتى قرى بعضنا البعض رغم صداقة أهالينا”.
أشبه بقطع الحلوى راح يخرج من جيوبه مواويل وأغنيات وكلمات نور من حولها ويرينا ما غفلت أعيننا عن التقاط جمالياته المختبئة في استعمالاتنا اليومية لها. لنكتشف أننا نملك كنوزا حقيقية نتجاهلها بحثا عن غير الجوهري.

المواويل التي كانت تنزلق على الأذن اليومية، سلط الأستاذ توفيق حنا عليها ضوءه العبقري فأشرقت فى أرواحنا البكر آهات رائعة خضراء جديدة وكأنه استصلح أرضا لم تُزرع من قبل.
جرى “محمد سلامة آدم” ليكتب عن قريته (البارود)، وكتب “أبو الوفا القاضي” ملحمته الشعبية بلغة المحكية فى بلدته (فرشوط) أما شاعرنا العظيم “أمل دنقل” فراح يكتب قاموسا متواضعا للألفاظ اليومية المغايرة للسان المصرى من قريته (القلعة).
أما أنا فقد عدت من مدينة “قنا” الى قريتي (أبنود) أحاول أن أستمع الى أغنيات السواقي ونوارج درس السنابل والصراخ في الشواديف التي تنقل الماء الى الأرض العطشى. اغانى الرعاة ومواويل الشباب وحكايات الكهول وأغنيات الحياة فرحا وحزنا وحياة وموتا.
بل لا أبالغ أن أستاذ المدرسة الثانوية هو الذي دفع بى دون أن يدرى أن أطارد شعراء الرباب والسير الشعبية لثلاثين عاما وأكثر لجمع “السيرة الهلالية”.
وقبل كل ذلك وبعده، فإن أستاذنا “توفيق حنا” هو الذي تسبب فى بداية شهرتنا. هو الذي أطلق الشرارة الأولى.

هو أول من اعترف بنا – بخلاف أصدقائنا- ورأى أننا نستحق أن نُسمع فى القاهرة، فأتفق – بعد انتهاء فترة انتدابه وعودته الى العاصمة – مع مركز الفنون الشعبية وكان مؤسسة جديدة النشأة لكي نقيم أمسية شعرية: أمل دنقل وأنا كنا قد بدأنا وضع أقدامنا على أعتاب نضج، ونجحت الأمسية بعد أن قدمنا الأستاذ الى حضور كثيف لأدباء ومثقفي مصر من أحباب الأستاذ توفيق ليصير معظمهم أصدقاء لنا بعد ذلك وعدنا وقد وهبتنا تلك الأمسية ثقة لا حدود لها فيما نفعل.