الخميس، 21 يونيو 2018

سأعيش حمار .. وأموت حمار


( قصة قصيرة جداً مبنية على أحداث حقيقية )
أنا أحب الحياة .. ولأن الحرب كر وفر .. فأنا دائما أفر من الحزن ليس كفرار الجبان من عدوه .. وإنما كفرار المؤمن من ( الوباء ) .. منذ اليوم الأول للوعي وأنا أمارس صراع البقاء مع محيطي .. كنت أرسب في كلية الطب بالجامعة لمجرد أني أعبر عن رأيي بحرية .. كانوا يتعاملون مع المرضى كما يتعامل الجزارون مع الذبائح في السلخانة .. فاستمتعت بالرسوب محتفظاً ببقايا إنساني على أن أتخرج سريعاً ملفوفاً بالذل .. كنت في كل مستشفى أو شركة أرتبط بها يساومونني على أن أكون مليونيراً في أقل من عام أو أن أقدم استقالتي .. قدمت استقالتي في أكثر من أربعة عشرة شركة ومستشفى .. أقسم لي أحدهم أني ( حمار ).. سأعيش حمار .. وأموت حمار .. ورغم ذلك .. وربما لأني ( حمار ) .. كنت أخرج من كل واحدة فيها لا امتلك تذكرة الأوتوبيس وأنا مبتسم .. ذات يوم .. قررت دراسة المسرح .. ولأني لا امتلك مصاريف الدراسة .. عملت بمحل عصير قصب بأجر يومي .. كان العمال ينادونني بالدكتور لعلمهم أني طبيب بشري خالي شغل .. وكنت بالمحل متخصص بالشاورما .. رغم أنه محل عصير .. وتخرجت من معهد المسرح .. تعلمت فيه كيف أكتب عن الحياة من منظور مختلف .. كتبت ثلاثين عملاً مسرحياً .. وكلها قوبلت بالرفض .. أقصد أنا قوبلت بالرفض .. فقد كانت المساومة هذه المرة على ( الشرف الإنساني ).
كان شهر يوليو حار جداً هذا العام .. فقررت السفر 24 ساعة لشاطئ البحر .. هناك مقهى كنت دائماً ما استمتع بالجلوس فيه منذ أن كنت طالباً بكلية الطب .. فجأة ظهر .. تربينا معاً في نفس الحي ونحن صغار .. ثم فجأة أختفى .. ترك أبوه العاصمة ورحل وأخذه معه ولم نسمع عنه من حينها .. ( محمود .. مش ممكن .. مستحيل .. بعد 25 سنة ضياع .. أشوفك بالصدفة كدة يابني آدم .. وأشوفك فين؟ .. هنا !! .. في القهوة الحقيرة دي !! ) .. كان محمود كابتن بحري على إحدى المراكب التجارية التي تجوب العالم .. يعيش في البحر أكثر مما يعيش على اليابسة .. في أقل من ثلاثة أيام كنت بأوراق رسمية مساعد طبيب المركب .. سبع سنوات كاملة لم تطأ فيها قدماي اليابسة إلا عدة مرات قليلة .. ربما لا تتجاوز في مجملها ثلاثة أشهر .. أنا اليوم نائب مدير مستشفى الرحمة بولاية ( إلينوي ) الأمريكية منذ عامين .. مازلت أحرص على الذهاب للمسرح مرتين في الشهر .. وأحتسي فنجان قهوة عربي في مطعم شامي بجوار المستشفى .. رزقني الله بطفلة لا تكف عن الفرح والضحك .. صورة طبق الأصل من أمها التي تعرفت عليها في المركز الإسلامي في أحد أيام عيد الفطر وتزوجتها في اليوم التالي .. لم ينتصر الحزن على الإنسان الذي بداخلي يوماً .. بل أني مازلت أنتصر عليه مع كل مريض يخرج من تحت يدي معافاً وقد تحول حزنه إلى فرح وموته إلى حياة .. أنا هنا داخل السيارة بانتظار ( ثريا ) الصغيرة .. أنتظر ابنتي أثناء خروجها من المدرسة .. هاهي قد جاءت .. تحمل نفس ضحكة أمي .. مرحبا ( ثريا ) .. أين قبلة دادي .. لقد أعدت لك ماما اليوم .. مفاجأة !!
بقلم: محيي الدين إبراهيم إسماعيل
كاتب وإعلامي مصري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق