‏إظهار الرسائل ذات التسميات سير وتراجم. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات سير وتراجم. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 3 مايو 2016

عندما يتفق ( صلاح جاهين وسيد مكاوي ) على الموت في يوم واحد !

mohi_ibraheem

 

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com

" لموا الكراريس" التي غنتها الفنانة العظيمة شادية بمناسبة قتل اطفال مدرسة بحر البقر، أغنية انفعل بها ( مكاوي ) واستشعر حينها ( مكاوي ) بكلمات رفيق دربه صلاح جاهين وبأنه يجب عليه أن يرسل من خلالها رسالة للعالم .. أن يصرخ بفنه .. يغضب .. يحمل السلاح .. ولكن سلاح من نوع خاص .. سلاح إلهامه .. إيمانه بوطنه .. 

صلاح جاهين ومن بعده سيد مكاوي، عملاقان، عاشا صديقين معاً، وأضاءا وجه مصر بإبداعاتهما معاً، وعبرا بفنهما عن الكرامة المصرية، والكبرياء المصري، بل ووجود مصر الحضاري والمعاصر، لكن من عجائب القدر أن كلاً منهما حين انتقل لجوار ربه إنتقل في 21 أبريل وكأنهما كانا على اتفاق فيما بينهما أن يموتا في نفس اليوم رغم السنين التي تفصل بين وفاة كل منهما عن الآخر.
صلاح جاهين، هذا الساخر المهموم، التي دعته حماسته بثورة 23 يوليو أن يكتئب من هزيمة يونيو ويعتزل الفرحة، لقد كان صلاح جاهين في وفاة أمل دنقل في قمة الاكتئاب، اكتئاب وصل إلى أعلى نقطة، كان كلما مشى في الشوارع التي اعتاد أن يمشي فيها إتهمه البعض ممن يعرفونه بأنه سبب ما تعيشه مصر من هزيمة فهو الذي هلل وكبر وغنى واتضح أن كل ما ردده الشعب المصري ورائه كان مجرد أوهام أدت لنكسة يونيو 1967، لم يستطع أن يقاوم، كان يستشعر أن كل أحلامه تخلت عنه، أحلام الثورة وأحلام الناصرية، وأحلام النصر، حتى اعترف عام 1986 بعد وفاة أمل دنقل بثلاث سنوات فقط لبعض أصدقائه أنه لا يدري هل كان يغني للناس أم يغني عليهم، ومات يوم 21 أبريل من نفس العام، كانت صاعقة لصديقه الذي ملأ مصر معه بالغناء للثورة وللنصر والهزيمة، سيد مكاوي، لقد كان النغم لكلمات جاهين، لم يفترقا، وحين مات جاهين، لم يذرف مكاوي دمعة واحدة، انتابته حالة من الذهول، ظل صامتاً حتى أخبرته إيناس أبنته بأن رفيق الرحلة سيخرج من مسجد عمر مكرم، ظل طوال الطريق صامتاً، غير مصدق أنه يمشي في جنازة صلاح جاهين، يمشي في جنازة من ملأ معه الدنيا صخباً وضجيجاً وضحكاً وسخرية والآن يواري جسده الثرى للأبد، لكنه لم يكن يعلم أنه سيلقاه في نفس اليوم 21 إبريل ولكن بعد 11 عام في 1997، فهل هذا هو عمق الارتباط بين الأصدقاء أم أنه القدر الذي لا يريد أن يحرمهما من ارتباط اسميهما حتى في يوم الوفاة، اصدقاء لا يمكن أن ننسى لهما روائع ما فعلاه لمصر سوياً بداية باحتفالات مصر بثورتها والغناء لها والاحتفاء بها ثم مروراً بأغاني أشبه بالمرثيات بعد نكسة 1967 وربما أهمها أغنية " لموا الكراريس" التي غنتها الفنانة العظيمة شادية بمناسبة قتل اطفال مدرسة بحر البقر، وهي أغنية انفعل بها ( مكاوي ) واستشعر حينها ( مكاوي ) بكلمات رفيق دربه صلاح جاهين وبأنه يجب عليه أن يرسل من خلالها رسالة للعالم .. أن يصرخ بفنه .. يغضب .. يحمل السلاح .. ولكن سلاح من نوع خاص .. سلاح إلهامه .. إيمانه بوطنه .. ويجب علينا أن نلاحظ هنا في هذا اللحن تحديداً اعتماد ( مكاوي ) على الجمل الأوبرالية المسرحية الأقرب للعالمية بغرض التعبير عن سيناريو الفساد والاحتلال والحرب وضياع الضمير الإنساني بقصف الأطفال في مدارسهم وعلى مقاعد الدرس ولم يتعد أكبر تلميذ فيهم العاشرة من عمره .. لقد كان اللحن وكأنه صور سينمائية متتابعة ومتلاحقة نجح فيه ( مكاوي ) بأن يفضح ضمير العالم كله وتحويل مأساته ومأساة شعبه من عمل يقتصر على مصر وحدها لعمل يخص العالم أجمع ويهز وجدانه لعله يستفيق .. ومن بعد هذا العمل العبقري استطاع جاهين ومكاوي أن يخرجا علينا بأعمال أخرى ستظل علامه في تاريخ الفن المصري والعربي ومن أهم تلك الأعمال الليلة الكبيرة ورباعيات جاهين، الحديث يطول عن عبقرية صلاح وجاهين وسيد مكاوي لكن شجن الذكرى يحصرنا في كلمات نحاول بها فقط التعبير عن عرفاننا بالجميل لهما عما قدماه للشعب العربي كله من فن، وأن نتذكرهما ونتذكر عجائب الأقدار التي جمعتهما معاً في الدنيا وجمعتهما معاً في يوم الوفاة الذي نعتبره رغم امتلائه بالحزن عليهما إلا أنه يمتلئ أيضاً بكل الفخر بهما، ولعلنا نذكر في هذا المقام ما قاله جاهين في إحدى رباعياته ولحنها سيد مكاوي وكأنها رباعية هي لسان حال كل منهما: 
مرغم عليك يا صبر مغصوب يا ليل
لا دخلتها برجليا ولا كان لى ميل
دخلت انا ف الحياه شايليننى شيل
وبكره حاخرج منها شايلينى شيل
وفي ذكراهما لا يسعنا سوى القول: رحم الله العملاقين


عندما يتفق ( صلاح جاهين وسيد مكاوي ) على الموت في يوم واحد !

mohi_ibraheem

 

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com

" لموا الكراريس" التي غنتها الفنانة العظيمة شادية بمناسبة قتل اطفال مدرسة بحر البقر، أغنية انفعل بها ( مكاوي ) واستشعر حينها ( مكاوي ) بكلمات رفيق دربه صلاح جاهين وبأنه يجب عليه أن يرسل من خلالها رسالة للعالم .. أن يصرخ بفنه .. يغضب .. يحمل السلاح .. ولكن سلاح من نوع خاص .. سلاح إلهامه .. إيمانه بوطنه .. 

صلاح جاهين ومن بعده سيد مكاوي، عملاقان، عاشا صديقين معاً، وأضاءا وجه مصر بإبداعاتهما معاً، وعبرا بفنهما عن الكرامة المصرية، والكبرياء المصري، بل ووجود مصر الحضاري والمعاصر، لكن من عجائب القدر أن كلاً منهما حين انتقل لجوار ربه إنتقل في 21 أبريل وكأنهما كانا على اتفاق فيما بينهما أن يموتا في نفس اليوم رغم السنين التي تفصل بين وفاة كل منهما عن الآخر.
صلاح جاهين، هذا الساخر المهموم، التي دعته حماسته بثورة 23 يوليو أن يكتئب من هزيمة يونيو ويعتزل الفرحة، لقد كان صلاح جاهين في وفاة أمل دنقل في قمة الاكتئاب، اكتئاب وصل إلى أعلى نقطة، كان كلما مشى في الشوارع التي اعتاد أن يمشي فيها إتهمه البعض ممن يعرفونه بأنه سبب ما تعيشه مصر من هزيمة فهو الذي هلل وكبر وغنى واتضح أن كل ما ردده الشعب المصري ورائه كان مجرد أوهام أدت لنكسة يونيو 1967، لم يستطع أن يقاوم، كان يستشعر أن كل أحلامه تخلت عنه، أحلام الثورة وأحلام الناصرية، وأحلام النصر، حتى اعترف عام 1986 بعد وفاة أمل دنقل بثلاث سنوات فقط لبعض أصدقائه أنه لا يدري هل كان يغني للناس أم يغني عليهم، ومات يوم 21 أبريل من نفس العام، كانت صاعقة لصديقه الذي ملأ مصر معه بالغناء للثورة وللنصر والهزيمة، سيد مكاوي، لقد كان النغم لكلمات جاهين، لم يفترقا، وحين مات جاهين، لم يذرف مكاوي دمعة واحدة، انتابته حالة من الذهول، ظل صامتاً حتى أخبرته إيناس أبنته بأن رفيق الرحلة سيخرج من مسجد عمر مكرم، ظل طوال الطريق صامتاً، غير مصدق أنه يمشي في جنازة صلاح جاهين، يمشي في جنازة من ملأ معه الدنيا صخباً وضجيجاً وضحكاً وسخرية والآن يواري جسده الثرى للأبد، لكنه لم يكن يعلم أنه سيلقاه في نفس اليوم 21 إبريل ولكن بعد 11 عام في 1997، فهل هذا هو عمق الارتباط بين الأصدقاء أم أنه القدر الذي لا يريد أن يحرمهما من ارتباط اسميهما حتى في يوم الوفاة، اصدقاء لا يمكن أن ننسى لهما روائع ما فعلاه لمصر سوياً بداية باحتفالات مصر بثورتها والغناء لها والاحتفاء بها ثم مروراً بأغاني أشبه بالمرثيات بعد نكسة 1967 وربما أهمها أغنية " لموا الكراريس" التي غنتها الفنانة العظيمة شادية بمناسبة قتل اطفال مدرسة بحر البقر، وهي أغنية انفعل بها ( مكاوي ) واستشعر حينها ( مكاوي ) بكلمات رفيق دربه صلاح جاهين وبأنه يجب عليه أن يرسل من خلالها رسالة للعالم .. أن يصرخ بفنه .. يغضب .. يحمل السلاح .. ولكن سلاح من نوع خاص .. سلاح إلهامه .. إيمانه بوطنه .. ويجب علينا أن نلاحظ هنا في هذا اللحن تحديداً اعتماد ( مكاوي ) على الجمل الأوبرالية المسرحية الأقرب للعالمية بغرض التعبير عن سيناريو الفساد والاحتلال والحرب وضياع الضمير الإنساني بقصف الأطفال في مدارسهم وعلى مقاعد الدرس ولم يتعد أكبر تلميذ فيهم العاشرة من عمره .. لقد كان اللحن وكأنه صور سينمائية متتابعة ومتلاحقة نجح فيه ( مكاوي ) بأن يفضح ضمير العالم كله وتحويل مأساته ومأساة شعبه من عمل يقتصر على مصر وحدها لعمل يخص العالم أجمع ويهز وجدانه لعله يستفيق .. ومن بعد هذا العمل العبقري استطاع جاهين ومكاوي أن يخرجا علينا بأعمال أخرى ستظل علامه في تاريخ الفن المصري والعربي ومن أهم تلك الأعمال الليلة الكبيرة ورباعيات جاهين، الحديث يطول عن عبقرية صلاح وجاهين وسيد مكاوي لكن شجن الذكرى يحصرنا في كلمات نحاول بها فقط التعبير عن عرفاننا بالجميل لهما عما قدماه للشعب العربي كله من فن، وأن نتذكرهما ونتذكر عجائب الأقدار التي جمعتهما معاً في الدنيا وجمعتهما معاً في يوم الوفاة الذي نعتبره رغم امتلائه بالحزن عليهما إلا أنه يمتلئ أيضاً بكل الفخر بهما، ولعلنا نذكر في هذا المقام ما قاله جاهين في إحدى رباعياته ولحنها سيد مكاوي وكأنها رباعية هي لسان حال كل منهما: 
مرغم عليك يا صبر مغصوب يا ليل
لا دخلتها برجليا ولا كان لى ميل
دخلت انا ف الحياه شايليننى شيل
وبكره حاخرج منها شايلينى شيل
وفي ذكراهما لا يسعنا سوى القول: رحم الله العملاقين


عندما يتفق ( صلاح جاهين وسيد مكاوي ) على الموت في يوم واحد !

mohi_ibraheem

 

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com

" لموا الكراريس" التي غنتها الفنانة العظيمة شادية بمناسبة قتل اطفال مدرسة بحر البقر، أغنية انفعل بها ( مكاوي ) واستشعر حينها ( مكاوي ) بكلمات رفيق دربه صلاح جاهين وبأنه يجب عليه أن يرسل من خلالها رسالة للعالم .. أن يصرخ بفنه .. يغضب .. يحمل السلاح .. ولكن سلاح من نوع خاص .. سلاح إلهامه .. إيمانه بوطنه .. 

صلاح جاهين ومن بعده سيد مكاوي، عملاقان، عاشا صديقين معاً، وأضاءا وجه مصر بإبداعاتهما معاً، وعبرا بفنهما عن الكرامة المصرية، والكبرياء المصري، بل ووجود مصر الحضاري والمعاصر، لكن من عجائب القدر أن كلاً منهما حين انتقل لجوار ربه إنتقل في 21 أبريل وكأنهما كانا على اتفاق فيما بينهما أن يموتا في نفس اليوم رغم السنين التي تفصل بين وفاة كل منهما عن الآخر.
صلاح جاهين، هذا الساخر المهموم، التي دعته حماسته بثورة 23 يوليو أن يكتئب من هزيمة يونيو ويعتزل الفرحة، لقد كان صلاح جاهين في وفاة أمل دنقل في قمة الاكتئاب، اكتئاب وصل إلى أعلى نقطة، كان كلما مشى في الشوارع التي اعتاد أن يمشي فيها إتهمه البعض ممن يعرفونه بأنه سبب ما تعيشه مصر من هزيمة فهو الذي هلل وكبر وغنى واتضح أن كل ما ردده الشعب المصري ورائه كان مجرد أوهام أدت لنكسة يونيو 1967، لم يستطع أن يقاوم، كان يستشعر أن كل أحلامه تخلت عنه، أحلام الثورة وأحلام الناصرية، وأحلام النصر، حتى اعترف عام 1986 بعد وفاة أمل دنقل بثلاث سنوات فقط لبعض أصدقائه أنه لا يدري هل كان يغني للناس أم يغني عليهم، ومات يوم 21 أبريل من نفس العام، كانت صاعقة لصديقه الذي ملأ مصر معه بالغناء للثورة وللنصر والهزيمة، سيد مكاوي، لقد كان النغم لكلمات جاهين، لم يفترقا، وحين مات جاهين، لم يذرف مكاوي دمعة واحدة، انتابته حالة من الذهول، ظل صامتاً حتى أخبرته إيناس أبنته بأن رفيق الرحلة سيخرج من مسجد عمر مكرم، ظل طوال الطريق صامتاً، غير مصدق أنه يمشي في جنازة صلاح جاهين، يمشي في جنازة من ملأ معه الدنيا صخباً وضجيجاً وضحكاً وسخرية والآن يواري جسده الثرى للأبد، لكنه لم يكن يعلم أنه سيلقاه في نفس اليوم 21 إبريل ولكن بعد 11 عام في 1997، فهل هذا هو عمق الارتباط بين الأصدقاء أم أنه القدر الذي لا يريد أن يحرمهما من ارتباط اسميهما حتى في يوم الوفاة، اصدقاء لا يمكن أن ننسى لهما روائع ما فعلاه لمصر سوياً بداية باحتفالات مصر بثورتها والغناء لها والاحتفاء بها ثم مروراً بأغاني أشبه بالمرثيات بعد نكسة 1967 وربما أهمها أغنية " لموا الكراريس" التي غنتها الفنانة العظيمة شادية بمناسبة قتل اطفال مدرسة بحر البقر، وهي أغنية انفعل بها ( مكاوي ) واستشعر حينها ( مكاوي ) بكلمات رفيق دربه صلاح جاهين وبأنه يجب عليه أن يرسل من خلالها رسالة للعالم .. أن يصرخ بفنه .. يغضب .. يحمل السلاح .. ولكن سلاح من نوع خاص .. سلاح إلهامه .. إيمانه بوطنه .. ويجب علينا أن نلاحظ هنا في هذا اللحن تحديداً اعتماد ( مكاوي ) على الجمل الأوبرالية المسرحية الأقرب للعالمية بغرض التعبير عن سيناريو الفساد والاحتلال والحرب وضياع الضمير الإنساني بقصف الأطفال في مدارسهم وعلى مقاعد الدرس ولم يتعد أكبر تلميذ فيهم العاشرة من عمره .. لقد كان اللحن وكأنه صور سينمائية متتابعة ومتلاحقة نجح فيه ( مكاوي ) بأن يفضح ضمير العالم كله وتحويل مأساته ومأساة شعبه من عمل يقتصر على مصر وحدها لعمل يخص العالم أجمع ويهز وجدانه لعله يستفيق .. ومن بعد هذا العمل العبقري استطاع جاهين ومكاوي أن يخرجا علينا بأعمال أخرى ستظل علامه في تاريخ الفن المصري والعربي ومن أهم تلك الأعمال الليلة الكبيرة ورباعيات جاهين، الحديث يطول عن عبقرية صلاح وجاهين وسيد مكاوي لكن شجن الذكرى يحصرنا في كلمات نحاول بها فقط التعبير عن عرفاننا بالجميل لهما عما قدماه للشعب العربي كله من فن، وأن نتذكرهما ونتذكر عجائب الأقدار التي جمعتهما معاً في الدنيا وجمعتهما معاً في يوم الوفاة الذي نعتبره رغم امتلائه بالحزن عليهما إلا أنه يمتلئ أيضاً بكل الفخر بهما، ولعلنا نذكر في هذا المقام ما قاله جاهين في إحدى رباعياته ولحنها سيد مكاوي وكأنها رباعية هي لسان حال كل منهما: 
مرغم عليك يا صبر مغصوب يا ليل
لا دخلتها برجليا ولا كان لى ميل
دخلت انا ف الحياه شايليننى شيل
وبكره حاخرج منها شايلينى شيل
وفي ذكراهما لا يسعنا سوى القول: رحم الله العملاقين


عندما يتفق ( صلاح جاهين وسيد مكاوي ) على الموت في يوم واحد !

mohi_ibraheem

 

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com

" لموا الكراريس" التي غنتها الفنانة العظيمة شادية بمناسبة قتل اطفال مدرسة بحر البقر، أغنية انفعل بها ( مكاوي ) واستشعر حينها ( مكاوي ) بكلمات رفيق دربه صلاح جاهين وبأنه يجب عليه أن يرسل من خلالها رسالة للعالم .. أن يصرخ بفنه .. يغضب .. يحمل السلاح .. ولكن سلاح من نوع خاص .. سلاح إلهامه .. إيمانه بوطنه .. 

صلاح جاهين ومن بعده سيد مكاوي، عملاقان، عاشا صديقين معاً، وأضاءا وجه مصر بإبداعاتهما معاً، وعبرا بفنهما عن الكرامة المصرية، والكبرياء المصري، بل ووجود مصر الحضاري والمعاصر، لكن من عجائب القدر أن كلاً منهما حين انتقل لجوار ربه إنتقل في 21 أبريل وكأنهما كانا على اتفاق فيما بينهما أن يموتا في نفس اليوم رغم السنين التي تفصل بين وفاة كل منهما عن الآخر.
صلاح جاهين، هذا الساخر المهموم، التي دعته حماسته بثورة 23 يوليو أن يكتئب من هزيمة يونيو ويعتزل الفرحة، لقد كان صلاح جاهين في وفاة أمل دنقل في قمة الاكتئاب، اكتئاب وصل إلى أعلى نقطة، كان كلما مشى في الشوارع التي اعتاد أن يمشي فيها إتهمه البعض ممن يعرفونه بأنه سبب ما تعيشه مصر من هزيمة فهو الذي هلل وكبر وغنى واتضح أن كل ما ردده الشعب المصري ورائه كان مجرد أوهام أدت لنكسة يونيو 1967، لم يستطع أن يقاوم، كان يستشعر أن كل أحلامه تخلت عنه، أحلام الثورة وأحلام الناصرية، وأحلام النصر، حتى اعترف عام 1986 بعد وفاة أمل دنقل بثلاث سنوات فقط لبعض أصدقائه أنه لا يدري هل كان يغني للناس أم يغني عليهم، ومات يوم 21 أبريل من نفس العام، كانت صاعقة لصديقه الذي ملأ مصر معه بالغناء للثورة وللنصر والهزيمة، سيد مكاوي، لقد كان النغم لكلمات جاهين، لم يفترقا، وحين مات جاهين، لم يذرف مكاوي دمعة واحدة، انتابته حالة من الذهول، ظل صامتاً حتى أخبرته إيناس أبنته بأن رفيق الرحلة سيخرج من مسجد عمر مكرم، ظل طوال الطريق صامتاً، غير مصدق أنه يمشي في جنازة صلاح جاهين، يمشي في جنازة من ملأ معه الدنيا صخباً وضجيجاً وضحكاً وسخرية والآن يواري جسده الثرى للأبد، لكنه لم يكن يعلم أنه سيلقاه في نفس اليوم 21 إبريل ولكن بعد 11 عام في 1997، فهل هذا هو عمق الارتباط بين الأصدقاء أم أنه القدر الذي لا يريد أن يحرمهما من ارتباط اسميهما حتى في يوم الوفاة، اصدقاء لا يمكن أن ننسى لهما روائع ما فعلاه لمصر سوياً بداية باحتفالات مصر بثورتها والغناء لها والاحتفاء بها ثم مروراً بأغاني أشبه بالمرثيات بعد نكسة 1967 وربما أهمها أغنية " لموا الكراريس" التي غنتها الفنانة العظيمة شادية بمناسبة قتل اطفال مدرسة بحر البقر، وهي أغنية انفعل بها ( مكاوي ) واستشعر حينها ( مكاوي ) بكلمات رفيق دربه صلاح جاهين وبأنه يجب عليه أن يرسل من خلالها رسالة للعالم .. أن يصرخ بفنه .. يغضب .. يحمل السلاح .. ولكن سلاح من نوع خاص .. سلاح إلهامه .. إيمانه بوطنه .. ويجب علينا أن نلاحظ هنا في هذا اللحن تحديداً اعتماد ( مكاوي ) على الجمل الأوبرالية المسرحية الأقرب للعالمية بغرض التعبير عن سيناريو الفساد والاحتلال والحرب وضياع الضمير الإنساني بقصف الأطفال في مدارسهم وعلى مقاعد الدرس ولم يتعد أكبر تلميذ فيهم العاشرة من عمره .. لقد كان اللحن وكأنه صور سينمائية متتابعة ومتلاحقة نجح فيه ( مكاوي ) بأن يفضح ضمير العالم كله وتحويل مأساته ومأساة شعبه من عمل يقتصر على مصر وحدها لعمل يخص العالم أجمع ويهز وجدانه لعله يستفيق .. ومن بعد هذا العمل العبقري استطاع جاهين ومكاوي أن يخرجا علينا بأعمال أخرى ستظل علامه في تاريخ الفن المصري والعربي ومن أهم تلك الأعمال الليلة الكبيرة ورباعيات جاهين، الحديث يطول عن عبقرية صلاح وجاهين وسيد مكاوي لكن شجن الذكرى يحصرنا في كلمات نحاول بها فقط التعبير عن عرفاننا بالجميل لهما عما قدماه للشعب العربي كله من فن، وأن نتذكرهما ونتذكر عجائب الأقدار التي جمعتهما معاً في الدنيا وجمعتهما معاً في يوم الوفاة الذي نعتبره رغم امتلائه بالحزن عليهما إلا أنه يمتلئ أيضاً بكل الفخر بهما، ولعلنا نذكر في هذا المقام ما قاله جاهين في إحدى رباعياته ولحنها سيد مكاوي وكأنها رباعية هي لسان حال كل منهما: 
مرغم عليك يا صبر مغصوب يا ليل
لا دخلتها برجليا ولا كان لى ميل
دخلت انا ف الحياه شايليننى شيل
وبكره حاخرج منها شايلينى شيل
وفي ذكراهما لا يسعنا سوى القول: رحم الله العملاقين


الاثنين، 21 مارس 2016

حسن التهامي داهية السياسة المصرية .. عاش ومات لغزاً

mohi_ibraheem

 

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
التهامي كان أهم شخصية وقفت بجوار ( السادات ) في ثورة التصحيح عام 1971 وهو أيضاً أحد أهم أعضاء المحكمة التي صدر لها قرار جمهوري بتشكيلها في الحادي والعشرين من يوليو تموز 1971 حيث أنتقم فيها حسن التهامي من كل خصوم السادات !

هو الرجل الذي قيدّ كلاً من جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر بالحبال ليمنعهما من تعيين خالد محيي الدين رئيساً للحكومة، وهو نفس الرجل الذي استدعاه جمال عبد الناصر قبل وفاته بأيامٍ قلائل ليقول له: "خليك جنبي، لأنهم عايزين يموتوني"، حسن التهامي الذي وصل إلى منصب نائب رئيس الوزراء وأصبح المستشار السياسي للرئيس جمال عبد الناصر والمبعوث الشخصي للرئيس أنور السادات إلى أن أحاله الرئيس حسني مبارك إلى المعاش ليبتعد عن الحياة العامة إلى الأبد لأسباب مجهولة، حسن التهامي ذلك الداهية السياسي الذي يقسم لنا في مذكراته أنه هو من وضع السادات على قمة السلطة في مصر وبمسدسه الشخصي.

تطوع قبل الثورة لقيادة مجموعة من الفدائيين هم : محسن لطفي السيد‏‏، إسماعيل مرزوق، ضياء الدين حسانين، فايز سلام، عادل سلام‏، بهي الدين الصادق، كمال خضر، علي لملوم، علي مشرفة، جمال الناظر، حسين الناظر، سمير مكرم، محمد ذو الفقار، وجيه ذو الفقار، شريف ذو الفقار‏، لمهاجمة المعسكرات البريطانية.
كان يخشاه جمال عبد الناصر لأسباب نجهلها ودفنت معهما للأبد وهنا يقول عبد الفتاح أبو الفضل أحد الضباط الأحرار و نائب صلاح نصر رئيس جهاز المخابرات العامة ، في كتابه (ص173) إنه بعد الثورة مباشرة كان التهامي من الذين جرى تعيينهم في المخابرات ولم يكن له مكتب خاص بمبنى المخابرات ولا نعلم له عملاً محددٍاً إلا مساهمته في إحضار بعض خبراء المخابرات الأمريكان كل فترة بحجة عقد حلقات دراسية لأربعة من ضباط المخابرات المصريين للاستفادة بخبراتهم فقط" !، وكان من البديهي أن لا يعلم أحد عن التهامي شيئاً فقد كان داهية حيث يقول هو عن نفسه في مذكراته: كنت مهندس العلاقات الأمريكية المصرية منذ بداية ثورة 1952 ولن أنسى ما حييت عندما وطئت قدمي أرض إسرائيل أول مرة وسمعت جولدا مائير تنادي على السادات بمودة " هاللو أنور "كما لو كان من عائلتها ! .. أمر حيرني وبالبحث عرفت أن السادات كان على علاقات سابقة باسرائيل وأنه قابل جولدا مائير بأوامر من القصر في عهد فاروق بعد حرب 1948 وبدعم أميريكي وهو ماجعل أميركا بعد ثورة 23 يوليو تقوم بعمل استحكامات للحفاظ على حياة جمال عبد الناصر شخصياً كرئيساً للحكومة في عهد محمد نجيب، وأن تقوم الإدارة الأمريكية ذاتها بعمل برنامج محكم التخطيط للحفاظ على حياته والدعايه له شخصياً، بل أنها منحته بشكل شخصي مبلغ ثلاثة ملايين دولار في بداية عمله لمعاونته في الحكم كمصاريف ( غير منظورة ) ولدعم تكاليف وإدارة السيارات المصفحة الخاصة به وكذلك الأسلحة للدفاع عنه، ويسترسل التهامي في مذكراته ( حسن التهامى يفتح ملفاته ص13 ) وبمنتهى الجرأة ويقول أن استمرار الدعم الأمريكي المباشر والمستمر لجمال عبد الناصر استفزني ودفعني ذات مرة لأن أختلف بعنف مع مندوبي البيت الأبيض الذين كانوا يحضرون لمصر من وقت لآخر للتحاور مع عبد الناصر حول تطوير العلاقات والمصالح المشتركة ولكنهم فاجأوني بأن أعطوني خطاباً من الإدارة الأمريكية يقول مضمونه أن الإدارة الأمريكية قد استقرت على رأي واحد وهو اختيار جمال عبد الناصر رئيساً لمصر وليس ذلك فحسب بل واختارته أيضاً ليوجه سياسة الشرق الأوسط كله لصالح الأهداف الأمريكية !
التهامي أيضاً كان أهم شخصية وقفت بجوار ( السادات ) في ثورة التصحيح عام 1971 وتقول بعض التكهنات أنه كان مهندس تلك الثورة وأنه هو من أوحى للسادات بإتخاذها ثم كان هو أيضاً أحد أهم أعضاء المحكمة التي صدر لها قرار جمهوري بتشكيلها في الحادي والعشرين من يوليو تموز 1971 حيث أنتقم فيها حسن التهامي من كل خصوم السادات وهم: نائب رئيس الجمهورية علي صبري، وزير الدفاع محمد فوزي، وزير الداخلية شعراوي جمعة، وزير الإعلام محمد فائق، سكرتير رئيس الجمهورية سامي شرف، ليبدأ عهد جديد يتفرد فيه مع السادات بالحكم حيث صدر له قرار جمهوري في أكتوبر 1977 بمنحه رتبة "الفريق" الشرفية وقيل وقتها أنه تقديراً لدوره في الدفاع عن مدينة السويس في حرب أكتوبر بينما كان يتم تجهيزه لعملية السلام ( كامب ديفيد ) التي أوحى بها للسادات ونفذاها معاً ببراعة تحت رعاية ملك المغرب آنذاك وقيل عنهما فيها أنهما ضحكا بها على إسرائيل وقادتها في ذلك الوقت وعلى رأسهم مناحم بيجن وجولدا مائير وموشى ديان، إنه حسن التهامي، ذلك الرجل الذي لم يكن هينا ولم يكن أبداً عابر سبيل في طريق السياسة.

حسن التهامي داهية السياسة المصرية .. عاش ومات لغزاً

mohi_ibraheem

 

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
التهامي كان أهم شخصية وقفت بجوار ( السادات ) في ثورة التصحيح عام 1971 وهو أيضاً أحد أهم أعضاء المحكمة التي صدر لها قرار جمهوري بتشكيلها في الحادي والعشرين من يوليو تموز 1971 حيث أنتقم فيها حسن التهامي من كل خصوم السادات !

هو الرجل الذي قيدّ كلاً من جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر بالحبال ليمنعهما من تعيين خالد محيي الدين رئيساً للحكومة، وهو نفس الرجل الذي استدعاه جمال عبد الناصر قبل وفاته بأيامٍ قلائل ليقول له: "خليك جنبي، لأنهم عايزين يموتوني"، حسن التهامي الذي وصل إلى منصب نائب رئيس الوزراء وأصبح المستشار السياسي للرئيس جمال عبد الناصر والمبعوث الشخصي للرئيس أنور السادات إلى أن أحاله الرئيس حسني مبارك إلى المعاش ليبتعد عن الحياة العامة إلى الأبد لأسباب مجهولة، حسن التهامي ذلك الداهية السياسي الذي يقسم لنا في مذكراته أنه هو من وضع السادات على قمة السلطة في مصر وبمسدسه الشخصي.

تطوع قبل الثورة لقيادة مجموعة من الفدائيين هم : محسن لطفي السيد‏‏، إسماعيل مرزوق، ضياء الدين حسانين، فايز سلام، عادل سلام‏، بهي الدين الصادق، كمال خضر، علي لملوم، علي مشرفة، جمال الناظر، حسين الناظر، سمير مكرم، محمد ذو الفقار، وجيه ذو الفقار، شريف ذو الفقار‏، لمهاجمة المعسكرات البريطانية.
كان يخشاه جمال عبد الناصر لأسباب نجهلها ودفنت معهما للأبد وهنا يقول عبد الفتاح أبو الفضل أحد الضباط الأحرار و نائب صلاح نصر رئيس جهاز المخابرات العامة ، في كتابه (ص173) إنه بعد الثورة مباشرة كان التهامي من الذين جرى تعيينهم في المخابرات ولم يكن له مكتب خاص بمبنى المخابرات ولا نعلم له عملاً محددٍاً إلا مساهمته في إحضار بعض خبراء المخابرات الأمريكان كل فترة بحجة عقد حلقات دراسية لأربعة من ضباط المخابرات المصريين للاستفادة بخبراتهم فقط" !، وكان من البديهي أن لا يعلم أحد عن التهامي شيئاً فقد كان داهية حيث يقول هو عن نفسه في مذكراته: كنت مهندس العلاقات الأمريكية المصرية منذ بداية ثورة 1952 ولن أنسى ما حييت عندما وطئت قدمي أرض إسرائيل أول مرة وسمعت جولدا مائير تنادي على السادات بمودة " هاللو أنور "كما لو كان من عائلتها ! .. أمر حيرني وبالبحث عرفت أن السادات كان على علاقات سابقة باسرائيل وأنه قابل جولدا مائير بأوامر من القصر في عهد فاروق بعد حرب 1948 وبدعم أميريكي وهو ماجعل أميركا بعد ثورة 23 يوليو تقوم بعمل استحكامات للحفاظ على حياة جمال عبد الناصر شخصياً كرئيساً للحكومة في عهد محمد نجيب، وأن تقوم الإدارة الأمريكية ذاتها بعمل برنامج محكم التخطيط للحفاظ على حياته والدعايه له شخصياً، بل أنها منحته بشكل شخصي مبلغ ثلاثة ملايين دولار في بداية عمله لمعاونته في الحكم كمصاريف ( غير منظورة ) ولدعم تكاليف وإدارة السيارات المصفحة الخاصة به وكذلك الأسلحة للدفاع عنه، ويسترسل التهامي في مذكراته ( حسن التهامى يفتح ملفاته ص13 ) وبمنتهى الجرأة ويقول أن استمرار الدعم الأمريكي المباشر والمستمر لجمال عبد الناصر استفزني ودفعني ذات مرة لأن أختلف بعنف مع مندوبي البيت الأبيض الذين كانوا يحضرون لمصر من وقت لآخر للتحاور مع عبد الناصر حول تطوير العلاقات والمصالح المشتركة ولكنهم فاجأوني بأن أعطوني خطاباً من الإدارة الأمريكية يقول مضمونه أن الإدارة الأمريكية قد استقرت على رأي واحد وهو اختيار جمال عبد الناصر رئيساً لمصر وليس ذلك فحسب بل واختارته أيضاً ليوجه سياسة الشرق الأوسط كله لصالح الأهداف الأمريكية !
التهامي أيضاً كان أهم شخصية وقفت بجوار ( السادات ) في ثورة التصحيح عام 1971 وتقول بعض التكهنات أنه كان مهندس تلك الثورة وأنه هو من أوحى للسادات بإتخاذها ثم كان هو أيضاً أحد أهم أعضاء المحكمة التي صدر لها قرار جمهوري بتشكيلها في الحادي والعشرين من يوليو تموز 1971 حيث أنتقم فيها حسن التهامي من كل خصوم السادات وهم: نائب رئيس الجمهورية علي صبري، وزير الدفاع محمد فوزي، وزير الداخلية شعراوي جمعة، وزير الإعلام محمد فائق، سكرتير رئيس الجمهورية سامي شرف، ليبدأ عهد جديد يتفرد فيه مع السادات بالحكم حيث صدر له قرار جمهوري في أكتوبر 1977 بمنحه رتبة "الفريق" الشرفية وقيل وقتها أنه تقديراً لدوره في الدفاع عن مدينة السويس في حرب أكتوبر بينما كان يتم تجهيزه لعملية السلام ( كامب ديفيد ) التي أوحى بها للسادات ونفذاها معاً ببراعة تحت رعاية ملك المغرب آنذاك وقيل عنهما فيها أنهما ضحكا بها على إسرائيل وقادتها في ذلك الوقت وعلى رأسهم مناحم بيجن وجولدا مائير وموشى ديان، إنه حسن التهامي، ذلك الرجل الذي لم يكن هينا ولم يكن أبداً عابر سبيل في طريق السياسة.

الجمعة، 11 مارس 2016

مصطفى النحاس يقود شعب مصر بثورة تطيح بأحلام الملك الديكتاتور فؤاد الأول

بقلم محيي الدين إبراهيم
هذه حكاية تحتوي على حادثة وانتصار من صفحات شعب مصر كان بطلها الزعيم مصطفى النحاس باشا بعد وفاة الملك فؤاد الأول وهي غير مدونة في كتب التاريخ ولكني عثرت عليها مصادفة في مكتبة اللواء سعيد مختار ابن مختار باشا كاتم اسرار الأمير محمد على أثناء حواري معه عام 2009 حتى ان هذه الحادثة خافية على كل الوفديين المعاصرين حالياً.

لم يلبث الملك أحمد فؤاد كثيراً بعد إقالة وزارة "توفيق نسيم" في 30 يناير من عام 1936 وحيث لم يعين حكومة اخرى بدلا منها لينفرد وحده بحكم مصر حتي تدهورت حالته الصحية ووافته المنية فجأة في 28 أبريل عام 1936م إثر مشادة عنيفة بينه وبين السير "مايلز لامبسون" المندوب السامي البريطاني بسبب أن السير "مايلز لامبسون" أعتبر الملك فؤاد ما عاد صديقا لإنجلترا كما كان وان فؤاد يميل الآن للشعب تحت ضغط حزب الوفد الذي يحاول اكمال بنود معاهدة 1936 التي بموجبها تحصل مصر على استقلالها، مات فؤاد في قصره بينما كان النحاس باشا يوقع بالأحرف الأولى في قصر الزعفران بالعباسية معاهدة 1936، مات فجأة هماً وكمداً وبوفاته الفجائية صارت مصر بين عشية وضحاها مملكة بلا حكومة وبلا برلمان وبلا ملك إذ كان فاروق حينها دون السن القانونية لاعتلاء عرش مصر.
ليس في مصر سوى مجموعة من الهلافيت أتي بهم فؤاد ليديروا شئون البلاد من خلاله ( قائمين بأعمال ) – كما فعل مبارك بمصر - ليتشفى فؤاد من خلالهم في حزب الوفد وفي النحاس باشا زعيم الوفد الذي يصر على طرد الإنجليز من داخل جدران قصر " خوشيار هانم " المسمى بقصر الزعفران ( جامعة عين شمس حالياً ) وحيث مصر كلها كانت في قبضته، مصير شعب مصر والسودان كله في قبضة طاغية، ولكن رغم كآبة المنظر كانت نقطة النور الوحيدة في ذلك المشهد الصعب هو أن مصر تمتلك دستوراً على الرغم من أنه كان دستورا يعظم الملك إذ أن الملك فؤاد بعد أن ناصب حزب الوفد ذا الشعبية العريضة العداء، وأدت مؤامراته لاستقالة وزارات مصطفي النحاس عدة مرات أتي بأكثر الوزارات بطشاً وهي وزارة اسماعيل صدقي باشا ليلغي بها دستور 1923 ويقوم بتفصيل دستور جديد يعظم به سلطاته وسلطات من سيأتي من بعده لذلك كان فؤاد أعظم ديكتاتور مصري شهده القرن العشرين.
في عهد فؤاد كان كل شيء جاهز لاغتصاب مصر مرة أخرى لصالح الإنجليز، لكن وفاته جعلت المصريين يستبشرون خيرا في مستقبلهم، ولكن فؤاد كان جبارا حتى بعد موته، فمستقبل مصر رغم الموت يتوقف على وصيته التي يحدد فيها الوصي على عرش مصر حتى يصل فاروق للسن القانونية التي حددها الدستور.
الكل مطمئن إلى أن الملك الراحل اختار أحد أفراد العائلة للوصاية على العرش، فالمصريون ليس من عاداتهم قبول شخص من خارج العائلة المالكة ليكون وصيا على العرش إذ أن الوصي دائما ما يكون في حكم الوالد ولن يطيق المصريون ان شخصاً غريبا حتى لو كان مصريا يدخل ويخرج على ملكة مصر هكذا بحجة وصايته على فاروق وكأنه زوجها، كان الشعب مطمئن الى أن الوصية لن تخرج عن اطار العائلة ولكن خيب الملك الراحل فؤاد الأول آمال المصريين ولم تكن الوصية كما توقعها الشعب.
كانت الوصية من ثلاث نسخ، نسخة في خزانة القصر ونسخة في خزانة الحكومة المنحلة ونسخة في خزانة البرلمان المنحل، وكان الأمير "محمد على" وهو رئيس مجلس العائلة المالكة آنذاك عليه مسئولية قراءة الوصية في حضور المتبقي من النظام السابق وهي حكومة "توفيق نسيم" التي اقيلت في شهر يناير السابق لوفاة فؤاد وحيث لا وجود للبرلمان.
جاءت وصية الملك فؤاد بتكليف احمد زيوار باشا ليكون وصيا على العرش، كارثة حلت على مصر وعلى نازلي، فأحمد زيوار باشا تربطه بالملك فؤاد ليس اواصر صداقة ولكن أواصر مؤامرة حينما نجح سعد زغلول في عمل دستور 1923 الذي اعطى الاستقلال لمصر واوشك على طرد الانجليز الذين يحتمي بهم الملك فؤاد بل وصار بمقتضاه رئيسا للوزارة في 28 يناير 1924 استشاط فؤاد غيظاً وكاد يموت من شدة القهر وحينها استعان بالمؤامرة مع الانجليز واحمد زيوار باشا في طرد سعد زغلول من الوزارة التي لم تستمر سوى بضعة شهور لتنتهي في 24 نوفمبر من نفس العام 1924 ويتولى احمد زيوار رئاسة الوزارة الجديدة في نفس اليوم ولمدة عامين كاملين وبرعاية بريطانية.
كان فؤاد يعلم أن وصاية احمد زيوار باشا على العرش لن تمكن الوفد صاحب الأغلبية الشعبية من الاستيلاء على الحكومة.
كان ولاء فؤاد للإنجليز عظيما حتى بعد وفاته.
ثار الشعب المصري في وجه الوصية، وذهبت الملكة نازلي إلى قصر المنيل لتجثو على ركبتيها باكية أمام الأمير محمد على رئيس مجلس العائلة المالكة في أنها لاتريد احمد زيوار باشا وصيا على فاروق.
في تلك الآثناء كان مصطفى النحاس باشا مهموما مع نخبة من رجالات مصر في التفاوض بشأن معاهدة 1936 بقصر الزعفران مع الانجليز ووفود عظيمة من سياسي الدول وقناصلها ولم يختلف غضبه عن غضب جموع المصريين.
بموجب الدستور كان أمام مصر كلها عشرة أيام لترفض وصية فؤاد، على أن يكون الرفض بإجماع اعضاء البرلمان واعضاء الحكومة وعمد ومشايخ قرى مصر من اسكندرية وحتى أسوان.
عشرة أيام مدة مستحيلة في ظل عدم وجود أي شكل من اشكال النظام في البلد، فالملك ميت والبرلمان والحكومة لاوجود لهما.
48 ساعة، يومان كاملان لم ينم فيهما الأمير محمد على ومصطفى النحاس يبحثان الخروج من الأزمة.
لابد ان يكون هناك برلمان منتخب في مدة اسبوع على اقصى تقدير وبعدها يتم تكليف الحكومة ثم النظر في وصية فؤاد ورفضها رفضا قاطعا امتثالا لرغبة الشعب المصري الذي يرفض احمد زيوار بسبب موقفة من سعد زغلول ليكون وصيا على العرش.
كانت مهمة مصطفى النحاس شبه مستحيلة ولكنه أكد للأمير محمد على ان مصر قادرة على نصر سياسي جديد ضد الانجليز وسيخوض المصريون الانتخابات في خمسة ايام وليس اسبوع قبل انقضاء المهلة الدستورية لرفض وصية فؤاد.
هكذا اذن كان المصريون يحترمون دستور البلاد حتى ولو كان تفصيلا على طاغية مثل فؤاد الاول.
خرج مصطفى النحاس باشا من قصر الأمير محمد على بن الخديوي توفيق شقيق الملك فؤاد يوم 2مايو 1936 وبرفقته علي ماهر باشا و محمد شريف صبرى باشا ، وعزيز عزت باشا ورؤسهم تكاد تنهار من وطأة الكارثة التي وضعهم فيها فؤاد ووضع فيها مصر أيضا.
علم الثوار في شوارع القاهرة بما دار في قصر المنيل عن طريق خطبة خطبها مصطفى النحاس في الناس بل وألزمهم فيها مسئولية الحفاظ على مااكتسبوه من انتصارات سياسية ضد الانجليز يمكن أن تضيع في لحظة لو لم تتم الانتخابات في خمسة ايام على الأكثر في عموم مصر كلها، ليتم للمصرين عن طريق نواب الشعب والحكومة من رفض وصية فؤاد وقطع باب الرجعة امام الانجليز الذين يحاولون المراوغة في معاهدة الاستقلال التي لم تكتمل بعد، يراوغون في الموافقة خاصة بعدما فقدوا حليفهم القوي الملك فؤاد.
طار الخبر كالنار في الهشيم وقبل فجر 3 مايو 1936 كان المصريون يدركون اهمية المسئولية التي ألقاها عليهم النحاس باشا في الحفاظ على الاستقلال ومحاربة فؤاد حتى بعد موته وانتخاب اعضاء البرلمان.
لم تنم مصر طيلة خمسة ايام كاملة، حتى الأطفال في القرى والنجوع كانت لهم مهمة حمل الفوانيس ولمبات الجاز ليلا ليضيئوا الطرق أمام الناخبين من الفلاحين والبسطاء في اقاصي مصر لينتهوا من انتخاب نواب الشعب.
ملحمة شعبية لم نرها في أي شعب.
شعب آمن بقدرته ووثق في رجالاته فوقف معهم وآزرهم.
وانتهت انتخابات البرلمان الساعة الخامسة يوم 7 مايو 1936 في اربعة ايام فقط وفي يوم 8 مايو تم دعوة النواب الجدد وكل عمد ومشايخ مصر للحضور إلى القاهرة.
باقي يومان وينتصر فؤاد حتى بعد موته على شعب مصر إذا لم يدرك الناس هول المسئولية وقيمة الوقت.
اجتمع النواب الجدد والعمد والمشايخ وجموع بالملايين يوم 9 مايو 1936 أمام بيت سعد زغلول، بيت الأمة، وساروا في مظاهرة وطنية عظيمة حتى وصلوا للبرلمان ولم يعترض طريقهم انجليزي واحد بسبب أن قناصل العالم كله كانوا في هذه الاثناء بمصر للتفاوض بشأن معاهدة الاستقلال واي خطأ ستفعله عسكر الانجليز ضد المتظاهرين السلميين الذين تحملوا مسئولية الحفاظ على الاستقلال حتما ستفضح انجلترا في جميع انحاء العالم.
دخل اعضاء البرلمان الجدد للبرلمان واقيمت السرادقات حول مجلس الأمة حيث جلس العمد والمشايخ واعيان شعب مصر كلهم في انتظار نصر الشعب السياسي الجديد.
باقي من الزمن 18 ساعة فقط وينتصر فؤاد على شعب مصر كله، لذا فالكل وجل صامت مترقب.
وبدأت جلسة البرلمان الجديد والجديدة.
كان لابد ان لا يخل المصريون بأي مادة من مواد الدستور حتى ولو كان الذي وضعة ديكتاتور القرن العشرين الملك فؤاد.
لا يجوز الان رفض وصية فؤاد من خلال نواب البرلمان الجدد والعمد والاعيان فقط بل لابد من رفض اعضاء الحكومة ايضاً لتتم عملية الرفض بشكل دستوري ووطني، ولكن مصر ليس بها حكومة.
بالاتفاق بين الامير محمد علي ومصطفى النحاس وثقة الناس في السياسيين الوطنيين من أمثال مصطفى النحاس قرر المجلس تكليف حكومة انقاذ وطني في الساعة الرابعة عصرا يترأسها علي ماهر باشا وهي اقصر حكومة انقاذ وطني حقيقية في تاريخ البشر لم يذكرها أو يتوقف عندها المؤرخون بشيء من التأمل، لتتم عملية التصويت بهذه الحكومة وبأعضاء البرلمان والعمد والمشايخ والأعيان والاتفاق على رفض وصية فؤاد بشكل دستوري مقدس.
وتم التصويت في الساعة السابعة مساءً على رفض الوصية وانتصر المصريون.
في الساعة التاسعة ثم سحب الثقة من حكومة علي ماهر باشا وتكليف رئيس الأغلبية البرلمانية الجديدة مصطفى النحاس باشا بتشكيل حكومة وطنية.
في الساعة العاشرة مساءً تم تشكيل حكومة الوفد الوطنية برئاسة مصطفى النحاس باشا.
في نفس التوقيت اعلن مصطفى النحاس باشا في خطابه الأول بعمل استفتاء على أن يكون الأمير محمد علي هو الواصي على العرش.
في الحادية عشرة خرجت جموع المصريين تحتفل بالنصر السياسي على فؤاد وعلى الإنجليز ولم تنم في ليلة لم يمر على مصر ليلة نصر مثلها حتى بعد ثورة 1952.
في صباح 10 مايو وفي أقل من اسبوع وقبل انتهاء المدة الدستورية لفرض الوصية على الشعب بثماني ساعات فقط كانت مصر بلداً آخر ديموقراطي له رئيس وحكومة وبرلمان.
هذه هي مصر التي كانت دوما تتحرك داخل العقل لتنتصر حينما تعصف بها الأزمات، فهل تتحرك اليوم ؟؟, 

مصطفى النحاس يقود شعب مصر بثورة تطيح بأحلام الملك الديكتاتور فؤاد الأول

بقلم محيي الدين إبراهيم
هذه حكاية تحتوي على حادثة وانتصار من صفحات شعب مصر كان بطلها الزعيم مصطفى النحاس باشا بعد وفاة الملك فؤاد الأول وهي غير مدونة في كتب التاريخ ولكني عثرت عليها مصادفة في مكتبة اللواء سعيد مختار ابن مختار باشا كاتم اسرار الأمير محمد على أثناء حواري معه عام 2009 حتى ان هذه الحادثة خافية على كل الوفديين المعاصرين حالياً.

لم يلبث الملك أحمد فؤاد كثيراً بعد إقالة وزارة "توفيق نسيم" في 30 يناير من عام 1936 وحيث لم يعين حكومة اخرى بدلا منها لينفرد وحده بحكم مصر حتي تدهورت حالته الصحية ووافته المنية فجأة في 28 أبريل عام 1936م إثر مشادة عنيفة بينه وبين السير "مايلز لامبسون" المندوب السامي البريطاني بسبب أن السير "مايلز لامبسون" أعتبر الملك فؤاد ما عاد صديقا لإنجلترا كما كان وان فؤاد يميل الآن للشعب تحت ضغط حزب الوفد الذي يحاول اكمال بنود معاهدة 1936 التي بموجبها تحصل مصر على استقلالها، مات فؤاد في قصره بينما كان النحاس باشا يوقع بالأحرف الأولى في قصر الزعفران بالعباسية معاهدة 1936، مات فجأة هماً وكمداً وبوفاته الفجائية صارت مصر بين عشية وضحاها مملكة بلا حكومة وبلا برلمان وبلا ملك إذ كان فاروق حينها دون السن القانونية لاعتلاء عرش مصر.
ليس في مصر سوى مجموعة من الهلافيت أتي بهم فؤاد ليديروا شئون البلاد من خلاله ( قائمين بأعمال ) – كما فعل مبارك بمصر - ليتشفى فؤاد من خلالهم في حزب الوفد وفي النحاس باشا زعيم الوفد الذي يصر على طرد الإنجليز من داخل جدران قصر " خوشيار هانم " المسمى بقصر الزعفران ( جامعة عين شمس حالياً ) وحيث مصر كلها كانت في قبضته، مصير شعب مصر والسودان كله في قبضة طاغية، ولكن رغم كآبة المنظر كانت نقطة النور الوحيدة في ذلك المشهد الصعب هو أن مصر تمتلك دستوراً على الرغم من أنه كان دستورا يعظم الملك إذ أن الملك فؤاد بعد أن ناصب حزب الوفد ذا الشعبية العريضة العداء، وأدت مؤامراته لاستقالة وزارات مصطفي النحاس عدة مرات أتي بأكثر الوزارات بطشاً وهي وزارة اسماعيل صدقي باشا ليلغي بها دستور 1923 ويقوم بتفصيل دستور جديد يعظم به سلطاته وسلطات من سيأتي من بعده لذلك كان فؤاد أعظم ديكتاتور مصري شهده القرن العشرين.
في عهد فؤاد كان كل شيء جاهز لاغتصاب مصر مرة أخرى لصالح الإنجليز، لكن وفاته جعلت المصريين يستبشرون خيرا في مستقبلهم، ولكن فؤاد كان جبارا حتى بعد موته، فمستقبل مصر رغم الموت يتوقف على وصيته التي يحدد فيها الوصي على عرش مصر حتى يصل فاروق للسن القانونية التي حددها الدستور.
الكل مطمئن إلى أن الملك الراحل اختار أحد أفراد العائلة للوصاية على العرش، فالمصريون ليس من عاداتهم قبول شخص من خارج العائلة المالكة ليكون وصيا على العرش إذ أن الوصي دائما ما يكون في حكم الوالد ولن يطيق المصريون ان شخصاً غريبا حتى لو كان مصريا يدخل ويخرج على ملكة مصر هكذا بحجة وصايته على فاروق وكأنه زوجها، كان الشعب مطمئن الى أن الوصية لن تخرج عن اطار العائلة ولكن خيب الملك الراحل فؤاد الأول آمال المصريين ولم تكن الوصية كما توقعها الشعب.
كانت الوصية من ثلاث نسخ، نسخة في خزانة القصر ونسخة في خزانة الحكومة المنحلة ونسخة في خزانة البرلمان المنحل، وكان الأمير "محمد على" وهو رئيس مجلس العائلة المالكة آنذاك عليه مسئولية قراءة الوصية في حضور المتبقي من النظام السابق وهي حكومة "توفيق نسيم" التي اقيلت في شهر يناير السابق لوفاة فؤاد وحيث لا وجود للبرلمان.
جاءت وصية الملك فؤاد بتكليف احمد زيوار باشا ليكون وصيا على العرش، كارثة حلت على مصر وعلى نازلي، فأحمد زيوار باشا تربطه بالملك فؤاد ليس اواصر صداقة ولكن أواصر مؤامرة حينما نجح سعد زغلول في عمل دستور 1923 الذي اعطى الاستقلال لمصر واوشك على طرد الانجليز الذين يحتمي بهم الملك فؤاد بل وصار بمقتضاه رئيسا للوزارة في 28 يناير 1924 استشاط فؤاد غيظاً وكاد يموت من شدة القهر وحينها استعان بالمؤامرة مع الانجليز واحمد زيوار باشا في طرد سعد زغلول من الوزارة التي لم تستمر سوى بضعة شهور لتنتهي في 24 نوفمبر من نفس العام 1924 ويتولى احمد زيوار رئاسة الوزارة الجديدة في نفس اليوم ولمدة عامين كاملين وبرعاية بريطانية.
كان فؤاد يعلم أن وصاية احمد زيوار باشا على العرش لن تمكن الوفد صاحب الأغلبية الشعبية من الاستيلاء على الحكومة.
كان ولاء فؤاد للإنجليز عظيما حتى بعد وفاته.
ثار الشعب المصري في وجه الوصية، وذهبت الملكة نازلي إلى قصر المنيل لتجثو على ركبتيها باكية أمام الأمير محمد على رئيس مجلس العائلة المالكة في أنها لاتريد احمد زيوار باشا وصيا على فاروق.
في تلك الآثناء كان مصطفى النحاس باشا مهموما مع نخبة من رجالات مصر في التفاوض بشأن معاهدة 1936 بقصر الزعفران مع الانجليز ووفود عظيمة من سياسي الدول وقناصلها ولم يختلف غضبه عن غضب جموع المصريين.
بموجب الدستور كان أمام مصر كلها عشرة أيام لترفض وصية فؤاد، على أن يكون الرفض بإجماع اعضاء البرلمان واعضاء الحكومة وعمد ومشايخ قرى مصر من اسكندرية وحتى أسوان.
عشرة أيام مدة مستحيلة في ظل عدم وجود أي شكل من اشكال النظام في البلد، فالملك ميت والبرلمان والحكومة لاوجود لهما.
48 ساعة، يومان كاملان لم ينم فيهما الأمير محمد على ومصطفى النحاس يبحثان الخروج من الأزمة.
لابد ان يكون هناك برلمان منتخب في مدة اسبوع على اقصى تقدير وبعدها يتم تكليف الحكومة ثم النظر في وصية فؤاد ورفضها رفضا قاطعا امتثالا لرغبة الشعب المصري الذي يرفض احمد زيوار بسبب موقفة من سعد زغلول ليكون وصيا على العرش.
كانت مهمة مصطفى النحاس شبه مستحيلة ولكنه أكد للأمير محمد على ان مصر قادرة على نصر سياسي جديد ضد الانجليز وسيخوض المصريون الانتخابات في خمسة ايام وليس اسبوع قبل انقضاء المهلة الدستورية لرفض وصية فؤاد.
هكذا اذن كان المصريون يحترمون دستور البلاد حتى ولو كان تفصيلا على طاغية مثل فؤاد الاول.
خرج مصطفى النحاس باشا من قصر الأمير محمد على بن الخديوي توفيق شقيق الملك فؤاد يوم 2مايو 1936 وبرفقته علي ماهر باشا و محمد شريف صبرى باشا ، وعزيز عزت باشا ورؤسهم تكاد تنهار من وطأة الكارثة التي وضعهم فيها فؤاد ووضع فيها مصر أيضا.
علم الثوار في شوارع القاهرة بما دار في قصر المنيل عن طريق خطبة خطبها مصطفى النحاس في الناس بل وألزمهم فيها مسئولية الحفاظ على مااكتسبوه من انتصارات سياسية ضد الانجليز يمكن أن تضيع في لحظة لو لم تتم الانتخابات في خمسة ايام على الأكثر في عموم مصر كلها، ليتم للمصرين عن طريق نواب الشعب والحكومة من رفض وصية فؤاد وقطع باب الرجعة امام الانجليز الذين يحاولون المراوغة في معاهدة الاستقلال التي لم تكتمل بعد، يراوغون في الموافقة خاصة بعدما فقدوا حليفهم القوي الملك فؤاد.
طار الخبر كالنار في الهشيم وقبل فجر 3 مايو 1936 كان المصريون يدركون اهمية المسئولية التي ألقاها عليهم النحاس باشا في الحفاظ على الاستقلال ومحاربة فؤاد حتى بعد موته وانتخاب اعضاء البرلمان.
لم تنم مصر طيلة خمسة ايام كاملة، حتى الأطفال في القرى والنجوع كانت لهم مهمة حمل الفوانيس ولمبات الجاز ليلا ليضيئوا الطرق أمام الناخبين من الفلاحين والبسطاء في اقاصي مصر لينتهوا من انتخاب نواب الشعب.
ملحمة شعبية لم نرها في أي شعب.
شعب آمن بقدرته ووثق في رجالاته فوقف معهم وآزرهم.
وانتهت انتخابات البرلمان الساعة الخامسة يوم 7 مايو 1936 في اربعة ايام فقط وفي يوم 8 مايو تم دعوة النواب الجدد وكل عمد ومشايخ مصر للحضور إلى القاهرة.
باقي يومان وينتصر فؤاد حتى بعد موته على شعب مصر إذا لم يدرك الناس هول المسئولية وقيمة الوقت.
اجتمع النواب الجدد والعمد والمشايخ وجموع بالملايين يوم 9 مايو 1936 أمام بيت سعد زغلول، بيت الأمة، وساروا في مظاهرة وطنية عظيمة حتى وصلوا للبرلمان ولم يعترض طريقهم انجليزي واحد بسبب أن قناصل العالم كله كانوا في هذه الاثناء بمصر للتفاوض بشأن معاهدة الاستقلال واي خطأ ستفعله عسكر الانجليز ضد المتظاهرين السلميين الذين تحملوا مسئولية الحفاظ على الاستقلال حتما ستفضح انجلترا في جميع انحاء العالم.
دخل اعضاء البرلمان الجدد للبرلمان واقيمت السرادقات حول مجلس الأمة حيث جلس العمد والمشايخ واعيان شعب مصر كلهم في انتظار نصر الشعب السياسي الجديد.
باقي من الزمن 18 ساعة فقط وينتصر فؤاد على شعب مصر كله، لذا فالكل وجل صامت مترقب.
وبدأت جلسة البرلمان الجديد والجديدة.
كان لابد ان لا يخل المصريون بأي مادة من مواد الدستور حتى ولو كان الذي وضعة ديكتاتور القرن العشرين الملك فؤاد.
لا يجوز الان رفض وصية فؤاد من خلال نواب البرلمان الجدد والعمد والاعيان فقط بل لابد من رفض اعضاء الحكومة ايضاً لتتم عملية الرفض بشكل دستوري ووطني، ولكن مصر ليس بها حكومة.
بالاتفاق بين الامير محمد علي ومصطفى النحاس وثقة الناس في السياسيين الوطنيين من أمثال مصطفى النحاس قرر المجلس تكليف حكومة انقاذ وطني في الساعة الرابعة عصرا يترأسها علي ماهر باشا وهي اقصر حكومة انقاذ وطني حقيقية في تاريخ البشر لم يذكرها أو يتوقف عندها المؤرخون بشيء من التأمل، لتتم عملية التصويت بهذه الحكومة وبأعضاء البرلمان والعمد والمشايخ والأعيان والاتفاق على رفض وصية فؤاد بشكل دستوري مقدس.
وتم التصويت في الساعة السابعة مساءً على رفض الوصية وانتصر المصريون.
في الساعة التاسعة ثم سحب الثقة من حكومة علي ماهر باشا وتكليف رئيس الأغلبية البرلمانية الجديدة مصطفى النحاس باشا بتشكيل حكومة وطنية.
في الساعة العاشرة مساءً تم تشكيل حكومة الوفد الوطنية برئاسة مصطفى النحاس باشا.
في نفس التوقيت اعلن مصطفى النحاس باشا في خطابه الأول بعمل استفتاء على أن يكون الأمير محمد علي هو الواصي على العرش.
في الحادية عشرة خرجت جموع المصريين تحتفل بالنصر السياسي على فؤاد وعلى الإنجليز ولم تنم في ليلة لم يمر على مصر ليلة نصر مثلها حتى بعد ثورة 1952.
في صباح 10 مايو وفي أقل من اسبوع وقبل انتهاء المدة الدستورية لفرض الوصية على الشعب بثماني ساعات فقط كانت مصر بلداً آخر ديموقراطي له رئيس وحكومة وبرلمان.
هذه هي مصر التي كانت دوما تتحرك داخل العقل لتنتصر حينما تعصف بها الأزمات، فهل تتحرك اليوم ؟؟, 

السبت، 27 فبراير 2016

عُمر بن الخطاب .. إمام المظلومين

بقلم محيي الدين إبراهيم
قالوا إذا نقتله، قال: أأقتل إنسانا بالظن ؟ لاوالله، أألقى الله وفي رقبتي دم بالظن ؟ والله لا أفعلها، قالوا غدا ننفيه، قال : أأظلم إنسانا وأخرجه من أرض هو فيها لظني أنه قاتلي ؟، لو كان الله يريد ذلك فإن أمر الله كان قدرا مقدورا، رفض عمر من عمق ورعه وشدة إيمانه أن يحكم على ( كافر ) بالظن فيقتله أو ينفيه، رفض عمر أن يحمل وزر ( الظلم ) في حكمه ولو كان على ( كافرٍ ) مخافة ربه سبحانه وتعالى. 


بقلم: محيي الدين إبراهيم
"أبحث عن رجل إذا كان في القوم وليس أميرهم، كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم، لم يشعروا أنه أميرهم .. والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً؛ لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه" هذه بعض كلمات عمر بن الخطاب للناس، كلمات تصور عمق شخصيته كإنسان وصحابي وخليفة، إنسان زاهد وصحابي ورع وخليفة عادل.
كان عمر بن الخطاب رجلاً أيسر ( أشول )، طويل، يفوق الناس طولا، أبيض، أصلع، أشيب، شديد حمرة العين، وفي عارضه خفة، سبلته كثيرة الشعر في أطرافها صهبة، على فخذه شامة سوداء، قليل الضحك، لا يمازح أحدا، مقبلا على شأنه، له هيبة حتى أن عبد الله بن جبير، قال: أنه سمع عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يحدث قال: مكثت سنة، و أنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، عن آية فلا أستطيع أن أسأله، هيبة، ويحدثنا في زهده رغم أنه أمير المؤمنين وتحت يده أموال بيت مال المسلمين كلها يحدثنا نافع عن ابن عباس رضي الله عنهما، و كان يحضر له الطعام فيقول: كانت له كل يوم، إحدى عشرة لقمة، إلى مثلها من الغد.
قال عنه الدكتور مايكل هارت مؤلف كتاب "أعظم عظماء التاريخ": (إن مآثر عمر مؤثره حقا، فقد كان شخصية رئيسية في انتشار الإسلام)، وقال عنه الكاتب الألماني وايزمر في كتابه "دراسة في تسامح محمد وخلفائه الذين جاءوا بعده": (عندما تسلم عمر كرسي الخلافة قطع وعدا بحكم عادل نزيه وقال: "والله ما فيكم أحداً أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه" وقد تطبق ما قال بالضبط على أرض الواقع، أما المفكر والكاتب البريطاني توماس أرنولد فقال عنه في كتابه "دعوة الإسلام": ( إن إسلام عمر كان نقطة تحول في تاريخ الإسلام .حيث تمكن المسلمين من اتخاذ مواقف أكثر جرأة وخرج النبي من دار الأرقم وتمكن المسلمين من أداء عباداتهم علنا وجماعة حول الكعبة)، ولعل المدهش فيما صدر عن الموسوعة البريطانية عام 2009 عن عمر: (لقد تحولت الدولة الإسلامية في عصر عمر من إمارة عربية إلى قوة عالمية، وخلال هذه الفتوحات الرائعة وضعت سياسة عمر المنضبطة جدا المبادئ لإدارة البلدان المفتوحة,وان تركيبة الإمبراطورية الإسلامية التي قد حكمت بعده بما تتضمنه من خبرة قانونية يعود الفضل بوجودها إليه).
صاحب عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولازمه في كل خطواته ولم يتركه لحظة واحدة منذ أن أشهر إسلامه وحتى وفاة الرسول الكريم، ومن ثم تأمل الرسول بعمق المؤمن، تعلم منه، تتلمذ على يديه، عاش عظمة نبوته، حتى صار بعد أن أصبح خليفة للمسلمين مدة عشر سنوات وستة أشهر وأربعة أيام، الفاروق في عدله بين الرعية .. وصار حتى يومنا هذا إمام المظلومين.
لا ندري لماذا فضله الله سبحانه وتعالى على عمرو بن هشام في الهداية للإسلام حين دعا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ربه بأن ( يعز ) الإسلام بأحد العمرين، عمرو بن هشام أو عمر بن الخطاب فكانت حكمة الله في اسلام عمر بن الخطاب وهدايته رغم أن كلا منهما – بن هشام وأبن الخطاب – رغم ثقافتهما وقدرتهما على القراءة والكتابة واستجلاب المعرفة جبارين في الجاهلية وبنفس القدر من قوة الغضب حتى أن عمرو بن هشام كان لقبه وقتذاك ( أبو جهل ) التي تعني ( سيد الغضب ) وكان عمر بن الخطاب يُعرف بجبروته، وحيث كان العرب حينها يفخرون بإطلاق هذه المسميات ( العنيفة ) التي من شأنها إضفاء ( وابلاً ) من الهيبة على شخصياتهم بين الناس، كان هناك سر ( إنساني ) في أعماق عمر لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى جعل الله يختاره هو ليعز الإسلام – وقد أفلح عمر في ذلك - ولا يختار أبا جهل.
كان عام ( الرمادة ) هو عام اختبار حقيقي للخليفة عمر بن الخطاب في حكمه وعدله أثناء توليه أمر الخلافة بعد أبو بكر الصديق رضوان الله عليهم جميعاً، حيث كان في هذا العام جدب عم أرض الحجاز، وخاصة المدينة وما حولها في آخر سنة سبع عشرة ، وأول سنة ثماني عشرة ، وجاع الناس جوعا شديدا وكانوا يتساقطون موتاً من شدة الجوع والبلاء، واسودت الأرض من قلة المطر، حتى عاد لونها شبيها بالرماد، هذا بجانب تفشي طاعون "عمواس" الذي قال فيه "الواقدي" : هذا الطاعون منسوب إلى بلد صغيرة يقال لها : "عمواس" وهي بين القدس والرملة ، لأنها كانت أول ما نجم عنها هذا الداء، ثم انتشر في الشام ومنها لجزيرة العرب فنسب إليها، وقد توفي في طاعون "عمواس" من المسلمين بالشام وحدها خمسة وعشرون ألفا، أو ثلاثون ألفا، وبالرغم من ذلك لم ييأس عمر من رحمة الله في فتنة " الرمادة " وطاعون "عمواس" ووطأة وشدة البلاء على الناس في فترة حكمه، استثمر كل موارد الدولة واللجوء إلى الأغنياء من عماله وشعبه من أجل طلب الغوث من الأقاليم عندما نفدت موارد بيت المال، ونفد ما عند أهل المدينة؛فكتب إلى أمراء الأمصار أن أغيثوا أهل المدينة ومن حولها، فإنه قد بلغ جهدهم، قال سيف بن عمر: «كتب عمر إلى أمراء الأمصار يستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها، فكان أول من قدم عليه أبوعبيدة بن الجراح فى أربعة آلاف راحلة من طعام»، وروى ابن كثير: «فكتب عمر إلى أبى موسى بالبصرة أن يا غوثاه لأمة محمد، وكتب إلى عمرو بن العاص بمصر: يا غوثاه لأمة محمد. فبعث إليه كل واحد منهما بقافلة عظيمة تحمل البر وسائر الأطعمة، ووصلت قوافل عمرو بن العاص فى البحر إلى جدة، ومن جدة إلى مكة»، وأيضاً أرسل إلى سعد بن أبى وقاص، فأرسل له بثلاثة آلاف بعير تحمل الدقيق، وبعث إليه بثلاثة آلاف عباءة، وإلى والى الشام، فأرسل إليه بألفى بعير تحمل الدقيق، كان مهموماً برعيته لدرجة أن اسودت بشرته من شدة الجوع وأكل الخبز والزيت وخدمة الناس للحد الذي وصل فيه لحمل الدقيق لهم فوق ظهره بل وقيامه بنفسه لطبخ الطعام لهم واطعامهم حتى يشبعون الامر الذي دفع على بن أبى طالب رضى الله عنه لأن يقول له: «عففت فعفوا يا أمير المؤمنين، ولو رتعت لرتعوا».
ومن عدله وورعه وإنسانيته أيضاً في الحكم ما ذكره الشيخ "شهاب الدين أحمد الأبشيهي" في كتابه "المستطرف في كل فن مستظرف" ما رواه أنس رضي الله عنه قال بينما أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قاعد إذ جاءه رجل من أهل مصر فقال يا أمير المؤمنين هذا مقام العائذ بك فقال عمر رضي الله عنه لقد عذت بمجير فما شأنك فقال سابقت بفرسي ابنا لعمرو بن العاص وهو يومئذ أمير على مصر فجعل يقنعني بسوطه ويقول أنا ابن الأكرمين فبلغ ذلك عمرا أباه فخشي أن آتيك فحبسني في السجن فانفلت منه فهذا الحين أتيتك فكتب عمرو بن العاص إذا أتاك كتابي هذا فاشهد الموسم أنت وولدك فلان وقال للمصري أقم حتى يأتيك فأقام حتى قدم عمرو وشهد موسم الحج فلما قضى عمر الحج وهو قاعد مع الناس وعمرو بن العاص وابنه إلى جانبه قام المصري فرمي إليه عمر رضي الله عنه بالدرة قال أنس رضي الله عنه فلقد ضربة ونحن نشتهي أن يضربه فلم ينزع حتى أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه وعمر يقول اضرب ابن الأكرمين قال يا أمير المؤمنين قد استوفيت واشتفيت قال ضعها على ضلع عمرو فقال يا أمير المؤمنين لقد ضربت الذي ضربني قال أما والله لو فعلت ما منعك أحد حتى تكون أنت الذي تنزع ثم أقبل على عمرو بن العاص وقال يا عمرو متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم احرارا فجعل عمرو يعتذر.
أما عن وفاة عمر بن الخطاب رضوان الله عليه أو اغتياله وهو قائم يصلي فمن المدهش أن عمر كان يعرف قاتله وأنه سيقتله، ففي ذات يوم كان يمشي وسط مجموعة من الصحابة ، فمر به أبو لؤلؤة المجوسي ، فقال له عمر مداعبا: سمعت أنك تستطيع أن تصنع رحى يتحدث بها الناس، حيث ظن الناس أنه سيخترع شيئا مثيرا، وهنا نظر إليهم عمر وقال : أسمعتم ؟؟.. إنه يتوعدني ، إنه يريد قتلي . فقالوا إذا نقتله، قال: أأقتل إنسانا بالظن ؟ لاوالله، أألقى الله وفي رقبتي دم بالظن ؟ والله لا أفعلها، قالوا غدا ننفيه، قال : أأظلم إنسانا وأخرجه من أرض هو فيها لظني أنه قاتلي ؟، لو كان الله يريد ذلك فإن أمر الله كان قدرا مقدورا، رفض عمر من عمق ورعه وشدة إيمانه أن يحكم على ( كافر ) بالظن فيقتله أو ينفيه، رفض عمر أن يحمل وزر ( الظلم ) في حكمه ولو كان على ( كافرٍ ) مخافة ربه سبحانه وتعالى.
يقول عمرو بن ميمون – أحد التابعين – حين أغتال أبو لؤلؤة المجوسي " عمر" حمله الناس إلى بيته فأغشي عليه ساعات طويلة ، وظنوه مات .. فدخل عبد الله بن عباس عليه وقال أنا أدري كيف يفيق عمر بن الخطاب، فقالوا: كيف يا ابن عباس، فقال: أعلنوا له أن موعد الصلاة حل، فوقفوا أمامه وقالوا الصلاة يا أمير المؤمنين، الصلاة يا أمير المؤمنين، المدهش أنه انتبه وأستفاق وقال: أأصلى بالناس؟ فقالوا نعم، قال: فوضئوني لأصلي، لكنه كان يغيب بعدها من وطأة الجرح ويُغشى عليه، حتى ظل ثلاثة أيام يفيق ثم يغشى عليه، وكان كلما أفاق يقول: الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط، ما كانت العرب لتقتلني، ثم يسأل إبن عباس الذي لازمة طيلة فترة غيبوبته واستفاقته حتى مات: هل اتفق معه المسلمون يا إبن عباس؟ فيرد ابن عباس يا معشر المسلمين هل تآمر مع أبي لؤلؤة المجوسي أحد .فيقول المهاجرون والأنصار وهم يبكون : والله تمنينا أن نزيد "عمر" من أعمارنا ، فإن عمره نصرة للدين أما أعمارنا فستمضي، ولما إطمأن عمر في أن قتله ودمه لم يتورط فيهما مسلم قال لأبن عباس: إن كان أبو اللؤلؤة المجوسي مازال حيا فلا تمثلوا بجسده ، وإن كان مات فلا تمثلوا بجثته، نظر بعدها لأبن عباس وأسلم الروح.
مات عمر وفي خديه - خشية ربه - خطان أسودان من كثرة البكاء، مات عمر إذن، مات الذي كان إسلامه نصراً، وإمارته فتحاً، مات الذي قال فيه ابن عباس رضي الله عنه: و الله لقد ملأت الأرض عدلاً، ما من اثنين يختصمان إليك، إلاّ انتهيا إلى قولك، رحم الله عمر.


عُمر بن الخطاب .. إمام المظلومين

بقلم محيي الدين إبراهيم
قالوا إذا نقتله، قال: أأقتل إنسانا بالظن ؟ لاوالله، أألقى الله وفي رقبتي دم بالظن ؟ والله لا أفعلها، قالوا غدا ننفيه، قال : أأظلم إنسانا وأخرجه من أرض هو فيها لظني أنه قاتلي ؟، لو كان الله يريد ذلك فإن أمر الله كان قدرا مقدورا، رفض عمر من عمق ورعه وشدة إيمانه أن يحكم على ( كافر ) بالظن فيقتله أو ينفيه، رفض عمر أن يحمل وزر ( الظلم ) في حكمه ولو كان على ( كافرٍ ) مخافة ربه سبحانه وتعالى. 


بقلم: محيي الدين إبراهيم
"أبحث عن رجل إذا كان في القوم وليس أميرهم، كان كأنه أميرهم، وإذا كان أميرهم، لم يشعروا أنه أميرهم .. والله لو أن لي طلاع الأرض ذهباً؛ لافتديت به من عذاب الله قبل أن أراه" هذه بعض كلمات عمر بن الخطاب للناس، كلمات تصور عمق شخصيته كإنسان وصحابي وخليفة، إنسان زاهد وصحابي ورع وخليفة عادل.
كان عمر بن الخطاب رجلاً أيسر ( أشول )، طويل، يفوق الناس طولا، أبيض، أصلع، أشيب، شديد حمرة العين، وفي عارضه خفة، سبلته كثيرة الشعر في أطرافها صهبة، على فخذه شامة سوداء، قليل الضحك، لا يمازح أحدا، مقبلا على شأنه، له هيبة حتى أن عبد الله بن جبير، قال: أنه سمع عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يحدث قال: مكثت سنة، و أنا أريد أن أسأل عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، عن آية فلا أستطيع أن أسأله، هيبة، ويحدثنا في زهده رغم أنه أمير المؤمنين وتحت يده أموال بيت مال المسلمين كلها يحدثنا نافع عن ابن عباس رضي الله عنهما، و كان يحضر له الطعام فيقول: كانت له كل يوم، إحدى عشرة لقمة، إلى مثلها من الغد.
قال عنه الدكتور مايكل هارت مؤلف كتاب "أعظم عظماء التاريخ": (إن مآثر عمر مؤثره حقا، فقد كان شخصية رئيسية في انتشار الإسلام)، وقال عنه الكاتب الألماني وايزمر في كتابه "دراسة في تسامح محمد وخلفائه الذين جاءوا بعده": (عندما تسلم عمر كرسي الخلافة قطع وعدا بحكم عادل نزيه وقال: "والله ما فيكم أحداً أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ الحق له ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه" وقد تطبق ما قال بالضبط على أرض الواقع، أما المفكر والكاتب البريطاني توماس أرنولد فقال عنه في كتابه "دعوة الإسلام": ( إن إسلام عمر كان نقطة تحول في تاريخ الإسلام .حيث تمكن المسلمين من اتخاذ مواقف أكثر جرأة وخرج النبي من دار الأرقم وتمكن المسلمين من أداء عباداتهم علنا وجماعة حول الكعبة)، ولعل المدهش فيما صدر عن الموسوعة البريطانية عام 2009 عن عمر: (لقد تحولت الدولة الإسلامية في عصر عمر من إمارة عربية إلى قوة عالمية، وخلال هذه الفتوحات الرائعة وضعت سياسة عمر المنضبطة جدا المبادئ لإدارة البلدان المفتوحة,وان تركيبة الإمبراطورية الإسلامية التي قد حكمت بعده بما تتضمنه من خبرة قانونية يعود الفضل بوجودها إليه).
صاحب عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولازمه في كل خطواته ولم يتركه لحظة واحدة منذ أن أشهر إسلامه وحتى وفاة الرسول الكريم، ومن ثم تأمل الرسول بعمق المؤمن، تعلم منه، تتلمذ على يديه، عاش عظمة نبوته، حتى صار بعد أن أصبح خليفة للمسلمين مدة عشر سنوات وستة أشهر وأربعة أيام، الفاروق في عدله بين الرعية .. وصار حتى يومنا هذا إمام المظلومين.
لا ندري لماذا فضله الله سبحانه وتعالى على عمرو بن هشام في الهداية للإسلام حين دعا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ربه بأن ( يعز ) الإسلام بأحد العمرين، عمرو بن هشام أو عمر بن الخطاب فكانت حكمة الله في اسلام عمر بن الخطاب وهدايته رغم أن كلا منهما – بن هشام وأبن الخطاب – رغم ثقافتهما وقدرتهما على القراءة والكتابة واستجلاب المعرفة جبارين في الجاهلية وبنفس القدر من قوة الغضب حتى أن عمرو بن هشام كان لقبه وقتذاك ( أبو جهل ) التي تعني ( سيد الغضب ) وكان عمر بن الخطاب يُعرف بجبروته، وحيث كان العرب حينها يفخرون بإطلاق هذه المسميات ( العنيفة ) التي من شأنها إضفاء ( وابلاً ) من الهيبة على شخصياتهم بين الناس، كان هناك سر ( إنساني ) في أعماق عمر لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى جعل الله يختاره هو ليعز الإسلام – وقد أفلح عمر في ذلك - ولا يختار أبا جهل.
كان عام ( الرمادة ) هو عام اختبار حقيقي للخليفة عمر بن الخطاب في حكمه وعدله أثناء توليه أمر الخلافة بعد أبو بكر الصديق رضوان الله عليهم جميعاً، حيث كان في هذا العام جدب عم أرض الحجاز، وخاصة المدينة وما حولها في آخر سنة سبع عشرة ، وأول سنة ثماني عشرة ، وجاع الناس جوعا شديدا وكانوا يتساقطون موتاً من شدة الجوع والبلاء، واسودت الأرض من قلة المطر، حتى عاد لونها شبيها بالرماد، هذا بجانب تفشي طاعون "عمواس" الذي قال فيه "الواقدي" : هذا الطاعون منسوب إلى بلد صغيرة يقال لها : "عمواس" وهي بين القدس والرملة ، لأنها كانت أول ما نجم عنها هذا الداء، ثم انتشر في الشام ومنها لجزيرة العرب فنسب إليها، وقد توفي في طاعون "عمواس" من المسلمين بالشام وحدها خمسة وعشرون ألفا، أو ثلاثون ألفا، وبالرغم من ذلك لم ييأس عمر من رحمة الله في فتنة " الرمادة " وطاعون "عمواس" ووطأة وشدة البلاء على الناس في فترة حكمه، استثمر كل موارد الدولة واللجوء إلى الأغنياء من عماله وشعبه من أجل طلب الغوث من الأقاليم عندما نفدت موارد بيت المال، ونفد ما عند أهل المدينة؛فكتب إلى أمراء الأمصار أن أغيثوا أهل المدينة ومن حولها، فإنه قد بلغ جهدهم، قال سيف بن عمر: «كتب عمر إلى أمراء الأمصار يستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها، فكان أول من قدم عليه أبوعبيدة بن الجراح فى أربعة آلاف راحلة من طعام»، وروى ابن كثير: «فكتب عمر إلى أبى موسى بالبصرة أن يا غوثاه لأمة محمد، وكتب إلى عمرو بن العاص بمصر: يا غوثاه لأمة محمد. فبعث إليه كل واحد منهما بقافلة عظيمة تحمل البر وسائر الأطعمة، ووصلت قوافل عمرو بن العاص فى البحر إلى جدة، ومن جدة إلى مكة»، وأيضاً أرسل إلى سعد بن أبى وقاص، فأرسل له بثلاثة آلاف بعير تحمل الدقيق، وبعث إليه بثلاثة آلاف عباءة، وإلى والى الشام، فأرسل إليه بألفى بعير تحمل الدقيق، كان مهموماً برعيته لدرجة أن اسودت بشرته من شدة الجوع وأكل الخبز والزيت وخدمة الناس للحد الذي وصل فيه لحمل الدقيق لهم فوق ظهره بل وقيامه بنفسه لطبخ الطعام لهم واطعامهم حتى يشبعون الامر الذي دفع على بن أبى طالب رضى الله عنه لأن يقول له: «عففت فعفوا يا أمير المؤمنين، ولو رتعت لرتعوا».
ومن عدله وورعه وإنسانيته أيضاً في الحكم ما ذكره الشيخ "شهاب الدين أحمد الأبشيهي" في كتابه "المستطرف في كل فن مستظرف" ما رواه أنس رضي الله عنه قال بينما أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قاعد إذ جاءه رجل من أهل مصر فقال يا أمير المؤمنين هذا مقام العائذ بك فقال عمر رضي الله عنه لقد عذت بمجير فما شأنك فقال سابقت بفرسي ابنا لعمرو بن العاص وهو يومئذ أمير على مصر فجعل يقنعني بسوطه ويقول أنا ابن الأكرمين فبلغ ذلك عمرا أباه فخشي أن آتيك فحبسني في السجن فانفلت منه فهذا الحين أتيتك فكتب عمرو بن العاص إذا أتاك كتابي هذا فاشهد الموسم أنت وولدك فلان وقال للمصري أقم حتى يأتيك فأقام حتى قدم عمرو وشهد موسم الحج فلما قضى عمر الحج وهو قاعد مع الناس وعمرو بن العاص وابنه إلى جانبه قام المصري فرمي إليه عمر رضي الله عنه بالدرة قال أنس رضي الله عنه فلقد ضربة ونحن نشتهي أن يضربه فلم ينزع حتى أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه وعمر يقول اضرب ابن الأكرمين قال يا أمير المؤمنين قد استوفيت واشتفيت قال ضعها على ضلع عمرو فقال يا أمير المؤمنين لقد ضربت الذي ضربني قال أما والله لو فعلت ما منعك أحد حتى تكون أنت الذي تنزع ثم أقبل على عمرو بن العاص وقال يا عمرو متى تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم احرارا فجعل عمرو يعتذر.
أما عن وفاة عمر بن الخطاب رضوان الله عليه أو اغتياله وهو قائم يصلي فمن المدهش أن عمر كان يعرف قاتله وأنه سيقتله، ففي ذات يوم كان يمشي وسط مجموعة من الصحابة ، فمر به أبو لؤلؤة المجوسي ، فقال له عمر مداعبا: سمعت أنك تستطيع أن تصنع رحى يتحدث بها الناس، حيث ظن الناس أنه سيخترع شيئا مثيرا، وهنا نظر إليهم عمر وقال : أسمعتم ؟؟.. إنه يتوعدني ، إنه يريد قتلي . فقالوا إذا نقتله، قال: أأقتل إنسانا بالظن ؟ لاوالله، أألقى الله وفي رقبتي دم بالظن ؟ والله لا أفعلها، قالوا غدا ننفيه، قال : أأظلم إنسانا وأخرجه من أرض هو فيها لظني أنه قاتلي ؟، لو كان الله يريد ذلك فإن أمر الله كان قدرا مقدورا، رفض عمر من عمق ورعه وشدة إيمانه أن يحكم على ( كافر ) بالظن فيقتله أو ينفيه، رفض عمر أن يحمل وزر ( الظلم ) في حكمه ولو كان على ( كافرٍ ) مخافة ربه سبحانه وتعالى.
يقول عمرو بن ميمون – أحد التابعين – حين أغتال أبو لؤلؤة المجوسي " عمر" حمله الناس إلى بيته فأغشي عليه ساعات طويلة ، وظنوه مات .. فدخل عبد الله بن عباس عليه وقال أنا أدري كيف يفيق عمر بن الخطاب، فقالوا: كيف يا ابن عباس، فقال: أعلنوا له أن موعد الصلاة حل، فوقفوا أمامه وقالوا الصلاة يا أمير المؤمنين، الصلاة يا أمير المؤمنين، المدهش أنه انتبه وأستفاق وقال: أأصلى بالناس؟ فقالوا نعم، قال: فوضئوني لأصلي، لكنه كان يغيب بعدها من وطأة الجرح ويُغشى عليه، حتى ظل ثلاثة أيام يفيق ثم يغشى عليه، وكان كلما أفاق يقول: الحمد لله الذي لم يجعل قاتلي يحاجني عند الله بسجدة سجدها له قط، ما كانت العرب لتقتلني، ثم يسأل إبن عباس الذي لازمة طيلة فترة غيبوبته واستفاقته حتى مات: هل اتفق معه المسلمون يا إبن عباس؟ فيرد ابن عباس يا معشر المسلمين هل تآمر مع أبي لؤلؤة المجوسي أحد .فيقول المهاجرون والأنصار وهم يبكون : والله تمنينا أن نزيد "عمر" من أعمارنا ، فإن عمره نصرة للدين أما أعمارنا فستمضي، ولما إطمأن عمر في أن قتله ودمه لم يتورط فيهما مسلم قال لأبن عباس: إن كان أبو اللؤلؤة المجوسي مازال حيا فلا تمثلوا بجسده ، وإن كان مات فلا تمثلوا بجثته، نظر بعدها لأبن عباس وأسلم الروح.
مات عمر وفي خديه - خشية ربه - خطان أسودان من كثرة البكاء، مات عمر إذن، مات الذي كان إسلامه نصراً، وإمارته فتحاً، مات الذي قال فيه ابن عباس رضي الله عنه: و الله لقد ملأت الأرض عدلاً، ما من اثنين يختصمان إليك، إلاّ انتهيا إلى قولك، رحم الله عمر.


الاثنين، 29 أكتوبر 2012

سعد زغلول في ذكراه ( 23 اغسطس 1927 ) وضياع ثورة 25 يناير

mohi_ibraheem

 بقلم: محيي الدين إبراهيم

noonptm@gmail.com
في 9 مارس 1919 صبيحة اعتقال سعد زغلول وأعضاء الوفد، أشعل طلبة الجامعة في القاهرة شرارة التظاهرات. وفي غضون يومين، امتد نطاق الاحتجاجات ليشمل جميع الطلبة بما فيهم طلبة الأزهر. وبعد أيام قليلة كانت الثورة قد اندلعت في جميع الأنحاء من قرى ومدن مصر مثلما حدث تماما في ثورة 25 يناير.
ثورة بلا زعيم هي ثورة رعاع وثورة جياع ما تلبث ان تستولي عليها وعلى الوطن عصابات متناحرة متنافرة يحاول كل منها ان يقتص من الآخر على حساب الشعب لتتحول الأمة بعد الثورة الى أمة من المقهورين يسلبها كبريائها علي بابا والأربعين حرامي.

لقد اندلعت ثورة 1919 في ظل موجة من الحركات الوطنية شملت الهند والصين وأيرلندا وبعض مناطق أمريكا اللاتينية تماما مثل ( هوجة الربيع العربي ) التي شملت اليمن وتونس وليبيا ومصر وسوريا والبحرين وغيرهم ولا نعرف من الذي يقف ورائها لتحدث هكذا فجأة دون رأس أو زعامة ولا ندري حتى يومنا هذا لصالح من تلك الثورات؟ وحتماً ليست في صالح الشعوب الثائرة!.

أما ثورة 1919 فقد كان رأسها سعد زغلول رأس القيمة في ثورات القرن العشرين والزعيم الوحيد الذي اقيمت له جنازتين عسكريتين شعبيتين عظيمتين واحده في عام 1927 يوم وفاته والثانية في عام 1936 حينما تم نقل رفاته من مقابر الامام الشافعي للضريح المعروف بأسمة بشارع الفلكي! حيث تشكلت في المرة الثانية في عام 1936 حكومة الوفد برئاسة مصطفى باشا النحاس وطلبت أم المصريين لنقل جثمان سعد باشا الى ضريحه بشارع الفلكي والذي يطل عليه بيت الأمة وحدد النحاس باشا يوم 19 يونيو عام 1936 للاحتفال بنقل رفات زعيم الأمة بعد أن ظل في مقبرة الامام الشافعي تسعة أعوام تقريبا وفي اليوم السابق للاحتفال ذهب النحاس باشا مع بعض رفاق سعد زغلول الى المقبرة سرا للاطمئنان على رفاته قبل نقلها ظناً منهما أنه لبما حدث أو يحدث شيئاً لرفاة زعيم الأمة ، وكان معهما محمود فهمي النقراشي باشا ومحمد حنفي الطرزي باشا والمسئول عن مدافن الامام الشافعي ولفوا جسد الزعيم الراحل في أقمشة حريرية ووضعوه في نعش جديد ووضعوا حراسة على المكان حتى حضر كل من أحمد باشا ماهر رئيس مجلس النواب ومحمود بك بسيوني رئيس مجلس الشيوخ في السادسة من صباح اليوم التالي ثم توالى الحاضرين إلى المقبرة من الوزراء والنواب والشيوخ وحمل النعش على عربة عسكرية تجرها 8 خيول واخترق موكب الجنازة للمرة الثانية القاهرة من الامام الشافعي حتى وصل الى موقع الضريح بشارع الفلكي وكان قد أقيم بجواره سرادق ضخم لاستقبال كبار رجال الدولة والمشيعين من أنصار سعد وألقى النحاس باشا كلمة مختارة في حب زعيم الأمة جددت أحزان الحاضرين ودمعت عيناه وبكت أم المصريين بكاء شديداً ونقلت صحافة مصر تفاصيل نقل الجثمان إلى الضريح وكتبت مجلة «المصور» تفاصيل نقل الجثمان تحت عنوان «سعد يعود الى ضريحه منتصرا» حقاً لقد كان زعيم أمة.

دوافع ثورة 25 يناير هي نفسها دوافع ثورة 1919 ولكن ....
تماماً كما فعل نظام المخلوع حسني مبارك حيث عانى المصريون من سوء الأحوال المعيشية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وأعلن الإنجليز الأحكام العرفية على مصر. ومصادرة ممتلكات الناس والفلاحين من ماشية ومحصول لصالح رجال القصر ولأجل المساهمة في تكاليف الحرب، الأمر الذي كان من توابعه أن نقصت السلع الأساسية بشكل حاد، وتدهورت الأوضاع المعيشية لكل من سكان الريف والمدن، وشهدت مدينتي القاهرة والأسكندرية مظاهرات للعاطلين ومواكب للجائعين تطورت أحيانا إلى ممارسات عنيفة تمثلت في النهب والسلب والتخريب. ولم تفلح إجراءات الحكومة لمواجهة الغلاء، مثل توزيع كميات من الخبز على سكان المدن أو محاولة ترحيل العمال العاطلين إلى قراهم، في التخفيف من حدة الأزمة، كذلك تعرضت جميع النقابات وخاصة العمال ونقاباتهم لهجوم بسبب إعلان الأحكام العرفية وإصدار القوانين التي تحرم التجمهر والإضراب.

في الوقت نفسه شهدت هذه الفترة ارتفاعا للأسعار بشكل ملحوظ، بما فيها أسعار السلع الأساسية. حيث سجلت الأرقام القياسية للأسعار ارتفاعا بلغ 216 عام 1918 مقارنة بسنة 1914. وارتفع سعر القمح بمعدل 131% والسكر 149% والفول 114% والبترول 103% كما بلغ سعر الفحم في نهاية الحرب تسعة أمثال ما كان عليه قبل اندلاعها. وارتبط ذلك أيضا بنقص حاد في السلع الاساسية. وكان لهذه الأوضاع أن أدت إلى تدهور الأوضاع المعيشية لكل من سكان الريف والمدن. حيث شهدت مدينتي القاهرة والإسكندرية مظاهرات للعاطلين ومواكب للجائعين تطورت أحيانا إلى ممارسات عنيفة تمثلت في النهب والتخريب. ولم تفلح إجراءات الحكومة لمواجهة الغلاء، مثل توزيع كميات من الخبز على سكان المدن أو محاولة ترحيل العمال العاطلين إلى قراهم، في التخفيف من حدة الأزمة ومن ثم خاض عمال الصناعة والنقل عددا من الإضرابات للمطالبة برفع الأجور وتقليل ساعات العمل، كما تشّكل عدد من النقابات للدفاع عن حقوق العمال مثل الرابطة الدولية لعمال السجائر والورق في القاهرة، ونقابة عمال الصناعة اليدوية. ولكن مع نشوب الحرب تم إجهاض النشاط النقابي وأصبح العمال عاجزين عن الدفاع عن حقوقهم.

ومثلما فعل البرادعي ومن معه امام الطاغية حسني مبارك قام ثلاثة من أعضاء الجمعية التشريعية، هم سعد زغلول وعلي شعراوي وعبد العزيز فهمي، بمقابلة المندوب السامي البريطاني مطالبين بالاستقلال. ولكن إزاء تعاطف قطاعات شعبية واسعة مع هذا التحرك، قامت السلطات البريطانية بالقبض على سعد زعلول وثلاثة من أعضاء الوفد هم محمد محمود وحمد الباسل وإسماعيل صدقي، ورحّلتهم إلى مالطة في الثامن من مارس عام 1919. تماما مثلما اعتقل نظام الطاغية حسني مبارك مع محمد البرادعي واعتقاله في منزله ليكون ذلك إيذانا بقيام الثورة التي اجتاحت جميع انحاء البلاد، وتصدت لها القوات البريطانية وقوات الأمن المصرية بأقصى درجات العنف.

وفي 9 مارس 1919 صبيحة اعتقال سعد زغلول وأعضاء الوفد، أشعل طلبة الجامعة في القاهرة شرارة التظاهرات. وفي غضون يومين، امتد نطاق الاحتجاجات ليشمل جميع الطلبة بما فيهم طلبة الأزهر. وبعد أيام قليلة كانت الثورة قد اندلعت في جميع الأنحاء من قرى ومدن مصر مثلما حدث تماما في ثورة 25 يناير.

ففي القاهرة قام عمال الترام بإضراب بدء يوم 11 مارس مطالبين بزيادة الأجور وتخفيض ساعات العمل وغيرها، وتم شل حركة الترام شللا كاملا، تلا ذلك إضراب عمال عنابر السكك الحديدية يوم 15 مارس، والذي جاء عقب قيام السلطات البريطانية بإلحاق بعض الجنود للتدريب بورش العنابر في بولاق للحلول محل العمال المصريين في حالة إضرابهم، مما عجّل بقرار العمال بالمشاركة في الأحداث.

ولم يكتف هؤلاء بإعلان الإضراب، بل قاموا بإتلاف محولات حركة القطارات وابتكروا عملية قطع خطوط السكك الحديدية – التي أخذها عنهم الفلاحون وأصبحت أهم أسلحة الثورة واستمر إضراب عمال العنابر حتى أواخر إبريل. وأضرب سائقو التاكسي وعمال البريد والكهرباء والجمارك ، تلا ذلك إضراب عمال المطابع وعمال الفنارات والورش الحكومية ومصلحة الجمارك بالإسكندرية. كما اضرب المحامون في 2 إبريل وانضم موظفي الحكومة للإضراب في نفس اليوم 2 ابريل.

ولم تتوقف احتجاجات المدن على التظاهرات وإضرابات العمال، بل قام السكان في الأحياء الفقيرة بحفر الخنادق لمواجهة القوات البريطانية وقوات الشرطة، وقامت الجماهير بالاعتداء على بعض المحلات التجارية وممتلكات الأجانب وتدمير مركبات الترام. شارك النساء بفاعلية في الثورة وقاموا بمظاهرات كبري منها واحدة يوم 16 مارس واخري يوم 20 مارس.

في حين قامت جماعات الفلاحين بقطع خطوط السكك الحديدية في قرى ومدن الوجهين القبلي والبحري، ومهاجمة أقسام البوليس في المدن. ففي منيا القمح أغار الفلاحون من القرى المجاورة على مركز الشرطة وأطلقوا سراح المعتقلين، وفي دمنهور قام الأهالي بالتظاهر وضرب رئيس المدينة بالأحذية وكادوا يقتلونه عندما وجه لهم الإهانات.

وفي الفيوم هاجم البدو القوات البريطانية وقوات الشرطة عندما اعتدت هذه القوات على المتظاهرين. وفي أسيوط قام الأهالي بالهجوم على قسم البوليس والاستيلاء على السلاح، ولم يفلح قصف المدينة بطائرتين في إجبارهم على التراجع، أما في دير مواس بالقرب من أسيوط، هاجم الفلاحون قطارا للجنود الإنجليز ودارت معارك طاحنة بين الجانبين.

وعندما أرسل الإنجليز سفينة مسلحة إلى أسيوط، هبط مئات الفلاحين إلى النيل مسلحين بالبنادق القديمة للاستيلاء على السفينة. وعلي الجانب الأخر كان رد فعل القوات البريطانية من أفظع أعمال العنف الذي لاقاه المصريون في التاريخ الحديث، فمنذ الأيام الأولى كانت القوات البريطانية هي أول من أوقع الشهداء بين صفوف الطلبة أثناء المظاهرات السلمية في بداية الثورة.

وعقب انتشار قطع خطوط السكك الحديد، أصدرت السلطات بيانات تهدد بإعدام كل من يساهم في ذلك، وبحرق القرى المجاورة للخطوط التي يتم قطعها. وتم تشكيل العديد من المحاكم العسكرية لمحاكمة المشاركين في الثورة. ولم تتردد قوات الأمن في حصد الأرواح بشكل لم يختلف أحيانا عن المذابح، كما حدث في الفيوم عندما تم قتل أربعمائة من البدو في يوم واحد على أيدي القوات البريطانية وقوات الشرطة المصرية. ولم تتردد القوات البريطانية في تنفيذ تهديداتها ضد القرى، كما حدث في قرى العزيزية والبدرشين والشوبك وغيرها، حيث أُحرقت هذه القرى ونُهبت ممتلكات الفلاحين، وتم قتل وجلد الفلاحين واغتصاب عدد من النساء.

هكذا كان الإضراب العام في عام 1919 والذي شل الحياة وحركة النقل بين المدن وكذلك داخل المدن من خلال إضراب (عمال عنابر السكك الحديدية وعمال الترام وسائقي التاكسيات) واستمرارهم في الإضراب وكذلك الموظفين والطلبة. وانضمام الفلاحين للثورة وقطع خطوط السكك الحديدية.

وإذا تطرقنا إلى نتائج ثورة 1919، فيمكن القول أنها وإن لم تؤد إلى تحقيق الاستقلال فأنها قد كانت لها آثارا مهمة على تطور الحركة الديمقراطية والنقابية. فقد أسفرت عن نشأة أحزاب ليبرالية وطنية تجمع تحت مظلتها جميع الطوائف المصرية على اختلاف مذاهبهم الدينية والعرقية مثل حزب الوفد وأحزاب الأقليات ووضع أول دستور ليبرالي وطني لمصر في عام 1923 وقيام أول حكومة ليبرالية منتخبة هي حكومة الوفد. هذا إلى جانب بعث الحركة النقابية التي كانت قد أصيبت بموات خلال فترة ما قبل الثورة حيث تشكلت العديد من النقابات، وانبثقت حركة إضرابات قوية في الأعوام التالية. وفي الوقت نفسه، فقد نبهت الثورة الطبقات العليا من البرجوازية وكبار الملاك إلى خطورة التحرك الجماهيري، أما ثورة 25 يناير فلم يخرج لنا من رحمها إلا أحزاب دينية متناحرة وفوضى عارمة في الشارع المصري ربما تمتد لعشرين عاما قادمة لا يعلم إلا الله دموية صراع العصابات فيها التي استولت من خلالها على الوطن.

سعد زغلول في ذكراه ( 23 اغسطس 1927 ) وضياع ثورة 25 يناير

mohi_ibraheem

 بقلم: محيي الدين إبراهيم

noonptm@gmail.com
في 9 مارس 1919 صبيحة اعتقال سعد زغلول وأعضاء الوفد، أشعل طلبة الجامعة في القاهرة شرارة التظاهرات. وفي غضون يومين، امتد نطاق الاحتجاجات ليشمل جميع الطلبة بما فيهم طلبة الأزهر. وبعد أيام قليلة كانت الثورة قد اندلعت في جميع الأنحاء من قرى ومدن مصر مثلما حدث تماما في ثورة 25 يناير.
ثورة بلا زعيم هي ثورة رعاع وثورة جياع ما تلبث ان تستولي عليها وعلى الوطن عصابات متناحرة متنافرة يحاول كل منها ان يقتص من الآخر على حساب الشعب لتتحول الأمة بعد الثورة الى أمة من المقهورين يسلبها كبريائها علي بابا والأربعين حرامي.

لقد اندلعت ثورة 1919 في ظل موجة من الحركات الوطنية شملت الهند والصين وأيرلندا وبعض مناطق أمريكا اللاتينية تماما مثل ( هوجة الربيع العربي ) التي شملت اليمن وتونس وليبيا ومصر وسوريا والبحرين وغيرهم ولا نعرف من الذي يقف ورائها لتحدث هكذا فجأة دون رأس أو زعامة ولا ندري حتى يومنا هذا لصالح من تلك الثورات؟ وحتماً ليست في صالح الشعوب الثائرة!.

أما ثورة 1919 فقد كان رأسها سعد زغلول رأس القيمة في ثورات القرن العشرين والزعيم الوحيد الذي اقيمت له جنازتين عسكريتين شعبيتين عظيمتين واحده في عام 1927 يوم وفاته والثانية في عام 1936 حينما تم نقل رفاته من مقابر الامام الشافعي للضريح المعروف بأسمة بشارع الفلكي! حيث تشكلت في المرة الثانية في عام 1936 حكومة الوفد برئاسة مصطفى باشا النحاس وطلبت أم المصريين لنقل جثمان سعد باشا الى ضريحه بشارع الفلكي والذي يطل عليه بيت الأمة وحدد النحاس باشا يوم 19 يونيو عام 1936 للاحتفال بنقل رفات زعيم الأمة بعد أن ظل في مقبرة الامام الشافعي تسعة أعوام تقريبا وفي اليوم السابق للاحتفال ذهب النحاس باشا مع بعض رفاق سعد زغلول الى المقبرة سرا للاطمئنان على رفاته قبل نقلها ظناً منهما أنه لبما حدث أو يحدث شيئاً لرفاة زعيم الأمة ، وكان معهما محمود فهمي النقراشي باشا ومحمد حنفي الطرزي باشا والمسئول عن مدافن الامام الشافعي ولفوا جسد الزعيم الراحل في أقمشة حريرية ووضعوه في نعش جديد ووضعوا حراسة على المكان حتى حضر كل من أحمد باشا ماهر رئيس مجلس النواب ومحمود بك بسيوني رئيس مجلس الشيوخ في السادسة من صباح اليوم التالي ثم توالى الحاضرين إلى المقبرة من الوزراء والنواب والشيوخ وحمل النعش على عربة عسكرية تجرها 8 خيول واخترق موكب الجنازة للمرة الثانية القاهرة من الامام الشافعي حتى وصل الى موقع الضريح بشارع الفلكي وكان قد أقيم بجواره سرادق ضخم لاستقبال كبار رجال الدولة والمشيعين من أنصار سعد وألقى النحاس باشا كلمة مختارة في حب زعيم الأمة جددت أحزان الحاضرين ودمعت عيناه وبكت أم المصريين بكاء شديداً ونقلت صحافة مصر تفاصيل نقل الجثمان إلى الضريح وكتبت مجلة «المصور» تفاصيل نقل الجثمان تحت عنوان «سعد يعود الى ضريحه منتصرا» حقاً لقد كان زعيم أمة.

دوافع ثورة 25 يناير هي نفسها دوافع ثورة 1919 ولكن ....
تماماً كما فعل نظام المخلوع حسني مبارك حيث عانى المصريون من سوء الأحوال المعيشية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وأعلن الإنجليز الأحكام العرفية على مصر. ومصادرة ممتلكات الناس والفلاحين من ماشية ومحصول لصالح رجال القصر ولأجل المساهمة في تكاليف الحرب، الأمر الذي كان من توابعه أن نقصت السلع الأساسية بشكل حاد، وتدهورت الأوضاع المعيشية لكل من سكان الريف والمدن، وشهدت مدينتي القاهرة والأسكندرية مظاهرات للعاطلين ومواكب للجائعين تطورت أحيانا إلى ممارسات عنيفة تمثلت في النهب والسلب والتخريب. ولم تفلح إجراءات الحكومة لمواجهة الغلاء، مثل توزيع كميات من الخبز على سكان المدن أو محاولة ترحيل العمال العاطلين إلى قراهم، في التخفيف من حدة الأزمة، كذلك تعرضت جميع النقابات وخاصة العمال ونقاباتهم لهجوم بسبب إعلان الأحكام العرفية وإصدار القوانين التي تحرم التجمهر والإضراب.

في الوقت نفسه شهدت هذه الفترة ارتفاعا للأسعار بشكل ملحوظ، بما فيها أسعار السلع الأساسية. حيث سجلت الأرقام القياسية للأسعار ارتفاعا بلغ 216 عام 1918 مقارنة بسنة 1914. وارتفع سعر القمح بمعدل 131% والسكر 149% والفول 114% والبترول 103% كما بلغ سعر الفحم في نهاية الحرب تسعة أمثال ما كان عليه قبل اندلاعها. وارتبط ذلك أيضا بنقص حاد في السلع الاساسية. وكان لهذه الأوضاع أن أدت إلى تدهور الأوضاع المعيشية لكل من سكان الريف والمدن. حيث شهدت مدينتي القاهرة والإسكندرية مظاهرات للعاطلين ومواكب للجائعين تطورت أحيانا إلى ممارسات عنيفة تمثلت في النهب والتخريب. ولم تفلح إجراءات الحكومة لمواجهة الغلاء، مثل توزيع كميات من الخبز على سكان المدن أو محاولة ترحيل العمال العاطلين إلى قراهم، في التخفيف من حدة الأزمة ومن ثم خاض عمال الصناعة والنقل عددا من الإضرابات للمطالبة برفع الأجور وتقليل ساعات العمل، كما تشّكل عدد من النقابات للدفاع عن حقوق العمال مثل الرابطة الدولية لعمال السجائر والورق في القاهرة، ونقابة عمال الصناعة اليدوية. ولكن مع نشوب الحرب تم إجهاض النشاط النقابي وأصبح العمال عاجزين عن الدفاع عن حقوقهم.

ومثلما فعل البرادعي ومن معه امام الطاغية حسني مبارك قام ثلاثة من أعضاء الجمعية التشريعية، هم سعد زغلول وعلي شعراوي وعبد العزيز فهمي، بمقابلة المندوب السامي البريطاني مطالبين بالاستقلال. ولكن إزاء تعاطف قطاعات شعبية واسعة مع هذا التحرك، قامت السلطات البريطانية بالقبض على سعد زعلول وثلاثة من أعضاء الوفد هم محمد محمود وحمد الباسل وإسماعيل صدقي، ورحّلتهم إلى مالطة في الثامن من مارس عام 1919. تماما مثلما اعتقل نظام الطاغية حسني مبارك مع محمد البرادعي واعتقاله في منزله ليكون ذلك إيذانا بقيام الثورة التي اجتاحت جميع انحاء البلاد، وتصدت لها القوات البريطانية وقوات الأمن المصرية بأقصى درجات العنف.

وفي 9 مارس 1919 صبيحة اعتقال سعد زغلول وأعضاء الوفد، أشعل طلبة الجامعة في القاهرة شرارة التظاهرات. وفي غضون يومين، امتد نطاق الاحتجاجات ليشمل جميع الطلبة بما فيهم طلبة الأزهر. وبعد أيام قليلة كانت الثورة قد اندلعت في جميع الأنحاء من قرى ومدن مصر مثلما حدث تماما في ثورة 25 يناير.

ففي القاهرة قام عمال الترام بإضراب بدء يوم 11 مارس مطالبين بزيادة الأجور وتخفيض ساعات العمل وغيرها، وتم شل حركة الترام شللا كاملا، تلا ذلك إضراب عمال عنابر السكك الحديدية يوم 15 مارس، والذي جاء عقب قيام السلطات البريطانية بإلحاق بعض الجنود للتدريب بورش العنابر في بولاق للحلول محل العمال المصريين في حالة إضرابهم، مما عجّل بقرار العمال بالمشاركة في الأحداث.

ولم يكتف هؤلاء بإعلان الإضراب، بل قاموا بإتلاف محولات حركة القطارات وابتكروا عملية قطع خطوط السكك الحديدية – التي أخذها عنهم الفلاحون وأصبحت أهم أسلحة الثورة واستمر إضراب عمال العنابر حتى أواخر إبريل. وأضرب سائقو التاكسي وعمال البريد والكهرباء والجمارك ، تلا ذلك إضراب عمال المطابع وعمال الفنارات والورش الحكومية ومصلحة الجمارك بالإسكندرية. كما اضرب المحامون في 2 إبريل وانضم موظفي الحكومة للإضراب في نفس اليوم 2 ابريل.

ولم تتوقف احتجاجات المدن على التظاهرات وإضرابات العمال، بل قام السكان في الأحياء الفقيرة بحفر الخنادق لمواجهة القوات البريطانية وقوات الشرطة، وقامت الجماهير بالاعتداء على بعض المحلات التجارية وممتلكات الأجانب وتدمير مركبات الترام. شارك النساء بفاعلية في الثورة وقاموا بمظاهرات كبري منها واحدة يوم 16 مارس واخري يوم 20 مارس.

في حين قامت جماعات الفلاحين بقطع خطوط السكك الحديدية في قرى ومدن الوجهين القبلي والبحري، ومهاجمة أقسام البوليس في المدن. ففي منيا القمح أغار الفلاحون من القرى المجاورة على مركز الشرطة وأطلقوا سراح المعتقلين، وفي دمنهور قام الأهالي بالتظاهر وضرب رئيس المدينة بالأحذية وكادوا يقتلونه عندما وجه لهم الإهانات.

وفي الفيوم هاجم البدو القوات البريطانية وقوات الشرطة عندما اعتدت هذه القوات على المتظاهرين. وفي أسيوط قام الأهالي بالهجوم على قسم البوليس والاستيلاء على السلاح، ولم يفلح قصف المدينة بطائرتين في إجبارهم على التراجع، أما في دير مواس بالقرب من أسيوط، هاجم الفلاحون قطارا للجنود الإنجليز ودارت معارك طاحنة بين الجانبين.

وعندما أرسل الإنجليز سفينة مسلحة إلى أسيوط، هبط مئات الفلاحين إلى النيل مسلحين بالبنادق القديمة للاستيلاء على السفينة. وعلي الجانب الأخر كان رد فعل القوات البريطانية من أفظع أعمال العنف الذي لاقاه المصريون في التاريخ الحديث، فمنذ الأيام الأولى كانت القوات البريطانية هي أول من أوقع الشهداء بين صفوف الطلبة أثناء المظاهرات السلمية في بداية الثورة.

وعقب انتشار قطع خطوط السكك الحديد، أصدرت السلطات بيانات تهدد بإعدام كل من يساهم في ذلك، وبحرق القرى المجاورة للخطوط التي يتم قطعها. وتم تشكيل العديد من المحاكم العسكرية لمحاكمة المشاركين في الثورة. ولم تتردد قوات الأمن في حصد الأرواح بشكل لم يختلف أحيانا عن المذابح، كما حدث في الفيوم عندما تم قتل أربعمائة من البدو في يوم واحد على أيدي القوات البريطانية وقوات الشرطة المصرية. ولم تتردد القوات البريطانية في تنفيذ تهديداتها ضد القرى، كما حدث في قرى العزيزية والبدرشين والشوبك وغيرها، حيث أُحرقت هذه القرى ونُهبت ممتلكات الفلاحين، وتم قتل وجلد الفلاحين واغتصاب عدد من النساء.

هكذا كان الإضراب العام في عام 1919 والذي شل الحياة وحركة النقل بين المدن وكذلك داخل المدن من خلال إضراب (عمال عنابر السكك الحديدية وعمال الترام وسائقي التاكسيات) واستمرارهم في الإضراب وكذلك الموظفين والطلبة. وانضمام الفلاحين للثورة وقطع خطوط السكك الحديدية.

وإذا تطرقنا إلى نتائج ثورة 1919، فيمكن القول أنها وإن لم تؤد إلى تحقيق الاستقلال فأنها قد كانت لها آثارا مهمة على تطور الحركة الديمقراطية والنقابية. فقد أسفرت عن نشأة أحزاب ليبرالية وطنية تجمع تحت مظلتها جميع الطوائف المصرية على اختلاف مذاهبهم الدينية والعرقية مثل حزب الوفد وأحزاب الأقليات ووضع أول دستور ليبرالي وطني لمصر في عام 1923 وقيام أول حكومة ليبرالية منتخبة هي حكومة الوفد. هذا إلى جانب بعث الحركة النقابية التي كانت قد أصيبت بموات خلال فترة ما قبل الثورة حيث تشكلت العديد من النقابات، وانبثقت حركة إضرابات قوية في الأعوام التالية. وفي الوقت نفسه، فقد نبهت الثورة الطبقات العليا من البرجوازية وكبار الملاك إلى خطورة التحرك الجماهيري، أما ثورة 25 يناير فلم يخرج لنا من رحمها إلا أحزاب دينية متناحرة وفوضى عارمة في الشارع المصري ربما تمتد لعشرين عاما قادمة لا يعلم إلا الله دموية صراع العصابات فيها التي استولت من خلالها على الوطن.