الثلاثاء، 3 مايو 2016

عندما يتفق ( صلاح جاهين وسيد مكاوي ) على الموت في يوم واحد !

mohi_ibraheem

 

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com

" لموا الكراريس" التي غنتها الفنانة العظيمة شادية بمناسبة قتل اطفال مدرسة بحر البقر، أغنية انفعل بها ( مكاوي ) واستشعر حينها ( مكاوي ) بكلمات رفيق دربه صلاح جاهين وبأنه يجب عليه أن يرسل من خلالها رسالة للعالم .. أن يصرخ بفنه .. يغضب .. يحمل السلاح .. ولكن سلاح من نوع خاص .. سلاح إلهامه .. إيمانه بوطنه .. 

صلاح جاهين ومن بعده سيد مكاوي، عملاقان، عاشا صديقين معاً، وأضاءا وجه مصر بإبداعاتهما معاً، وعبرا بفنهما عن الكرامة المصرية، والكبرياء المصري، بل ووجود مصر الحضاري والمعاصر، لكن من عجائب القدر أن كلاً منهما حين انتقل لجوار ربه إنتقل في 21 أبريل وكأنهما كانا على اتفاق فيما بينهما أن يموتا في نفس اليوم رغم السنين التي تفصل بين وفاة كل منهما عن الآخر.
صلاح جاهين، هذا الساخر المهموم، التي دعته حماسته بثورة 23 يوليو أن يكتئب من هزيمة يونيو ويعتزل الفرحة، لقد كان صلاح جاهين في وفاة أمل دنقل في قمة الاكتئاب، اكتئاب وصل إلى أعلى نقطة، كان كلما مشى في الشوارع التي اعتاد أن يمشي فيها إتهمه البعض ممن يعرفونه بأنه سبب ما تعيشه مصر من هزيمة فهو الذي هلل وكبر وغنى واتضح أن كل ما ردده الشعب المصري ورائه كان مجرد أوهام أدت لنكسة يونيو 1967، لم يستطع أن يقاوم، كان يستشعر أن كل أحلامه تخلت عنه، أحلام الثورة وأحلام الناصرية، وأحلام النصر، حتى اعترف عام 1986 بعد وفاة أمل دنقل بثلاث سنوات فقط لبعض أصدقائه أنه لا يدري هل كان يغني للناس أم يغني عليهم، ومات يوم 21 أبريل من نفس العام، كانت صاعقة لصديقه الذي ملأ مصر معه بالغناء للثورة وللنصر والهزيمة، سيد مكاوي، لقد كان النغم لكلمات جاهين، لم يفترقا، وحين مات جاهين، لم يذرف مكاوي دمعة واحدة، انتابته حالة من الذهول، ظل صامتاً حتى أخبرته إيناس أبنته بأن رفيق الرحلة سيخرج من مسجد عمر مكرم، ظل طوال الطريق صامتاً، غير مصدق أنه يمشي في جنازة صلاح جاهين، يمشي في جنازة من ملأ معه الدنيا صخباً وضجيجاً وضحكاً وسخرية والآن يواري جسده الثرى للأبد، لكنه لم يكن يعلم أنه سيلقاه في نفس اليوم 21 إبريل ولكن بعد 11 عام في 1997، فهل هذا هو عمق الارتباط بين الأصدقاء أم أنه القدر الذي لا يريد أن يحرمهما من ارتباط اسميهما حتى في يوم الوفاة، اصدقاء لا يمكن أن ننسى لهما روائع ما فعلاه لمصر سوياً بداية باحتفالات مصر بثورتها والغناء لها والاحتفاء بها ثم مروراً بأغاني أشبه بالمرثيات بعد نكسة 1967 وربما أهمها أغنية " لموا الكراريس" التي غنتها الفنانة العظيمة شادية بمناسبة قتل اطفال مدرسة بحر البقر، وهي أغنية انفعل بها ( مكاوي ) واستشعر حينها ( مكاوي ) بكلمات رفيق دربه صلاح جاهين وبأنه يجب عليه أن يرسل من خلالها رسالة للعالم .. أن يصرخ بفنه .. يغضب .. يحمل السلاح .. ولكن سلاح من نوع خاص .. سلاح إلهامه .. إيمانه بوطنه .. ويجب علينا أن نلاحظ هنا في هذا اللحن تحديداً اعتماد ( مكاوي ) على الجمل الأوبرالية المسرحية الأقرب للعالمية بغرض التعبير عن سيناريو الفساد والاحتلال والحرب وضياع الضمير الإنساني بقصف الأطفال في مدارسهم وعلى مقاعد الدرس ولم يتعد أكبر تلميذ فيهم العاشرة من عمره .. لقد كان اللحن وكأنه صور سينمائية متتابعة ومتلاحقة نجح فيه ( مكاوي ) بأن يفضح ضمير العالم كله وتحويل مأساته ومأساة شعبه من عمل يقتصر على مصر وحدها لعمل يخص العالم أجمع ويهز وجدانه لعله يستفيق .. ومن بعد هذا العمل العبقري استطاع جاهين ومكاوي أن يخرجا علينا بأعمال أخرى ستظل علامه في تاريخ الفن المصري والعربي ومن أهم تلك الأعمال الليلة الكبيرة ورباعيات جاهين، الحديث يطول عن عبقرية صلاح وجاهين وسيد مكاوي لكن شجن الذكرى يحصرنا في كلمات نحاول بها فقط التعبير عن عرفاننا بالجميل لهما عما قدماه للشعب العربي كله من فن، وأن نتذكرهما ونتذكر عجائب الأقدار التي جمعتهما معاً في الدنيا وجمعتهما معاً في يوم الوفاة الذي نعتبره رغم امتلائه بالحزن عليهما إلا أنه يمتلئ أيضاً بكل الفخر بهما، ولعلنا نذكر في هذا المقام ما قاله جاهين في إحدى رباعياته ولحنها سيد مكاوي وكأنها رباعية هي لسان حال كل منهما: 
مرغم عليك يا صبر مغصوب يا ليل
لا دخلتها برجليا ولا كان لى ميل
دخلت انا ف الحياه شايليننى شيل
وبكره حاخرج منها شايلينى شيل
وفي ذكراهما لا يسعنا سوى القول: رحم الله العملاقين


عندما يتفق ( صلاح جاهين وسيد مكاوي ) على الموت في يوم واحد !

mohi_ibraheem

 

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com

" لموا الكراريس" التي غنتها الفنانة العظيمة شادية بمناسبة قتل اطفال مدرسة بحر البقر، أغنية انفعل بها ( مكاوي ) واستشعر حينها ( مكاوي ) بكلمات رفيق دربه صلاح جاهين وبأنه يجب عليه أن يرسل من خلالها رسالة للعالم .. أن يصرخ بفنه .. يغضب .. يحمل السلاح .. ولكن سلاح من نوع خاص .. سلاح إلهامه .. إيمانه بوطنه .. 

صلاح جاهين ومن بعده سيد مكاوي، عملاقان، عاشا صديقين معاً، وأضاءا وجه مصر بإبداعاتهما معاً، وعبرا بفنهما عن الكرامة المصرية، والكبرياء المصري، بل ووجود مصر الحضاري والمعاصر، لكن من عجائب القدر أن كلاً منهما حين انتقل لجوار ربه إنتقل في 21 أبريل وكأنهما كانا على اتفاق فيما بينهما أن يموتا في نفس اليوم رغم السنين التي تفصل بين وفاة كل منهما عن الآخر.
صلاح جاهين، هذا الساخر المهموم، التي دعته حماسته بثورة 23 يوليو أن يكتئب من هزيمة يونيو ويعتزل الفرحة، لقد كان صلاح جاهين في وفاة أمل دنقل في قمة الاكتئاب، اكتئاب وصل إلى أعلى نقطة، كان كلما مشى في الشوارع التي اعتاد أن يمشي فيها إتهمه البعض ممن يعرفونه بأنه سبب ما تعيشه مصر من هزيمة فهو الذي هلل وكبر وغنى واتضح أن كل ما ردده الشعب المصري ورائه كان مجرد أوهام أدت لنكسة يونيو 1967، لم يستطع أن يقاوم، كان يستشعر أن كل أحلامه تخلت عنه، أحلام الثورة وأحلام الناصرية، وأحلام النصر، حتى اعترف عام 1986 بعد وفاة أمل دنقل بثلاث سنوات فقط لبعض أصدقائه أنه لا يدري هل كان يغني للناس أم يغني عليهم، ومات يوم 21 أبريل من نفس العام، كانت صاعقة لصديقه الذي ملأ مصر معه بالغناء للثورة وللنصر والهزيمة، سيد مكاوي، لقد كان النغم لكلمات جاهين، لم يفترقا، وحين مات جاهين، لم يذرف مكاوي دمعة واحدة، انتابته حالة من الذهول، ظل صامتاً حتى أخبرته إيناس أبنته بأن رفيق الرحلة سيخرج من مسجد عمر مكرم، ظل طوال الطريق صامتاً، غير مصدق أنه يمشي في جنازة صلاح جاهين، يمشي في جنازة من ملأ معه الدنيا صخباً وضجيجاً وضحكاً وسخرية والآن يواري جسده الثرى للأبد، لكنه لم يكن يعلم أنه سيلقاه في نفس اليوم 21 إبريل ولكن بعد 11 عام في 1997، فهل هذا هو عمق الارتباط بين الأصدقاء أم أنه القدر الذي لا يريد أن يحرمهما من ارتباط اسميهما حتى في يوم الوفاة، اصدقاء لا يمكن أن ننسى لهما روائع ما فعلاه لمصر سوياً بداية باحتفالات مصر بثورتها والغناء لها والاحتفاء بها ثم مروراً بأغاني أشبه بالمرثيات بعد نكسة 1967 وربما أهمها أغنية " لموا الكراريس" التي غنتها الفنانة العظيمة شادية بمناسبة قتل اطفال مدرسة بحر البقر، وهي أغنية انفعل بها ( مكاوي ) واستشعر حينها ( مكاوي ) بكلمات رفيق دربه صلاح جاهين وبأنه يجب عليه أن يرسل من خلالها رسالة للعالم .. أن يصرخ بفنه .. يغضب .. يحمل السلاح .. ولكن سلاح من نوع خاص .. سلاح إلهامه .. إيمانه بوطنه .. ويجب علينا أن نلاحظ هنا في هذا اللحن تحديداً اعتماد ( مكاوي ) على الجمل الأوبرالية المسرحية الأقرب للعالمية بغرض التعبير عن سيناريو الفساد والاحتلال والحرب وضياع الضمير الإنساني بقصف الأطفال في مدارسهم وعلى مقاعد الدرس ولم يتعد أكبر تلميذ فيهم العاشرة من عمره .. لقد كان اللحن وكأنه صور سينمائية متتابعة ومتلاحقة نجح فيه ( مكاوي ) بأن يفضح ضمير العالم كله وتحويل مأساته ومأساة شعبه من عمل يقتصر على مصر وحدها لعمل يخص العالم أجمع ويهز وجدانه لعله يستفيق .. ومن بعد هذا العمل العبقري استطاع جاهين ومكاوي أن يخرجا علينا بأعمال أخرى ستظل علامه في تاريخ الفن المصري والعربي ومن أهم تلك الأعمال الليلة الكبيرة ورباعيات جاهين، الحديث يطول عن عبقرية صلاح وجاهين وسيد مكاوي لكن شجن الذكرى يحصرنا في كلمات نحاول بها فقط التعبير عن عرفاننا بالجميل لهما عما قدماه للشعب العربي كله من فن، وأن نتذكرهما ونتذكر عجائب الأقدار التي جمعتهما معاً في الدنيا وجمعتهما معاً في يوم الوفاة الذي نعتبره رغم امتلائه بالحزن عليهما إلا أنه يمتلئ أيضاً بكل الفخر بهما، ولعلنا نذكر في هذا المقام ما قاله جاهين في إحدى رباعياته ولحنها سيد مكاوي وكأنها رباعية هي لسان حال كل منهما: 
مرغم عليك يا صبر مغصوب يا ليل
لا دخلتها برجليا ولا كان لى ميل
دخلت انا ف الحياه شايليننى شيل
وبكره حاخرج منها شايلينى شيل
وفي ذكراهما لا يسعنا سوى القول: رحم الله العملاقين


عندما يتفق ( صلاح جاهين وسيد مكاوي ) على الموت في يوم واحد !

mohi_ibraheem

 

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com

" لموا الكراريس" التي غنتها الفنانة العظيمة شادية بمناسبة قتل اطفال مدرسة بحر البقر، أغنية انفعل بها ( مكاوي ) واستشعر حينها ( مكاوي ) بكلمات رفيق دربه صلاح جاهين وبأنه يجب عليه أن يرسل من خلالها رسالة للعالم .. أن يصرخ بفنه .. يغضب .. يحمل السلاح .. ولكن سلاح من نوع خاص .. سلاح إلهامه .. إيمانه بوطنه .. 

صلاح جاهين ومن بعده سيد مكاوي، عملاقان، عاشا صديقين معاً، وأضاءا وجه مصر بإبداعاتهما معاً، وعبرا بفنهما عن الكرامة المصرية، والكبرياء المصري، بل ووجود مصر الحضاري والمعاصر، لكن من عجائب القدر أن كلاً منهما حين انتقل لجوار ربه إنتقل في 21 أبريل وكأنهما كانا على اتفاق فيما بينهما أن يموتا في نفس اليوم رغم السنين التي تفصل بين وفاة كل منهما عن الآخر.
صلاح جاهين، هذا الساخر المهموم، التي دعته حماسته بثورة 23 يوليو أن يكتئب من هزيمة يونيو ويعتزل الفرحة، لقد كان صلاح جاهين في وفاة أمل دنقل في قمة الاكتئاب، اكتئاب وصل إلى أعلى نقطة، كان كلما مشى في الشوارع التي اعتاد أن يمشي فيها إتهمه البعض ممن يعرفونه بأنه سبب ما تعيشه مصر من هزيمة فهو الذي هلل وكبر وغنى واتضح أن كل ما ردده الشعب المصري ورائه كان مجرد أوهام أدت لنكسة يونيو 1967، لم يستطع أن يقاوم، كان يستشعر أن كل أحلامه تخلت عنه، أحلام الثورة وأحلام الناصرية، وأحلام النصر، حتى اعترف عام 1986 بعد وفاة أمل دنقل بثلاث سنوات فقط لبعض أصدقائه أنه لا يدري هل كان يغني للناس أم يغني عليهم، ومات يوم 21 أبريل من نفس العام، كانت صاعقة لصديقه الذي ملأ مصر معه بالغناء للثورة وللنصر والهزيمة، سيد مكاوي، لقد كان النغم لكلمات جاهين، لم يفترقا، وحين مات جاهين، لم يذرف مكاوي دمعة واحدة، انتابته حالة من الذهول، ظل صامتاً حتى أخبرته إيناس أبنته بأن رفيق الرحلة سيخرج من مسجد عمر مكرم، ظل طوال الطريق صامتاً، غير مصدق أنه يمشي في جنازة صلاح جاهين، يمشي في جنازة من ملأ معه الدنيا صخباً وضجيجاً وضحكاً وسخرية والآن يواري جسده الثرى للأبد، لكنه لم يكن يعلم أنه سيلقاه في نفس اليوم 21 إبريل ولكن بعد 11 عام في 1997، فهل هذا هو عمق الارتباط بين الأصدقاء أم أنه القدر الذي لا يريد أن يحرمهما من ارتباط اسميهما حتى في يوم الوفاة، اصدقاء لا يمكن أن ننسى لهما روائع ما فعلاه لمصر سوياً بداية باحتفالات مصر بثورتها والغناء لها والاحتفاء بها ثم مروراً بأغاني أشبه بالمرثيات بعد نكسة 1967 وربما أهمها أغنية " لموا الكراريس" التي غنتها الفنانة العظيمة شادية بمناسبة قتل اطفال مدرسة بحر البقر، وهي أغنية انفعل بها ( مكاوي ) واستشعر حينها ( مكاوي ) بكلمات رفيق دربه صلاح جاهين وبأنه يجب عليه أن يرسل من خلالها رسالة للعالم .. أن يصرخ بفنه .. يغضب .. يحمل السلاح .. ولكن سلاح من نوع خاص .. سلاح إلهامه .. إيمانه بوطنه .. ويجب علينا أن نلاحظ هنا في هذا اللحن تحديداً اعتماد ( مكاوي ) على الجمل الأوبرالية المسرحية الأقرب للعالمية بغرض التعبير عن سيناريو الفساد والاحتلال والحرب وضياع الضمير الإنساني بقصف الأطفال في مدارسهم وعلى مقاعد الدرس ولم يتعد أكبر تلميذ فيهم العاشرة من عمره .. لقد كان اللحن وكأنه صور سينمائية متتابعة ومتلاحقة نجح فيه ( مكاوي ) بأن يفضح ضمير العالم كله وتحويل مأساته ومأساة شعبه من عمل يقتصر على مصر وحدها لعمل يخص العالم أجمع ويهز وجدانه لعله يستفيق .. ومن بعد هذا العمل العبقري استطاع جاهين ومكاوي أن يخرجا علينا بأعمال أخرى ستظل علامه في تاريخ الفن المصري والعربي ومن أهم تلك الأعمال الليلة الكبيرة ورباعيات جاهين، الحديث يطول عن عبقرية صلاح وجاهين وسيد مكاوي لكن شجن الذكرى يحصرنا في كلمات نحاول بها فقط التعبير عن عرفاننا بالجميل لهما عما قدماه للشعب العربي كله من فن، وأن نتذكرهما ونتذكر عجائب الأقدار التي جمعتهما معاً في الدنيا وجمعتهما معاً في يوم الوفاة الذي نعتبره رغم امتلائه بالحزن عليهما إلا أنه يمتلئ أيضاً بكل الفخر بهما، ولعلنا نذكر في هذا المقام ما قاله جاهين في إحدى رباعياته ولحنها سيد مكاوي وكأنها رباعية هي لسان حال كل منهما: 
مرغم عليك يا صبر مغصوب يا ليل
لا دخلتها برجليا ولا كان لى ميل
دخلت انا ف الحياه شايليننى شيل
وبكره حاخرج منها شايلينى شيل
وفي ذكراهما لا يسعنا سوى القول: رحم الله العملاقين


عندما يتفق ( صلاح جاهين وسيد مكاوي ) على الموت في يوم واحد !

mohi_ibraheem

 

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com

" لموا الكراريس" التي غنتها الفنانة العظيمة شادية بمناسبة قتل اطفال مدرسة بحر البقر، أغنية انفعل بها ( مكاوي ) واستشعر حينها ( مكاوي ) بكلمات رفيق دربه صلاح جاهين وبأنه يجب عليه أن يرسل من خلالها رسالة للعالم .. أن يصرخ بفنه .. يغضب .. يحمل السلاح .. ولكن سلاح من نوع خاص .. سلاح إلهامه .. إيمانه بوطنه .. 

صلاح جاهين ومن بعده سيد مكاوي، عملاقان، عاشا صديقين معاً، وأضاءا وجه مصر بإبداعاتهما معاً، وعبرا بفنهما عن الكرامة المصرية، والكبرياء المصري، بل ووجود مصر الحضاري والمعاصر، لكن من عجائب القدر أن كلاً منهما حين انتقل لجوار ربه إنتقل في 21 أبريل وكأنهما كانا على اتفاق فيما بينهما أن يموتا في نفس اليوم رغم السنين التي تفصل بين وفاة كل منهما عن الآخر.
صلاح جاهين، هذا الساخر المهموم، التي دعته حماسته بثورة 23 يوليو أن يكتئب من هزيمة يونيو ويعتزل الفرحة، لقد كان صلاح جاهين في وفاة أمل دنقل في قمة الاكتئاب، اكتئاب وصل إلى أعلى نقطة، كان كلما مشى في الشوارع التي اعتاد أن يمشي فيها إتهمه البعض ممن يعرفونه بأنه سبب ما تعيشه مصر من هزيمة فهو الذي هلل وكبر وغنى واتضح أن كل ما ردده الشعب المصري ورائه كان مجرد أوهام أدت لنكسة يونيو 1967، لم يستطع أن يقاوم، كان يستشعر أن كل أحلامه تخلت عنه، أحلام الثورة وأحلام الناصرية، وأحلام النصر، حتى اعترف عام 1986 بعد وفاة أمل دنقل بثلاث سنوات فقط لبعض أصدقائه أنه لا يدري هل كان يغني للناس أم يغني عليهم، ومات يوم 21 أبريل من نفس العام، كانت صاعقة لصديقه الذي ملأ مصر معه بالغناء للثورة وللنصر والهزيمة، سيد مكاوي، لقد كان النغم لكلمات جاهين، لم يفترقا، وحين مات جاهين، لم يذرف مكاوي دمعة واحدة، انتابته حالة من الذهول، ظل صامتاً حتى أخبرته إيناس أبنته بأن رفيق الرحلة سيخرج من مسجد عمر مكرم، ظل طوال الطريق صامتاً، غير مصدق أنه يمشي في جنازة صلاح جاهين، يمشي في جنازة من ملأ معه الدنيا صخباً وضجيجاً وضحكاً وسخرية والآن يواري جسده الثرى للأبد، لكنه لم يكن يعلم أنه سيلقاه في نفس اليوم 21 إبريل ولكن بعد 11 عام في 1997، فهل هذا هو عمق الارتباط بين الأصدقاء أم أنه القدر الذي لا يريد أن يحرمهما من ارتباط اسميهما حتى في يوم الوفاة، اصدقاء لا يمكن أن ننسى لهما روائع ما فعلاه لمصر سوياً بداية باحتفالات مصر بثورتها والغناء لها والاحتفاء بها ثم مروراً بأغاني أشبه بالمرثيات بعد نكسة 1967 وربما أهمها أغنية " لموا الكراريس" التي غنتها الفنانة العظيمة شادية بمناسبة قتل اطفال مدرسة بحر البقر، وهي أغنية انفعل بها ( مكاوي ) واستشعر حينها ( مكاوي ) بكلمات رفيق دربه صلاح جاهين وبأنه يجب عليه أن يرسل من خلالها رسالة للعالم .. أن يصرخ بفنه .. يغضب .. يحمل السلاح .. ولكن سلاح من نوع خاص .. سلاح إلهامه .. إيمانه بوطنه .. ويجب علينا أن نلاحظ هنا في هذا اللحن تحديداً اعتماد ( مكاوي ) على الجمل الأوبرالية المسرحية الأقرب للعالمية بغرض التعبير عن سيناريو الفساد والاحتلال والحرب وضياع الضمير الإنساني بقصف الأطفال في مدارسهم وعلى مقاعد الدرس ولم يتعد أكبر تلميذ فيهم العاشرة من عمره .. لقد كان اللحن وكأنه صور سينمائية متتابعة ومتلاحقة نجح فيه ( مكاوي ) بأن يفضح ضمير العالم كله وتحويل مأساته ومأساة شعبه من عمل يقتصر على مصر وحدها لعمل يخص العالم أجمع ويهز وجدانه لعله يستفيق .. ومن بعد هذا العمل العبقري استطاع جاهين ومكاوي أن يخرجا علينا بأعمال أخرى ستظل علامه في تاريخ الفن المصري والعربي ومن أهم تلك الأعمال الليلة الكبيرة ورباعيات جاهين، الحديث يطول عن عبقرية صلاح وجاهين وسيد مكاوي لكن شجن الذكرى يحصرنا في كلمات نحاول بها فقط التعبير عن عرفاننا بالجميل لهما عما قدماه للشعب العربي كله من فن، وأن نتذكرهما ونتذكر عجائب الأقدار التي جمعتهما معاً في الدنيا وجمعتهما معاً في يوم الوفاة الذي نعتبره رغم امتلائه بالحزن عليهما إلا أنه يمتلئ أيضاً بكل الفخر بهما، ولعلنا نذكر في هذا المقام ما قاله جاهين في إحدى رباعياته ولحنها سيد مكاوي وكأنها رباعية هي لسان حال كل منهما: 
مرغم عليك يا صبر مغصوب يا ليل
لا دخلتها برجليا ولا كان لى ميل
دخلت انا ف الحياه شايليننى شيل
وبكره حاخرج منها شايلينى شيل
وفي ذكراهما لا يسعنا سوى القول: رحم الله العملاقين


الأربعاء، 6 أبريل 2016

في رحاب القصة .. مجموعة من القصص القصيرة

بقلم محيي الدين إبراهيم
• أعطته خصله من شعرها حفظتها بعناية بين ورقتي وردة ليحتفظ بها في غربته ويتذكرها وحدها للأبد .. أخذ الخصلة في رقة .. وضع قبلة دافئة على راحة يدها ومسح دمعة نقية هربت في لحظة الوداع .. وضع خصلتها في حقيبة سفره بجوار عشرات الخصلات الأخرى .. رحل بنعومة لا يتذكر من صاحبات الخصلات أي واحدة منهن !!

• استعان العمده بمن ثار عليهم الناس ليعينوه على حُكمه .. فأغتالوه ليستعيدوا ملكهم الذي انتزعته الناس .. بينما لم يحرك الثوار في لحظة اغتيال العمدة الجديد ساكناً بعد أن استنزفوا ( فترة حكمه ) كل النور في محاولة البقاء على قيد الحياة .. انتفض عبيط القرية صارخاً : ربما يثوروا على نفس من ظلموهم مرة أخرى .. ربما يتعلموا حقيقة أن لا يخدعهم أحد .. أخذ يكرر هذه العبارة وهو يتراقص محدثاً فوضى .. حتى غاب عن الأنظار !!

• لم يكن يعلم أن هذا ( التابلت ) المفتوح على صفحتها الشخصية هو هدية أبنائها في عيد ميلادها الذي نساه للمرة العاشرة دون اعتذار بينما هي في كل مرة تسامحه .. تلصص في حذر ليقرأ خواطرها .. كأنه يرى امرأة أخرى .. أنثى أخرى .. تعليقات الرجال جعلته يدرك أنه مغفل كبير .. أطرق برأسه صامتاً .. شرد .. استفاق على كفيها تربت فوق كتفيه .. بكى كطفل فوق صدرها حتى أصبحا كأول لقاء جمعهما معاً منذ سبعة عشرة عاماً.

• لم ينتظر الأسانسير حتى ينزل للطابق الأرضي فيصعد به الطابق التاسع .. ركض على ( السلم ) كشاب في العشرين .. وصل .. أخذ يطرق الباب طرقات قوية .. سريعة .. متلاحقة .. فوضى عارمة يحدثها لأول مرة وهو رجل في الخمسين .. فتحت الباب ..احتضنها بعنف كأنه أول مرة يحتضن إمرأة .. أخذ يلوح لها في الهواء بكتاب يحمله في يده اليمنى .. حملها وأخذ يدور بها حتى كادت تنفجر السعاده من قلبه وتنتشر في كل الأرجاء .. كانت النسخة الأولى من الطبعة الأولى لروايتها الأولى التي كانت تحلم بنشرها منذ أن كانت في الجامعة .. هدأ .. نظر في عينيها بدفء الأيام الخوالي .. كان يشعر بفخر عميق لكونه شاركها تحقيق حلمها .. مد لها يده بروايتها الأولى .. نظرت له ولها .. وضعتها برفق فوق منضدة قريبة .. ألقت برأسها فوق صدره .. حاوطت خصره بذراعيها .. في صوت شديدة العشق همست : أنت روايتي الأولى وستظل روايتي الأبدية بينما أنطفأت الأنوار وأضاءت بدلاً منها مصابيح العشق معلنة عن بداية رواية جديدة.

• كانت تعلم أنه سيأتي يوم ويعود .. سينبهر حتماً في هذا السن بهذه الفتاة الصغيرة .. سيندهش .. سيتصابى .. سيزهد فيمن شاركته تاريخه .. لكنه سيعود .. كذبت على أبنائها لأول مرة في حياتها .. أباكم في إعارة .. ورغم شك الأولاد حيث لم يتغير نمط الحياة للأفضل .. لم يكذبوها .. أخفت عن أهلها فراره من المنزل تحت تأثير نزوة .. مواعيد عملها تنتهي في الثالثة لتبدأ بإعداد الولائم في منزلها بالأجر حتى العاشرة مساءً لجاراتها ممن لا يجيدون الطهي لتدخر مايمدها للعيش بكرامة .. تسع سنوات كاملة لم تر وجهه .. تسع سنوات كاملة لم ير وجه أبناءه .. لم تفقد الأمل .. وحين استعدت للخروج في الثامنة صباحاً للعمل بعد خروج الأبناء للمدارس وجدته أمامها .. واجماً .. صامتاً .. منكسراً .. أرتبكت لحظة .. لكنها ودون أن تدري .. مدت يدها نحو رأسه ورفعتها فهي ضد الإنكسار .. حين دخل المنزل لأول مرة منذ تسع سنوات .. بكى كطفل بين ذراعيها بينما كانت تمسح بكف حنون رأسه وعلى شفتيها إبتسامة رضا.

• نظرت لنفسها في المرآة .. دققت النظر في كل تفاصيلها كأنثى .. فاتنة .. رائعة .. شهية .. لماذا إذن أقبلت على عامها الثاني والثلاثين ولم يطرق الحب والزواج بابها حتى الآن .. ماذا يريد الرجال أكثر من الإرتباط بأنثى مثلي .. تردد صوت أمها في عقلها بأن وضع البلد جعل الكل يخشى الزواج الذي اصبح باهظ التكاليف .. هزت رأسها بالنفي أمام المرآة .. وماذا كان يفعل البشر قبل أختراع ( الفلوس ) ؟ .. هل أصبح عقاباً للفتاة أن تنتظر رجل ليرتبط بها وربما يأتي وربما لايأتي !! .. لماذا لا ينتظر الرجل الفتاة لترتبط به ؟ .. أنا أريد الحياة .. لن تمنعني هذه العادات السخيفة من أن أحرم نفسي من حقي في الحياة .. سأختار أنا الرجل الذي اريده وأتزوج به قبل أن أفقد القدرة على أن أكون أماً وزوجة في يوم من الأيام .. لكن كيف؟ .. لو خاطبت الفتاة أي رجل عن رغبتها في الزواج منه لوصفها بكل قبح العالم .. ليكن .. لن أستسلم لمن يريدون سلبي حقوقي .. سأتزوج .. ولكن ممن ؟ .. سؤال سخيف بالطبع !! .. سأتزوج ممن أريد أن أتزوج به .. سأتزوج بمن أجد فيه معظم الصفات التي أتمناها .. سأتزوجه على الفور .. على الفور .. لن أنتظر هنا كبضاعة فاسدة حتى يأتي من يختارني لأسباب أجهلها وربما تكون أسباب شاذة .. وضعت خطة تحافظ بها على كرامتها كأنثى وعلى رغبتها في تكوين أسرة لايمكن أن تكون حكراً فقط على اختيار الرجل .. الآن هي حكر أيضاً على المرأة .. كان زميلاً لها في المرحلة الثانوية .. تعرفه جيداً .. عاد لتوه من من انجلترا بعد ثمانية أعوام درس فيها الطب .. كان مرتبكاً قليلاً وهو يتجول بين المدعويين حين رمقته هي بعينيها .. بكي الطفل النائم بجوارها .. مدت يدها فوق صدره ليطمئن ويهدأ ويعود لنومه .. نظرت للطفل .. نظرت للرجل الذي يغرق في النوم بجوارهما .. سبحان الله .. الحفيد يشبه جده تماماً .. ربما هذا الشبه هو ماجعله يصر على أن ينام بينهما كما كانا يفعلان بأمه وهي في مثل سنه .. ستعود غداً لتصحبه إلى المنزل بعد عودتها من رحلة العمل في المحافظة الساحلية .. نظرت مرة أخرى لزوجها الغارق في النوم بجوار حفيده وهي تبتسم متمتمة: ماأروع هذا الرجل الذي اخترته بنفسي وتزوجته برغبتي وأحبه الآن أكثر من محبتي لذاتي .. أغلقت ألبوم الصور .. وضعته فوق ( الكومودينو ) أغلقت نور ( الأباجورة ) .. سمعت شخيراً مفاجئاً من زوجها فانزعجت لتضئ الأباجورة مرة أخرى وتطمئن على الحفيد .. وجدته في حضن جده يمص في اصبعه .. قالت بصوت مرتفع قليلاً قبل أن تطفئ النور مرة أخرى وتنام: كم احب هذان الرجلان.

• غداً يحتفل به زملاء العمل لخروجه على المعاش .. لماذا هذه الطاقة السلبية التي يستشعرها في روحه؟ .. نظر في ألمرآة وهو يحلق ذقنه .. ثلاثون عاماً مضت كأنها سن رمح يمرق في الفراغ .. ثلاثون عاماً يذهب إلى مكتبه في الصباح كل يوم ليعمل .. ولكن ماذا كنت أعمل؟ .. لاشئ !! .. ثلاثون عاماً قضيتها في الثرثرة وقراءة الصحف واحتساء قهوة بحليب لاتقاضى مرتبي على ذلك كل أول شهر .. لم أفعل شيئاً .. ياإلهي !! .. أنا بالفعل لم أفعل شيئاً !! .. هرب العمر مني وأنا أثرثر وأتصفح أخبار الحوادث واتقاضى راتب !! .. هل يمكن أن يحيا الإنسان عمره داخل كذبة بإرادته الحرة ؟ .. وهل للكذبة إرادة حرة ؟ .. نظر لنفسه في المرآه بأسى وهو يسألها: هل أنت فخور الآن بثلاثين عاماً ضاعت منك بارادتك الحرة؟ .. تمنى لو عاد الزمن للوراء .. شعر بانهيار .. تمدد على السرير .. غاب في نوم مؤلم .. انتفض في الصباح على صوت زوجته تنبهه أن ابنهما عادل سيذهب يومه الأول في ( الحضانة ) وعليهما ألا يتأخرا على مواعيد العمل .. عادل ؟ .. حضانة ؟ .. عادل مهندس في دبي منذ تسع سنوات !! .. من هذه المرأة الشابة التي تنام بجواري ؟ .. قفز من السرير خائفاً ومرعوباً .. صادفته مرآة غرفة النوم وهو يقفز فصرخ صرخة كادت تفطر قلبه .. من هذا؟ .. تسمر أمام المرآة .. تفحص وجهه جيداً .. لقد عاد الزمن ثلاثين عاماً للخلف .. أووه ياإلهي .. لقد عدت شاباً .. شاباً .. شاباً .. وصل لمكتبه في تمام الثامنة صباحاً بعد أن اطمئن على ارسال عادل ابنه للحضانة .. فتح موضوع العلاوة السنوية مع زملاء العمل وأخذ يثرثر ويصيح بينما في يدة جريدة الصباح على صفحة اخبار الحوادث وبين الحين والحين ( يزعق ) وهو يسب الفراش لتأخرة في احضار القهوة بحليب قبل ان يحين موعد انصرافه من العمل!!

• أعطته خصله من شعرها حفظتها بعناية بين ورقتي وردة ليحتفظ بها في غربته ويتذكرها وحدها للأبد .. أخذ الخصلة في رقة .. وضع قبلة دافئة على راحة يدها ومسح دمعة نقية هربت في لحظة الوداع .. وضع خصلتها في حقيبة سفره بجوار عشرات الخصلات الأخرى .. رحل بنعومة لا يتذكر من صاحبات الخصلات أي واحدة منهن !!

• حكى لها حكاية قبل النوم ككل ليلة .. حادثة قديمة أفقدتها كل شئ .. كان يؤمن أنها رغم سكونها الأبدي إلا من زفراتها الضعيفة الصاعدة الهابطة .. تستشعره بكل شئ .. عشرون عاماً ظل بجوارها يحكي لها حكاية وحكاية .. عشرون عاماً ينظر إليها نفس نظرة عشقه الدائم القديم .. عشرون عاماً يمارس معها نفس الحنين إلى كلمة تحمل ( شقاوة ) أنوثتها التي لا يعرفها أحد سواه .. كانت صورتهما معاً كعاشقان من زمن لم ياتي بعد هي آخر صورة في ألبوم الصور القديم الذي تم العثور عليه بالصدفة في صندوق ( اللعب ) الخشبي لحظة أن قرر الورثة بيع المنزل والهجرة إلى كندا !!

• تأمل ذاته في لحظة استرجاع الذكريات فلم يجد سوى الحزن وتذكرة قطار قديمة لمدينة الفرح فقدها وهو مهموم بتحقيق حلم مستحيل !!
• قاومت الحياة في إنتظار أن يعود إليها بكل الحياة .. ( عاد ) .. فعرفت أنه استلب حياتها بلا مقابل منذ اللحظة الأولى التي قررت فيها أن تنتظره !!
• رأى في منامه أنها ( تخونه ) فظل يراقبها .. حتى إكتشفت خيانته !!

في رحاب القصة .. مجموعة من القصص القصيرة

بقلم محيي الدين إبراهيم
• أعطته خصله من شعرها حفظتها بعناية بين ورقتي وردة ليحتفظ بها في غربته ويتذكرها وحدها للأبد .. أخذ الخصلة في رقة .. وضع قبلة دافئة على راحة يدها ومسح دمعة نقية هربت في لحظة الوداع .. وضع خصلتها في حقيبة سفره بجوار عشرات الخصلات الأخرى .. رحل بنعومة لا يتذكر من صاحبات الخصلات أي واحدة منهن !!

• استعان العمده بمن ثار عليهم الناس ليعينوه على حُكمه .. فأغتالوه ليستعيدوا ملكهم الذي انتزعته الناس .. بينما لم يحرك الثوار في لحظة اغتيال العمدة الجديد ساكناً بعد أن استنزفوا ( فترة حكمه ) كل النور في محاولة البقاء على قيد الحياة .. انتفض عبيط القرية صارخاً : ربما يثوروا على نفس من ظلموهم مرة أخرى .. ربما يتعلموا حقيقة أن لا يخدعهم أحد .. أخذ يكرر هذه العبارة وهو يتراقص محدثاً فوضى .. حتى غاب عن الأنظار !!

• لم يكن يعلم أن هذا ( التابلت ) المفتوح على صفحتها الشخصية هو هدية أبنائها في عيد ميلادها الذي نساه للمرة العاشرة دون اعتذار بينما هي في كل مرة تسامحه .. تلصص في حذر ليقرأ خواطرها .. كأنه يرى امرأة أخرى .. أنثى أخرى .. تعليقات الرجال جعلته يدرك أنه مغفل كبير .. أطرق برأسه صامتاً .. شرد .. استفاق على كفيها تربت فوق كتفيه .. بكى كطفل فوق صدرها حتى أصبحا كأول لقاء جمعهما معاً منذ سبعة عشرة عاماً.

• لم ينتظر الأسانسير حتى ينزل للطابق الأرضي فيصعد به الطابق التاسع .. ركض على ( السلم ) كشاب في العشرين .. وصل .. أخذ يطرق الباب طرقات قوية .. سريعة .. متلاحقة .. فوضى عارمة يحدثها لأول مرة وهو رجل في الخمسين .. فتحت الباب ..احتضنها بعنف كأنه أول مرة يحتضن إمرأة .. أخذ يلوح لها في الهواء بكتاب يحمله في يده اليمنى .. حملها وأخذ يدور بها حتى كادت تنفجر السعاده من قلبه وتنتشر في كل الأرجاء .. كانت النسخة الأولى من الطبعة الأولى لروايتها الأولى التي كانت تحلم بنشرها منذ أن كانت في الجامعة .. هدأ .. نظر في عينيها بدفء الأيام الخوالي .. كان يشعر بفخر عميق لكونه شاركها تحقيق حلمها .. مد لها يده بروايتها الأولى .. نظرت له ولها .. وضعتها برفق فوق منضدة قريبة .. ألقت برأسها فوق صدره .. حاوطت خصره بذراعيها .. في صوت شديدة العشق همست : أنت روايتي الأولى وستظل روايتي الأبدية بينما أنطفأت الأنوار وأضاءت بدلاً منها مصابيح العشق معلنة عن بداية رواية جديدة.

• كانت تعلم أنه سيأتي يوم ويعود .. سينبهر حتماً في هذا السن بهذه الفتاة الصغيرة .. سيندهش .. سيتصابى .. سيزهد فيمن شاركته تاريخه .. لكنه سيعود .. كذبت على أبنائها لأول مرة في حياتها .. أباكم في إعارة .. ورغم شك الأولاد حيث لم يتغير نمط الحياة للأفضل .. لم يكذبوها .. أخفت عن أهلها فراره من المنزل تحت تأثير نزوة .. مواعيد عملها تنتهي في الثالثة لتبدأ بإعداد الولائم في منزلها بالأجر حتى العاشرة مساءً لجاراتها ممن لا يجيدون الطهي لتدخر مايمدها للعيش بكرامة .. تسع سنوات كاملة لم تر وجهه .. تسع سنوات كاملة لم ير وجه أبناءه .. لم تفقد الأمل .. وحين استعدت للخروج في الثامنة صباحاً للعمل بعد خروج الأبناء للمدارس وجدته أمامها .. واجماً .. صامتاً .. منكسراً .. أرتبكت لحظة .. لكنها ودون أن تدري .. مدت يدها نحو رأسه ورفعتها فهي ضد الإنكسار .. حين دخل المنزل لأول مرة منذ تسع سنوات .. بكى كطفل بين ذراعيها بينما كانت تمسح بكف حنون رأسه وعلى شفتيها إبتسامة رضا.

• نظرت لنفسها في المرآة .. دققت النظر في كل تفاصيلها كأنثى .. فاتنة .. رائعة .. شهية .. لماذا إذن أقبلت على عامها الثاني والثلاثين ولم يطرق الحب والزواج بابها حتى الآن .. ماذا يريد الرجال أكثر من الإرتباط بأنثى مثلي .. تردد صوت أمها في عقلها بأن وضع البلد جعل الكل يخشى الزواج الذي اصبح باهظ التكاليف .. هزت رأسها بالنفي أمام المرآة .. وماذا كان يفعل البشر قبل أختراع ( الفلوس ) ؟ .. هل أصبح عقاباً للفتاة أن تنتظر رجل ليرتبط بها وربما يأتي وربما لايأتي !! .. لماذا لا ينتظر الرجل الفتاة لترتبط به ؟ .. أنا أريد الحياة .. لن تمنعني هذه العادات السخيفة من أن أحرم نفسي من حقي في الحياة .. سأختار أنا الرجل الذي اريده وأتزوج به قبل أن أفقد القدرة على أن أكون أماً وزوجة في يوم من الأيام .. لكن كيف؟ .. لو خاطبت الفتاة أي رجل عن رغبتها في الزواج منه لوصفها بكل قبح العالم .. ليكن .. لن أستسلم لمن يريدون سلبي حقوقي .. سأتزوج .. ولكن ممن ؟ .. سؤال سخيف بالطبع !! .. سأتزوج ممن أريد أن أتزوج به .. سأتزوج بمن أجد فيه معظم الصفات التي أتمناها .. سأتزوجه على الفور .. على الفور .. لن أنتظر هنا كبضاعة فاسدة حتى يأتي من يختارني لأسباب أجهلها وربما تكون أسباب شاذة .. وضعت خطة تحافظ بها على كرامتها كأنثى وعلى رغبتها في تكوين أسرة لايمكن أن تكون حكراً فقط على اختيار الرجل .. الآن هي حكر أيضاً على المرأة .. كان زميلاً لها في المرحلة الثانوية .. تعرفه جيداً .. عاد لتوه من من انجلترا بعد ثمانية أعوام درس فيها الطب .. كان مرتبكاً قليلاً وهو يتجول بين المدعويين حين رمقته هي بعينيها .. بكي الطفل النائم بجوارها .. مدت يدها فوق صدره ليطمئن ويهدأ ويعود لنومه .. نظرت للطفل .. نظرت للرجل الذي يغرق في النوم بجوارهما .. سبحان الله .. الحفيد يشبه جده تماماً .. ربما هذا الشبه هو ماجعله يصر على أن ينام بينهما كما كانا يفعلان بأمه وهي في مثل سنه .. ستعود غداً لتصحبه إلى المنزل بعد عودتها من رحلة العمل في المحافظة الساحلية .. نظرت مرة أخرى لزوجها الغارق في النوم بجوار حفيده وهي تبتسم متمتمة: ماأروع هذا الرجل الذي اخترته بنفسي وتزوجته برغبتي وأحبه الآن أكثر من محبتي لذاتي .. أغلقت ألبوم الصور .. وضعته فوق ( الكومودينو ) أغلقت نور ( الأباجورة ) .. سمعت شخيراً مفاجئاً من زوجها فانزعجت لتضئ الأباجورة مرة أخرى وتطمئن على الحفيد .. وجدته في حضن جده يمص في اصبعه .. قالت بصوت مرتفع قليلاً قبل أن تطفئ النور مرة أخرى وتنام: كم احب هذان الرجلان.

• غداً يحتفل به زملاء العمل لخروجه على المعاش .. لماذا هذه الطاقة السلبية التي يستشعرها في روحه؟ .. نظر في ألمرآة وهو يحلق ذقنه .. ثلاثون عاماً مضت كأنها سن رمح يمرق في الفراغ .. ثلاثون عاماً يذهب إلى مكتبه في الصباح كل يوم ليعمل .. ولكن ماذا كنت أعمل؟ .. لاشئ !! .. ثلاثون عاماً قضيتها في الثرثرة وقراءة الصحف واحتساء قهوة بحليب لاتقاضى مرتبي على ذلك كل أول شهر .. لم أفعل شيئاً .. ياإلهي !! .. أنا بالفعل لم أفعل شيئاً !! .. هرب العمر مني وأنا أثرثر وأتصفح أخبار الحوادث واتقاضى راتب !! .. هل يمكن أن يحيا الإنسان عمره داخل كذبة بإرادته الحرة ؟ .. وهل للكذبة إرادة حرة ؟ .. نظر لنفسه في المرآه بأسى وهو يسألها: هل أنت فخور الآن بثلاثين عاماً ضاعت منك بارادتك الحرة؟ .. تمنى لو عاد الزمن للوراء .. شعر بانهيار .. تمدد على السرير .. غاب في نوم مؤلم .. انتفض في الصباح على صوت زوجته تنبهه أن ابنهما عادل سيذهب يومه الأول في ( الحضانة ) وعليهما ألا يتأخرا على مواعيد العمل .. عادل ؟ .. حضانة ؟ .. عادل مهندس في دبي منذ تسع سنوات !! .. من هذه المرأة الشابة التي تنام بجواري ؟ .. قفز من السرير خائفاً ومرعوباً .. صادفته مرآة غرفة النوم وهو يقفز فصرخ صرخة كادت تفطر قلبه .. من هذا؟ .. تسمر أمام المرآة .. تفحص وجهه جيداً .. لقد عاد الزمن ثلاثين عاماً للخلف .. أووه ياإلهي .. لقد عدت شاباً .. شاباً .. شاباً .. وصل لمكتبه في تمام الثامنة صباحاً بعد أن اطمئن على ارسال عادل ابنه للحضانة .. فتح موضوع العلاوة السنوية مع زملاء العمل وأخذ يثرثر ويصيح بينما في يدة جريدة الصباح على صفحة اخبار الحوادث وبين الحين والحين ( يزعق ) وهو يسب الفراش لتأخرة في احضار القهوة بحليب قبل ان يحين موعد انصرافه من العمل!!

• أعطته خصله من شعرها حفظتها بعناية بين ورقتي وردة ليحتفظ بها في غربته ويتذكرها وحدها للأبد .. أخذ الخصلة في رقة .. وضع قبلة دافئة على راحة يدها ومسح دمعة نقية هربت في لحظة الوداع .. وضع خصلتها في حقيبة سفره بجوار عشرات الخصلات الأخرى .. رحل بنعومة لا يتذكر من صاحبات الخصلات أي واحدة منهن !!

• حكى لها حكاية قبل النوم ككل ليلة .. حادثة قديمة أفقدتها كل شئ .. كان يؤمن أنها رغم سكونها الأبدي إلا من زفراتها الضعيفة الصاعدة الهابطة .. تستشعره بكل شئ .. عشرون عاماً ظل بجوارها يحكي لها حكاية وحكاية .. عشرون عاماً ينظر إليها نفس نظرة عشقه الدائم القديم .. عشرون عاماً يمارس معها نفس الحنين إلى كلمة تحمل ( شقاوة ) أنوثتها التي لا يعرفها أحد سواه .. كانت صورتهما معاً كعاشقان من زمن لم ياتي بعد هي آخر صورة في ألبوم الصور القديم الذي تم العثور عليه بالصدفة في صندوق ( اللعب ) الخشبي لحظة أن قرر الورثة بيع المنزل والهجرة إلى كندا !!

• تأمل ذاته في لحظة استرجاع الذكريات فلم يجد سوى الحزن وتذكرة قطار قديمة لمدينة الفرح فقدها وهو مهموم بتحقيق حلم مستحيل !!
• قاومت الحياة في إنتظار أن يعود إليها بكل الحياة .. ( عاد ) .. فعرفت أنه استلب حياتها بلا مقابل منذ اللحظة الأولى التي قررت فيها أن تنتظره !!
• رأى في منامه أنها ( تخونه ) فظل يراقبها .. حتى إكتشفت خيانته !!

الاثنين، 21 مارس 2016

حسن التهامي داهية السياسة المصرية .. عاش ومات لغزاً

mohi_ibraheem

 

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
التهامي كان أهم شخصية وقفت بجوار ( السادات ) في ثورة التصحيح عام 1971 وهو أيضاً أحد أهم أعضاء المحكمة التي صدر لها قرار جمهوري بتشكيلها في الحادي والعشرين من يوليو تموز 1971 حيث أنتقم فيها حسن التهامي من كل خصوم السادات !

هو الرجل الذي قيدّ كلاً من جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر بالحبال ليمنعهما من تعيين خالد محيي الدين رئيساً للحكومة، وهو نفس الرجل الذي استدعاه جمال عبد الناصر قبل وفاته بأيامٍ قلائل ليقول له: "خليك جنبي، لأنهم عايزين يموتوني"، حسن التهامي الذي وصل إلى منصب نائب رئيس الوزراء وأصبح المستشار السياسي للرئيس جمال عبد الناصر والمبعوث الشخصي للرئيس أنور السادات إلى أن أحاله الرئيس حسني مبارك إلى المعاش ليبتعد عن الحياة العامة إلى الأبد لأسباب مجهولة، حسن التهامي ذلك الداهية السياسي الذي يقسم لنا في مذكراته أنه هو من وضع السادات على قمة السلطة في مصر وبمسدسه الشخصي.

تطوع قبل الثورة لقيادة مجموعة من الفدائيين هم : محسن لطفي السيد‏‏، إسماعيل مرزوق، ضياء الدين حسانين، فايز سلام، عادل سلام‏، بهي الدين الصادق، كمال خضر، علي لملوم، علي مشرفة، جمال الناظر، حسين الناظر، سمير مكرم، محمد ذو الفقار، وجيه ذو الفقار، شريف ذو الفقار‏، لمهاجمة المعسكرات البريطانية.
كان يخشاه جمال عبد الناصر لأسباب نجهلها ودفنت معهما للأبد وهنا يقول عبد الفتاح أبو الفضل أحد الضباط الأحرار و نائب صلاح نصر رئيس جهاز المخابرات العامة ، في كتابه (ص173) إنه بعد الثورة مباشرة كان التهامي من الذين جرى تعيينهم في المخابرات ولم يكن له مكتب خاص بمبنى المخابرات ولا نعلم له عملاً محددٍاً إلا مساهمته في إحضار بعض خبراء المخابرات الأمريكان كل فترة بحجة عقد حلقات دراسية لأربعة من ضباط المخابرات المصريين للاستفادة بخبراتهم فقط" !، وكان من البديهي أن لا يعلم أحد عن التهامي شيئاً فقد كان داهية حيث يقول هو عن نفسه في مذكراته: كنت مهندس العلاقات الأمريكية المصرية منذ بداية ثورة 1952 ولن أنسى ما حييت عندما وطئت قدمي أرض إسرائيل أول مرة وسمعت جولدا مائير تنادي على السادات بمودة " هاللو أنور "كما لو كان من عائلتها ! .. أمر حيرني وبالبحث عرفت أن السادات كان على علاقات سابقة باسرائيل وأنه قابل جولدا مائير بأوامر من القصر في عهد فاروق بعد حرب 1948 وبدعم أميريكي وهو ماجعل أميركا بعد ثورة 23 يوليو تقوم بعمل استحكامات للحفاظ على حياة جمال عبد الناصر شخصياً كرئيساً للحكومة في عهد محمد نجيب، وأن تقوم الإدارة الأمريكية ذاتها بعمل برنامج محكم التخطيط للحفاظ على حياته والدعايه له شخصياً، بل أنها منحته بشكل شخصي مبلغ ثلاثة ملايين دولار في بداية عمله لمعاونته في الحكم كمصاريف ( غير منظورة ) ولدعم تكاليف وإدارة السيارات المصفحة الخاصة به وكذلك الأسلحة للدفاع عنه، ويسترسل التهامي في مذكراته ( حسن التهامى يفتح ملفاته ص13 ) وبمنتهى الجرأة ويقول أن استمرار الدعم الأمريكي المباشر والمستمر لجمال عبد الناصر استفزني ودفعني ذات مرة لأن أختلف بعنف مع مندوبي البيت الأبيض الذين كانوا يحضرون لمصر من وقت لآخر للتحاور مع عبد الناصر حول تطوير العلاقات والمصالح المشتركة ولكنهم فاجأوني بأن أعطوني خطاباً من الإدارة الأمريكية يقول مضمونه أن الإدارة الأمريكية قد استقرت على رأي واحد وهو اختيار جمال عبد الناصر رئيساً لمصر وليس ذلك فحسب بل واختارته أيضاً ليوجه سياسة الشرق الأوسط كله لصالح الأهداف الأمريكية !
التهامي أيضاً كان أهم شخصية وقفت بجوار ( السادات ) في ثورة التصحيح عام 1971 وتقول بعض التكهنات أنه كان مهندس تلك الثورة وأنه هو من أوحى للسادات بإتخاذها ثم كان هو أيضاً أحد أهم أعضاء المحكمة التي صدر لها قرار جمهوري بتشكيلها في الحادي والعشرين من يوليو تموز 1971 حيث أنتقم فيها حسن التهامي من كل خصوم السادات وهم: نائب رئيس الجمهورية علي صبري، وزير الدفاع محمد فوزي، وزير الداخلية شعراوي جمعة، وزير الإعلام محمد فائق، سكرتير رئيس الجمهورية سامي شرف، ليبدأ عهد جديد يتفرد فيه مع السادات بالحكم حيث صدر له قرار جمهوري في أكتوبر 1977 بمنحه رتبة "الفريق" الشرفية وقيل وقتها أنه تقديراً لدوره في الدفاع عن مدينة السويس في حرب أكتوبر بينما كان يتم تجهيزه لعملية السلام ( كامب ديفيد ) التي أوحى بها للسادات ونفذاها معاً ببراعة تحت رعاية ملك المغرب آنذاك وقيل عنهما فيها أنهما ضحكا بها على إسرائيل وقادتها في ذلك الوقت وعلى رأسهم مناحم بيجن وجولدا مائير وموشى ديان، إنه حسن التهامي، ذلك الرجل الذي لم يكن هينا ولم يكن أبداً عابر سبيل في طريق السياسة.

حسن التهامي داهية السياسة المصرية .. عاش ومات لغزاً

mohi_ibraheem

 

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
التهامي كان أهم شخصية وقفت بجوار ( السادات ) في ثورة التصحيح عام 1971 وهو أيضاً أحد أهم أعضاء المحكمة التي صدر لها قرار جمهوري بتشكيلها في الحادي والعشرين من يوليو تموز 1971 حيث أنتقم فيها حسن التهامي من كل خصوم السادات !

هو الرجل الذي قيدّ كلاً من جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر بالحبال ليمنعهما من تعيين خالد محيي الدين رئيساً للحكومة، وهو نفس الرجل الذي استدعاه جمال عبد الناصر قبل وفاته بأيامٍ قلائل ليقول له: "خليك جنبي، لأنهم عايزين يموتوني"، حسن التهامي الذي وصل إلى منصب نائب رئيس الوزراء وأصبح المستشار السياسي للرئيس جمال عبد الناصر والمبعوث الشخصي للرئيس أنور السادات إلى أن أحاله الرئيس حسني مبارك إلى المعاش ليبتعد عن الحياة العامة إلى الأبد لأسباب مجهولة، حسن التهامي ذلك الداهية السياسي الذي يقسم لنا في مذكراته أنه هو من وضع السادات على قمة السلطة في مصر وبمسدسه الشخصي.

تطوع قبل الثورة لقيادة مجموعة من الفدائيين هم : محسن لطفي السيد‏‏، إسماعيل مرزوق، ضياء الدين حسانين، فايز سلام، عادل سلام‏، بهي الدين الصادق، كمال خضر، علي لملوم، علي مشرفة، جمال الناظر، حسين الناظر، سمير مكرم، محمد ذو الفقار، وجيه ذو الفقار، شريف ذو الفقار‏، لمهاجمة المعسكرات البريطانية.
كان يخشاه جمال عبد الناصر لأسباب نجهلها ودفنت معهما للأبد وهنا يقول عبد الفتاح أبو الفضل أحد الضباط الأحرار و نائب صلاح نصر رئيس جهاز المخابرات العامة ، في كتابه (ص173) إنه بعد الثورة مباشرة كان التهامي من الذين جرى تعيينهم في المخابرات ولم يكن له مكتب خاص بمبنى المخابرات ولا نعلم له عملاً محددٍاً إلا مساهمته في إحضار بعض خبراء المخابرات الأمريكان كل فترة بحجة عقد حلقات دراسية لأربعة من ضباط المخابرات المصريين للاستفادة بخبراتهم فقط" !، وكان من البديهي أن لا يعلم أحد عن التهامي شيئاً فقد كان داهية حيث يقول هو عن نفسه في مذكراته: كنت مهندس العلاقات الأمريكية المصرية منذ بداية ثورة 1952 ولن أنسى ما حييت عندما وطئت قدمي أرض إسرائيل أول مرة وسمعت جولدا مائير تنادي على السادات بمودة " هاللو أنور "كما لو كان من عائلتها ! .. أمر حيرني وبالبحث عرفت أن السادات كان على علاقات سابقة باسرائيل وأنه قابل جولدا مائير بأوامر من القصر في عهد فاروق بعد حرب 1948 وبدعم أميريكي وهو ماجعل أميركا بعد ثورة 23 يوليو تقوم بعمل استحكامات للحفاظ على حياة جمال عبد الناصر شخصياً كرئيساً للحكومة في عهد محمد نجيب، وأن تقوم الإدارة الأمريكية ذاتها بعمل برنامج محكم التخطيط للحفاظ على حياته والدعايه له شخصياً، بل أنها منحته بشكل شخصي مبلغ ثلاثة ملايين دولار في بداية عمله لمعاونته في الحكم كمصاريف ( غير منظورة ) ولدعم تكاليف وإدارة السيارات المصفحة الخاصة به وكذلك الأسلحة للدفاع عنه، ويسترسل التهامي في مذكراته ( حسن التهامى يفتح ملفاته ص13 ) وبمنتهى الجرأة ويقول أن استمرار الدعم الأمريكي المباشر والمستمر لجمال عبد الناصر استفزني ودفعني ذات مرة لأن أختلف بعنف مع مندوبي البيت الأبيض الذين كانوا يحضرون لمصر من وقت لآخر للتحاور مع عبد الناصر حول تطوير العلاقات والمصالح المشتركة ولكنهم فاجأوني بأن أعطوني خطاباً من الإدارة الأمريكية يقول مضمونه أن الإدارة الأمريكية قد استقرت على رأي واحد وهو اختيار جمال عبد الناصر رئيساً لمصر وليس ذلك فحسب بل واختارته أيضاً ليوجه سياسة الشرق الأوسط كله لصالح الأهداف الأمريكية !
التهامي أيضاً كان أهم شخصية وقفت بجوار ( السادات ) في ثورة التصحيح عام 1971 وتقول بعض التكهنات أنه كان مهندس تلك الثورة وأنه هو من أوحى للسادات بإتخاذها ثم كان هو أيضاً أحد أهم أعضاء المحكمة التي صدر لها قرار جمهوري بتشكيلها في الحادي والعشرين من يوليو تموز 1971 حيث أنتقم فيها حسن التهامي من كل خصوم السادات وهم: نائب رئيس الجمهورية علي صبري، وزير الدفاع محمد فوزي، وزير الداخلية شعراوي جمعة، وزير الإعلام محمد فائق، سكرتير رئيس الجمهورية سامي شرف، ليبدأ عهد جديد يتفرد فيه مع السادات بالحكم حيث صدر له قرار جمهوري في أكتوبر 1977 بمنحه رتبة "الفريق" الشرفية وقيل وقتها أنه تقديراً لدوره في الدفاع عن مدينة السويس في حرب أكتوبر بينما كان يتم تجهيزه لعملية السلام ( كامب ديفيد ) التي أوحى بها للسادات ونفذاها معاً ببراعة تحت رعاية ملك المغرب آنذاك وقيل عنهما فيها أنهما ضحكا بها على إسرائيل وقادتها في ذلك الوقت وعلى رأسهم مناحم بيجن وجولدا مائير وموشى ديان، إنه حسن التهامي، ذلك الرجل الذي لم يكن هينا ولم يكن أبداً عابر سبيل في طريق السياسة.

الاثنين، 14 مارس 2016

هكذا الناس



mohi_ibraheem
بقلم: محيي الدين إبراهيم
الناس لا تقرأ ولا تسمع إلا لمن يجدونه منقذاً لغرائزهم .. فرجل أعمال جاهل أعظم وأقرب للناس من عالم مفلس .. ورب غانية يعشقها العالم أكثر شهرة وقرباً من قديسة يحبها الله .. هكذا الناس .. يأسرهم من يملأ فراغ بطونهم وفروجهم وأنفجار لذاتهم حتى لو أقسموا بعكس ذلك ويفرون فرار الحمل من الذئب فرارهم ممن وهب عمره ليملأ عقولهم بالكلمة .. يقول أحدهم: الكلمة لا تأتي بخبز ولا ترضى عنك بها إمرأة .. لم ينجو نبي من بطش أتباعه !

هكذا الناس



mohi_ibraheem
بقلم: محيي الدين إبراهيم
الناس لا تقرأ ولا تسمع إلا لمن يجدونه منقذاً لغرائزهم .. فرجل أعمال جاهل أعظم وأقرب للناس من عالم مفلس .. ورب غانية يعشقها العالم أكثر شهرة وقرباً من قديسة يحبها الله .. هكذا الناس .. يأسرهم من يملأ فراغ بطونهم وفروجهم وأنفجار لذاتهم حتى لو أقسموا بعكس ذلك ويفرون فرار الحمل من الذئب فرارهم ممن وهب عمره ليملأ عقولهم بالكلمة .. يقول أحدهم: الكلمة لا تأتي بخبز ولا ترضى عنك بها إمرأة .. لم ينجو نبي من بطش أتباعه !

الأحد، 13 مارس 2016

بحلم أكون ابن حرام

mohi_ibraheem
بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
انهم ولاد حرام يعدون ويخلفون، يقولون ويكذبون، ليس لهم دين حتى وإن خرجوا كالثعلب في ثوب الشيخ الوقور متوضئي اليد وقلوبهم نجسة ليقولوا للناس ما لا يفعلون، سود الضمائر، ونفوسهم خراب، لا ينجوا من والاهم ولا يبرأ من فجور خصومتهم ناج.

التأمل في واقعنا العربي كله، يدفعنا نحن العرب إلى بديهية أننا نشرب من معين واحد للجهل ونحيا حياة الجوع والظلم وأننا شعوب مغلوبة على أمرها حتى اصبحنا نحن الوحيدين في القرن الواحد والعشرين الذين يعيشون في القرن الأول الميلادي واقصى حلمنا هو “العيش والكرامة الإنسانية “، نحيا بين حكام وسدنة حكم كلما قمنا بثورة سرقوها، وكلما حاولنا أن نرفع رؤوسنا للنور، أظلموا علينا الدنيا،
يقول الكاتب المغربي محمد ملوك:
في المغرب توجد نكتة يتداولها العامة والخاصة على حد سواء ، وهي أن طفلا من أبناء الشعب المقهور كان كلما جلس على قارعة الطريق إلا وسمع الكبير قبل الصغير والحليم قبل السفيه يطلق لقب ” ابن الحرام ” على كل صاحب سيارة فارهة أو كل من يرتدي لباس نفيس أو كل من يمتلك جاه ملحوظ أو ثروة مكتسبة أو كل من يمت إلى مراكز النفوذ والحكم بصلة من سلاطين وحكام ورؤساء ووزراء ومدراء وجنرالات وزبانية وهلم جرا ممن لهم يد في صنع القرار، فهؤلاء وغيرهم لم يكن الطفل الصغير يعرف عنهم شيئا سوى أنهم ” أولاد حرام ” ، لذلك حين سأله أحد أساتذته عن تطلعاته المستقبلية وأحلامه الطفولية أجاب ببراءة بأن منتهى حلمه أن يكون في المستقبل ” ابن حرام ” وأن ينتمي إلى زمرة “أولاد الحرام” مادامت هذه الزمرة هي التي ـ في نظره ـ تحكم كل شيء وتتحكم في كل شيء رغم أنف الكل ولا يحكمها أو يتحكم فيها أحد .
وفي مصر حكاية مماثلة لنكتة المغرب اخترعها لنا الفلاح المصري العبقري ولكن في صورة مثل شعبي موجز ودال يقول فيه: ولاد الحرام ( ما خلوش ) لولاد الحلال حاجة. حتى دعاء الغلابة منا لم تعد له استجابة وكأننا خرجنا أيضا من رحمة الله.ومقصود الفلاح المصري في هذا المثل الشعبي العبقري معروف حتى لمن ليس في وجهه نظر، فالحاكم ( قطعاً ) هو ابن الحرام والفلاح وابنائه واحفاده ومن قبلهم ابائه واجداده هم ( بلا شك ) الشعب اولاد الحلال الذين كسر ظهورهم الحاكم ( ابن الحرام ) وسرق منهم – حتى – احلامهم وهو في كل مرة يسرق فيها احلامهم يعدهم بمستقبل افضل وبوطن ستجري في ربوعه انهار السمن والعسل بينما يعيش المواطن ويموت وهو يغوص وحده في بحار الهم والفقر والمرض، انهم ولاد حرام يعدون ويخلفون، يقولون ويكذبون، ليس لهم دين حتى وإن خرجوا كالثعلب في ثوب الشيخ الوقور متوضئي اليد وقلوبهم نجسة ليقولوا للناس ما لا يفعلون، سود الضمائر، ونفوسهم خراب، لا ينجوا من والاهم ولا يبرأ من فجور خصومتهم ناج، إن سادوا الناس تأبلسوا وإن غضبوا عليهم اغتالوهم في اعراضهم. يقول الجبرتى: “على بيك الكبير ما كان يجالس إلا أهل الوقار والحشمة والمسنين.. ويتتبع المفسدين والذين يتداخلون فى القضايا والدعاوى ويتحايلون على إبطال الحقوق بأخذ الرشوات والجعالات وعاقبهم بالضرب الشديد والإهانة والقتل والنفى إلى البلاد البعيدة ولم يراع فى ذلك أحدا سواء كان متعمما أو فقيها أو كاتبا أو قاضيا أو غير ذلك بمصر, أو غيرها من البنادر والقرى وكذلك المفسدون وقطاع الطريق, من العرب وأهل الحوف, وألزم أرباب الإدراك والمقادم بحفظ نواحيهم وما فى حوزهم وحدودهم وعاقب الكبار بجناية الصغار, فأمنت السبل وانكفت أولاد الحرام وانكمشوا عن قبائحهم وإيذائهم بحيث أن الشخص كان يسافر بفرده ليلا راكبا أو ماشيا ومعه حمل الدراهم والدنانير إلى أى جهة ويبيت فى الغيط أو البرية آمنا مطمئنا لا يرى مكروها أبدا, وكان عظيم الهيبة اتفق لأناس ماتوا فرقا من هيبته, وكان شديد الفراسة شديد الحذق يفهم ملخص الدعوى الطويلة بين المتخاصمين ولا يحتاج فى التفهيم إلى ترجمان أو من يقرأ له الصكوك والوثائق بل يقرؤها بنفسه كالماء الجارى ولو كان خطها سقيما ولا يختم ورقة حتى يقرأها ويفهم مضمونها ثم يمضيها أو يمزقها”.ويشير الجبرتى إلى أن الحاكم حينما تصرف على هذا النحو صار الأمان هو عنوان البلاد, ولم يعد هناك “أولاد حرام” يعنى الفاسدين والمفسدين الذين نعانى منهم في حاضرنا, ويحكمون البلاد منذ عقود مؤكدين – رغم تغيرهم على كرسي الحكم – مقولة أن الحكام على دين واحد وأن الكفر ملة واحدة، ومن ثم فإن ثار الناس على ظالم جاءهم طاغية، وان ثاروا على طاغية جاءهم جاهل، وبين الظالم والطاغية والجاهل ربما تكون هناك دقائق من العدل لكنها لا تعدو مجرد دقائق يتم اغتيال قائدها العادل لتستمر عجلة الظلم والجهل والطغيان والثورة.أما المقريزي الذي احتل مركزاً عالياً بين المؤرخين المصريين في النصف الأول من القرن التاسع الهجري، فيقرر أن الحاكم هو اصل العدل أو الفساد، هو اصل بناء الأمة أو سقوطها، فالأمور كلها، إذا عُرفت أسبابها، سهل على الحاكم الخبير إصلاحها، فالمجاعات وأمثالها، ليست شيئاً مفروضاً على الإنسان من علِ، ينزل بأمر، ويرتفع بأمر، كما أنها ليست ناجمة عن جهل الطبيعة وعماها، دون أن يكون للإنسان بها دور بل هي ظاهرات مادية اجتماعية، لم تلازم البشر دائماً، ولكنها تقع آناً، وتنقطع آناً آخر، تقع عندما تجتمع أسبابها ودواعيها، وتنقطع عندما تنتهي تلك المسببات والدواعي، أن كل شيء خاضع للتطور، يولد وينمو ويموت.ويؤكد القاضي الفاضل ما ذهب اليه المقريزي والجبرتي من فساد الحكام الغير خبراء في ادارة دفة السياسة في مصر فيقول: ” وأهل مصر على كثرة عددهم وما ينسب من موفور المال إلى بلدهم مساكين يعملون في البحر ومجاهيد يدأبون فى البر …” حتى استحالت مصر إلى جنة للمعذبين فى الأرض، فالمأساة الإنسانية عند المصري هى الصراع غير المتكافئ بين الإنسان والسلطة أو الحاكم بمعنى أن أحد الطرفين يحمل فكرة قمع الآخر أو قهره أو إذلاله ثم الانتصار عليه، وكأن القاضي الفاضل يعيش بيننا اليوم!أتصور أننا في مصر سنقضي أعواماً في صراع أقرب لصراع ” قنديل أم هاشم ” وهي رواية للكاتب الروائي المصري يحيي حقي (1905 – 1992) التي تم إنتاجها سينمائياً في 4 نوفمبر 1968م بسيناريو لصبري موسي وإخراج كمال عطية و بطولة شكري سرحان، الذي جسد شخصية إسماعيل الطالب الذي يعيش في حى السيدة زينب مع أمه وأبيه، ثم يسافر لاستكمال دراسة الطب في إنجلترا ،ويحتك بالحضارة ثم يعود ويعمل طبيبًا للعيون ويفتح عيادة في نفس الحى، السيدة زينب، ليكتشف أن سبب زيادة الرمد عند مرضاه هو استخدامهم قطرات من زيت قنديل المسجد وعندما يكتشف أيضًا أن خطيبته تعالج بنفس الأسلوب يحطم قنديل المسجد، مما يعتبره البسطاء هجوماً على المعتقد وعداءً للدين فيكرهوه ويغضبوا عليه وهنا ينشأ الصراع بين الجهل والعلم، الظلمة والنور، فينفض عنه مرضاه وأهله لاعتقادهم أنه يهاجم ويتحدى معتقداتهم الدينية. وهذا ما نعيشه اليوم في مصر، الصراع بين الجهل والعلم، حتى أن بعض الجهال من القوم اعتبروا أن الأزهر على سبيل المثال وبعد أكثر من ألف عام من العلم هو معقل العلمانية، وأنهم فقط – رغم خروجهم من الزمن – مرجعية الدين حتى صار بهم كل شيء في حياتنا حراماً، لاشك اننا في منحنى خطر لكن ما يدفعني للتفاؤل كثرة ما حل على مصر من نكبات وكثرة ما مر عليها من ( ولاد الحرام ) فإنها تقوم مرة اخرى من نكبتها وحرامها مرفوعة الرأس وأكثر قوة وحذراً وصدق شاعر النيل حافظ ابراهيم في قصيدته عن مصر:
وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبنى
قواعد المجد وحدى
وبناة الأهرام فى سالف الدهر
كفوني الكلام عند التحدي
أنا تاج العلاء فى مفرق الشرق
و دراته فرائد عقدي
أنا إن قدر الإله مماتي
لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدى
ما رماني رام وراح سليماِّ
من قديم عناية الله جندي

بحلم أكون ابن حرام

mohi_ibraheem
بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
انهم ولاد حرام يعدون ويخلفون، يقولون ويكذبون، ليس لهم دين حتى وإن خرجوا كالثعلب في ثوب الشيخ الوقور متوضئي اليد وقلوبهم نجسة ليقولوا للناس ما لا يفعلون، سود الضمائر، ونفوسهم خراب، لا ينجوا من والاهم ولا يبرأ من فجور خصومتهم ناج.

التأمل في واقعنا العربي كله، يدفعنا نحن العرب إلى بديهية أننا نشرب من معين واحد للجهل ونحيا حياة الجوع والظلم وأننا شعوب مغلوبة على أمرها حتى اصبحنا نحن الوحيدين في القرن الواحد والعشرين الذين يعيشون في القرن الأول الميلادي واقصى حلمنا هو “العيش والكرامة الإنسانية “، نحيا بين حكام وسدنة حكم كلما قمنا بثورة سرقوها، وكلما حاولنا أن نرفع رؤوسنا للنور، أظلموا علينا الدنيا،
يقول الكاتب المغربي محمد ملوك:
في المغرب توجد نكتة يتداولها العامة والخاصة على حد سواء ، وهي أن طفلا من أبناء الشعب المقهور كان كلما جلس على قارعة الطريق إلا وسمع الكبير قبل الصغير والحليم قبل السفيه يطلق لقب ” ابن الحرام ” على كل صاحب سيارة فارهة أو كل من يرتدي لباس نفيس أو كل من يمتلك جاه ملحوظ أو ثروة مكتسبة أو كل من يمت إلى مراكز النفوذ والحكم بصلة من سلاطين وحكام ورؤساء ووزراء ومدراء وجنرالات وزبانية وهلم جرا ممن لهم يد في صنع القرار، فهؤلاء وغيرهم لم يكن الطفل الصغير يعرف عنهم شيئا سوى أنهم ” أولاد حرام ” ، لذلك حين سأله أحد أساتذته عن تطلعاته المستقبلية وأحلامه الطفولية أجاب ببراءة بأن منتهى حلمه أن يكون في المستقبل ” ابن حرام ” وأن ينتمي إلى زمرة “أولاد الحرام” مادامت هذه الزمرة هي التي ـ في نظره ـ تحكم كل شيء وتتحكم في كل شيء رغم أنف الكل ولا يحكمها أو يتحكم فيها أحد .
وفي مصر حكاية مماثلة لنكتة المغرب اخترعها لنا الفلاح المصري العبقري ولكن في صورة مثل شعبي موجز ودال يقول فيه: ولاد الحرام ( ما خلوش ) لولاد الحلال حاجة. حتى دعاء الغلابة منا لم تعد له استجابة وكأننا خرجنا أيضا من رحمة الله.ومقصود الفلاح المصري في هذا المثل الشعبي العبقري معروف حتى لمن ليس في وجهه نظر، فالحاكم ( قطعاً ) هو ابن الحرام والفلاح وابنائه واحفاده ومن قبلهم ابائه واجداده هم ( بلا شك ) الشعب اولاد الحلال الذين كسر ظهورهم الحاكم ( ابن الحرام ) وسرق منهم – حتى – احلامهم وهو في كل مرة يسرق فيها احلامهم يعدهم بمستقبل افضل وبوطن ستجري في ربوعه انهار السمن والعسل بينما يعيش المواطن ويموت وهو يغوص وحده في بحار الهم والفقر والمرض، انهم ولاد حرام يعدون ويخلفون، يقولون ويكذبون، ليس لهم دين حتى وإن خرجوا كالثعلب في ثوب الشيخ الوقور متوضئي اليد وقلوبهم نجسة ليقولوا للناس ما لا يفعلون، سود الضمائر، ونفوسهم خراب، لا ينجوا من والاهم ولا يبرأ من فجور خصومتهم ناج، إن سادوا الناس تأبلسوا وإن غضبوا عليهم اغتالوهم في اعراضهم. يقول الجبرتى: “على بيك الكبير ما كان يجالس إلا أهل الوقار والحشمة والمسنين.. ويتتبع المفسدين والذين يتداخلون فى القضايا والدعاوى ويتحايلون على إبطال الحقوق بأخذ الرشوات والجعالات وعاقبهم بالضرب الشديد والإهانة والقتل والنفى إلى البلاد البعيدة ولم يراع فى ذلك أحدا سواء كان متعمما أو فقيها أو كاتبا أو قاضيا أو غير ذلك بمصر, أو غيرها من البنادر والقرى وكذلك المفسدون وقطاع الطريق, من العرب وأهل الحوف, وألزم أرباب الإدراك والمقادم بحفظ نواحيهم وما فى حوزهم وحدودهم وعاقب الكبار بجناية الصغار, فأمنت السبل وانكفت أولاد الحرام وانكمشوا عن قبائحهم وإيذائهم بحيث أن الشخص كان يسافر بفرده ليلا راكبا أو ماشيا ومعه حمل الدراهم والدنانير إلى أى جهة ويبيت فى الغيط أو البرية آمنا مطمئنا لا يرى مكروها أبدا, وكان عظيم الهيبة اتفق لأناس ماتوا فرقا من هيبته, وكان شديد الفراسة شديد الحذق يفهم ملخص الدعوى الطويلة بين المتخاصمين ولا يحتاج فى التفهيم إلى ترجمان أو من يقرأ له الصكوك والوثائق بل يقرؤها بنفسه كالماء الجارى ولو كان خطها سقيما ولا يختم ورقة حتى يقرأها ويفهم مضمونها ثم يمضيها أو يمزقها”.ويشير الجبرتى إلى أن الحاكم حينما تصرف على هذا النحو صار الأمان هو عنوان البلاد, ولم يعد هناك “أولاد حرام” يعنى الفاسدين والمفسدين الذين نعانى منهم في حاضرنا, ويحكمون البلاد منذ عقود مؤكدين – رغم تغيرهم على كرسي الحكم – مقولة أن الحكام على دين واحد وأن الكفر ملة واحدة، ومن ثم فإن ثار الناس على ظالم جاءهم طاغية، وان ثاروا على طاغية جاءهم جاهل، وبين الظالم والطاغية والجاهل ربما تكون هناك دقائق من العدل لكنها لا تعدو مجرد دقائق يتم اغتيال قائدها العادل لتستمر عجلة الظلم والجهل والطغيان والثورة.أما المقريزي الذي احتل مركزاً عالياً بين المؤرخين المصريين في النصف الأول من القرن التاسع الهجري، فيقرر أن الحاكم هو اصل العدل أو الفساد، هو اصل بناء الأمة أو سقوطها، فالأمور كلها، إذا عُرفت أسبابها، سهل على الحاكم الخبير إصلاحها، فالمجاعات وأمثالها، ليست شيئاً مفروضاً على الإنسان من علِ، ينزل بأمر، ويرتفع بأمر، كما أنها ليست ناجمة عن جهل الطبيعة وعماها، دون أن يكون للإنسان بها دور بل هي ظاهرات مادية اجتماعية، لم تلازم البشر دائماً، ولكنها تقع آناً، وتنقطع آناً آخر، تقع عندما تجتمع أسبابها ودواعيها، وتنقطع عندما تنتهي تلك المسببات والدواعي، أن كل شيء خاضع للتطور، يولد وينمو ويموت.ويؤكد القاضي الفاضل ما ذهب اليه المقريزي والجبرتي من فساد الحكام الغير خبراء في ادارة دفة السياسة في مصر فيقول: ” وأهل مصر على كثرة عددهم وما ينسب من موفور المال إلى بلدهم مساكين يعملون في البحر ومجاهيد يدأبون فى البر …” حتى استحالت مصر إلى جنة للمعذبين فى الأرض، فالمأساة الإنسانية عند المصري هى الصراع غير المتكافئ بين الإنسان والسلطة أو الحاكم بمعنى أن أحد الطرفين يحمل فكرة قمع الآخر أو قهره أو إذلاله ثم الانتصار عليه، وكأن القاضي الفاضل يعيش بيننا اليوم!أتصور أننا في مصر سنقضي أعواماً في صراع أقرب لصراع ” قنديل أم هاشم ” وهي رواية للكاتب الروائي المصري يحيي حقي (1905 – 1992) التي تم إنتاجها سينمائياً في 4 نوفمبر 1968م بسيناريو لصبري موسي وإخراج كمال عطية و بطولة شكري سرحان، الذي جسد شخصية إسماعيل الطالب الذي يعيش في حى السيدة زينب مع أمه وأبيه، ثم يسافر لاستكمال دراسة الطب في إنجلترا ،ويحتك بالحضارة ثم يعود ويعمل طبيبًا للعيون ويفتح عيادة في نفس الحى، السيدة زينب، ليكتشف أن سبب زيادة الرمد عند مرضاه هو استخدامهم قطرات من زيت قنديل المسجد وعندما يكتشف أيضًا أن خطيبته تعالج بنفس الأسلوب يحطم قنديل المسجد، مما يعتبره البسطاء هجوماً على المعتقد وعداءً للدين فيكرهوه ويغضبوا عليه وهنا ينشأ الصراع بين الجهل والعلم، الظلمة والنور، فينفض عنه مرضاه وأهله لاعتقادهم أنه يهاجم ويتحدى معتقداتهم الدينية. وهذا ما نعيشه اليوم في مصر، الصراع بين الجهل والعلم، حتى أن بعض الجهال من القوم اعتبروا أن الأزهر على سبيل المثال وبعد أكثر من ألف عام من العلم هو معقل العلمانية، وأنهم فقط – رغم خروجهم من الزمن – مرجعية الدين حتى صار بهم كل شيء في حياتنا حراماً، لاشك اننا في منحنى خطر لكن ما يدفعني للتفاؤل كثرة ما حل على مصر من نكبات وكثرة ما مر عليها من ( ولاد الحرام ) فإنها تقوم مرة اخرى من نكبتها وحرامها مرفوعة الرأس وأكثر قوة وحذراً وصدق شاعر النيل حافظ ابراهيم في قصيدته عن مصر:
وقف الخلق ينظرون جميعا كيف أبنى
قواعد المجد وحدى
وبناة الأهرام فى سالف الدهر
كفوني الكلام عند التحدي
أنا تاج العلاء فى مفرق الشرق
و دراته فرائد عقدي
أنا إن قدر الإله مماتي
لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدى
ما رماني رام وراح سليماِّ
من قديم عناية الله جندي

الجمعة، 11 مارس 2016

حكاية ( دير مواس ) وثورة شعب ضد الإنجليز عام 1919

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
لم يكد يمضي على وصول الدكتور خليل أبو زيد إلى مصر سوى أشهر معدودة على الأكثر حينما أعتقل الإنجليز في 8 مارس 1919 سعد زغلول ومرافقيه أحمد باشا الباسل ومحمد باشا محمود وإسماعيل صدقي وسينوت حنا ومكرم عبيد وفتح الله بركات وعاطف بركات وإرسالهم للمنفى.

بمناسبة ذكرى احتفال محافظة المنيا بعيدها القومي:

دكتور خليل ابو زيد .. ضحى بعلمه وماله في سبيل الوطن وأعدمه الإنجليز.

هل ضحى دكتور خليل أبو زيد بنفسه من أجل الإعلان عن جمهورية ( دير مواس ) ؟؟

الشهيد الدكتور خليل أبو زيد سالم
 كان ذلك عام 1910 حينما قرر العمدة أبو زيد عمدة دير مواس أن يرسل أبنه خليل ليدرس الزراعة في بلاد الإنجليز لقد اتفق هو والشيخ عبد الرازق في قرية أبو جورج بالبهنسا على ذلك، هو يرسل ابنه خليل لإنجلترا ليدرس الزراعة ويتعرف على ثقافة ( المحتل ) لعله يأتي ويشارك في جلاءهم عن البلاد وبعدها حين يأخذ الشيخ ( علي عبد الرازق ) شهادة العالمية من الأزهر في خلال عام على الأكثر يرسله الشيخ عبد الرازق ليلتقي مع خليل أبو زيد في انجلترا لدراسة الإقتصاد، كان رأي الأعيان والعمد في الصعيد أن أعظم سلاح للوطنية والحرية هو سلاح العلم، وغداً سيكون الدكتور خليل أبو زيد والشيخ علي عبد الرازق من أهم الشخصيات في مصر متسلحين بالعلم والمعرفة والوطنية لبناء هذا الوطن الكريم، لن نقف مكتوفي الأيدي أمام الإحتلال، لن نقف مكتوفي الأيدي أمام تقدم الوطن وإعلاء شأنه، وسافر خليل إلى إنجلترا في صيف عام 1910 على نفس المركب التي تحمل الطالب أحمد محمد أحمد حسانين باشا ذاهبة بهما لجامعة اوكسفورد حيث سيدرس خليل الزراعة. 
قامت الحرب العالمية الأولى في 28 يوليو من عام 1914 قبل أن ينهي خليل أبو زيد دراسته بعام واحد أو ربما عامين، إنقطعت كل سبل السفر عبر البحر من وإلى مصر وأنجلترا، فقضى خليل أبو زيد كل سنوات الحرب في انجلترا قبل أن يعود لمصر في أواخر عام 1918.
الشهيد عبد الرحمن سالم
لم يكد يمضي على وصول الدكتور خليل أبو زيد إلى مصر سوى أشهر معدودة على الأكثر حينما أعتقل الإنجليز في 8 مارس 1919 سعد زغلول ومرافقيه أحمد باشا الباسل ومحمد باشا محمود وإسماعيل صدقي وسينوت حنا ومكرم عبيد وفتح الله بركات وعاطف بركات وإرسالهم للمنفى، ثار الشعب المصري كله من شمال مصر لجنوبها ليس تضامناً مع سعد زغلول وأصحابه بقدر احساسهم بأن سعد زغلول هو رمز للمصريين جميعاً في رغبتهم للتحرر، وعليه كان سكان الصعيد وأهالي دير مواس على وجه الخصوص في طليعة هؤلاء الثوار الرافضين للانجليز والغاضبين لاعتقال سعد باشا ومن معه وهو الأمر الذي أشعل جذوة الحماسة عند خليل أبو زيد علي محمود سالم وابن عمه عبد الرحمن حسن علي محمود سالم بل وعائلتهما وأهل بلدهما جميعاً.
بعد صلاة عصر يوم الجمعة فوجئ العمدة أبو زيد بإبن أخيه عبد الرحمن يهرع إليه في المسجد ويعلمه بحضور جرجس بك حنا المحامي للسراية، كان جرجس حنا المحامي من أشهر المحامين في بندر أسيوط، وكان ثورياً وطنياً وكان خطيباً بليغاً، لا يخطب في الناس إلا ويلهب حماستهم، جاء جرجس حنا بناء على دعوة من الدكتور خليل أبو زيد، كان يعرف خليل أبو زيد معرفة جيدة ويعرف أيضاً أنه يدير جلسات وطنية مهمة في سرايا والده كل يوم بعد صلاة العشاء حول مقاومة الإنجليز وضرورة عودة سعد زغلول رغم أنه لم يزل عائداً من انجلترا حديثاً، لكن ظروف البلد وغضب الناس ووحشية الإنجليز واعتقال سعد دفعته لأن يعقد ندوات وطنية في دارة ويرفض قبول العمل كمدير زراعة في أسيوط في ظل الطاغية ( كوكسن باشا ) الإنجليزي الذي تتبعه كل الترع والقنوات، هذا الفاجر السكير الذي لا يفيق من غيبوبة سكره إلا حين يشتكي البشوات من سرقة الفلاحين لمياة الري وحينها يلحق ( كوكسن) بالفلاحين الخراب ويقطع عنهم المياه ، كان (كوكسن ) رمزاً للاحتلال الانجليزي بكل سلطويته وديكتاتوريته، لذا لن يقبل خليل أبو زيد وظيفة مدير زراعة حتى يرحل ( كوكسن ) هذا، بل لن يقبل الوظيفة حتى تنجلي غمة الإحتلال، لكن المدهش أن خليل أبو زيد لم يكن في ضميره ولا بأخلاقياته يعلم أن كلماته التي يقولها بحماسة للأعيان والفلاحين في ( سهراته ) ضد الإنجليز والاحتلال الإنجليزي يمكنها أن تدفع ( نور المراكبي ) لجريمة قتل، ( نور المراكبي ) الذي عانى من ظلم ( كوكسن )، قرر أن يقتله وحين مرت مركبه بجوار الكوبري أطلق عليه عيار خرطوش من البندقية الإنجليزي الذي سرقها من أحد الجنود الأستراليين فقتله، صارت الإشاعات في مديرية أسيوط وإلمنيا بأن موت ( كوكسن ) جاء بعد رجوع الدكتور خليل أبو زيد من انجلترا كرسالة من الفلاحين للإنجليز بأننا تخلصنا من مفتش الري الإنجليزي ونريد خليل أبو زيد ( المصري ) بدلاً عنه، وهو الأمر الذي أثار حفيظة بعض الباشوات الذين يعملون لصالح الأنجليز في أن يقوم بالإبلاغ عن أن المحرض على قتل كوكسن هو خليل أبو زيد نفسه، وعليه جاءت بناء على هذا البلاغ حملة كبيرة من رجال الشرطة وعساكر الهجانة ( السودانية ) بحثاً عن قاتل كوكسن وظلت أكثر من ثلاثة أيام تحقق مع عائلة أبوزيد فيما نسبته إليهم أقوال الباشا بشأن التحريض على قتل كوكسن، ولكنهم لم يجدوا دليلاً مادياً واحداً ضد خليل أبو زيد ولم يستطيعوا الحصول على أي معلومة فرحلوا ، بينما الباشا – عميل الإنجليز - أضمرها في صدره وتوعد بالثأر للباشا ( كوكسن ) من عائلة أبو زيد جميعاً. 
كانت وجهة نظر جرجس حنا المحامي تتفق مع وجهة نظر خليل أبو زيد في أن تتضافر كل القوى الوطنية في الصعيد، وهو ما دفعة لقبول دعوة خليل لزيارته في دير مواس، كان رأي الدكتور خليل أبو زيد أن يسافر هو وجرجس حنا المحامي وابن عمه عبد الرحمن للقاهرة مع مجموعة من وجهاء الصعيد وأعيانه لعقر دار المندوب السامي الإنجليزي والمطالبة بعودة سعد باشا لمصر وكذلك سحب العساكر ( الهندوس ) الذين جلبتهم انجلترا من معسكراتها في الهند والسودان بعدما عاثوا في مدن وقرى الصعيد فساداً وصل بهم لتحويل قرى بأكملها إلى كوم تراب واغتصاب النساء فيها بدافع قمع الثورة.
هنا تبدأ حكاية وطن، حيث اتفق الجميع خليل أبو زيد ومن معه أن يلتقوا بأعيان بندر منفلوط للاجتماع التحضيري الذي سيتم اجراؤه في بندر ديروط قبل السفر للقاهرة ولقاء المندوب السامي، كان اجتماع ديروط هو الأهم حيث سيلتقي فيه كل عمد ومشايخ وأعيان وعرب منفلوط وديروط ودير مواس وملوي وأبو قرقاص، كانت أهمية ذلك الاجتماع تكمن في أن يتفق فيه الجميع على ورقة العمل التي سيتحاورون فيها مع المندوب السامي بالقاهرة.
وصلت للباشا – عميل الإنجليز – الذي لم يحضر الاجتماع أخباراً تفيد بأن هذا الاجتماع الشعبي في منفلوط ليلاً قد أثار حماسة الناس لدرجة أن الفلاحين صرخوا بالهتاف معلنين السفر لبندر ديروط لحضور الاجتماع الوطني مع اعيان الصعيد ضد الانجليز، فرأى الباشا أنه لا حل سوى تعطيل القطار الذاهب لديروط، وفي يوم الرجوع من منفلوط صباحاً لدير مواس خطب خليل أبو زيد في الناس أمام محطة قطار منفلوط فأثار حماستهم وغيرتهم الوطنية وألهبها، ثم خطب من بعده جرجس حنا المحامي ثم خطب عين أعيان منفلوط ومن بعده خطب عمدة ملوي ثم عبد الرحمن، كل منهم كان يخطب في جماعة وفي نفر من الناس، كان صياح الناس يملأ الأجواء، عشرات الآلاف احتشدوا أمام محطة قطار منفلوط، ثم دخل خليل أبو زيد بصحبة الأعيان لمحطة القطار متوجهين لرصيف المحطة ليستقلوا القطار، ووسط الزحام الشديد كأنه يوم الحشر، أعلن مستر ( فورد ) ناظر المحطة ( الإنجليزي ) بتعطل القطار المتجه لديروط.
قرر خليل أبو زيد ومن معه حين لم يجدوا حيلة أو حل لعطل القطار الذاهب لديروط أن ينتظروا قطار الإكسبريس القادم من الأقصر ليستقلونه إلى ديروط، لابد أن يتم اجتماع ديروط مهما كلف الأمر، كان عليهم الإنتظار لأكثر من ثلاث ساعات داخل المحطة، الأمر الذي جعل الخبر يتطاير كشظايا النار بين البيوت لتهب الناس من القرى والنجوع المجاورة بالمئات متوجهين لمحطة القطار تأييداً ودعماً لخليل أبو زيد ورجالة، احتشدت الناس وتوافدت حتى اصبح ميدان المحطة والمحطة نفسها ليسا فيهما موضعاً لقدم.
ظل خليل أبو زيد وابن عمه عبد الرحمن وجرجس حنا المحامي وعمدة منفلوط يخطبون في الناس حتى جاء قطار الإكسبريس في الساعة العاشرة، زحفت الناس بالمئات نحو عربات القطار تستقله على أمل حضور اجتماع ديروط، حتى أن سطح القطار لم يكن فيه شبراً واحداً ليجلس فيه رجل في حجم طفل، دخل خليل أبو زيد ومن معه القطار بصعوبة بالغة حتى أنهم هرعوا لعربة الطعام في القطار على أمل أن يجدوا فيها موضع قدم لهم حتى يصلوا ديروط، دخلوا عربة الطعام وكان آخرهم عمدة ملوي الذي أغلق باب العربة منعاً لزحف المتحمسين من الأهالي، وحينما استداروا داخل العربة وجدوا مالم يكن في حسبانهم على الإطلاق.
كان هناك ثمانية من الضباط الإنجليز في عربة الطعام يشهرون أسلحتهم في وجه خليل أبو زيد ومن معه وينظرون للموقف بأكمله بعين التوجس والريبة، شاحبي الوجوه وقد جزوا على نواجذهم وفي وضع الاستعداد لإطلاق الرصاص.
تحدث خليل أبو زيد للضباط الإنجليز بأن لايخافوا، فهم لم يستقلوا القطار ليقتلوهم، وبين المسافة من منفلوط وحتى ديروط تحدث معهم خليل أبو زيد كما كان يتحدث مع زملاءه الإنجليز في جامعة اوكسفورد عن ضرورة انهاء الاحتلال فوراً والافراج عن سعد زغلول بل وتحاور معهم عن حق مصر في أن تصبح جمهورية أو مملكة مستقلة تتمتع بما تتمتع به البلاد الحرة وقد عانت انجلترا في الحرب العظمى من فكرة استلاب حريتها ولكن بكفحها وكفاح الشعب الإنجليزي احرزوا الانتصار واستعادة حريتهم، لسنا أقل من الإنجليز.
لم يعجب هذا الكلام الكولونيل ( بوب ) وأخذ يتحدث باستعلاء وغطرسة مع خليل أبو زيد، هنا كان القطار قد وصل لمحطة ديروط وقد ملأ الغضب قلوب المصريين الجالسين في نفس العربة مع الإنجليز، حتى خليل أبو زيد نفسه كان غاضباً غضباً شديداً من ( بوب ) الضابط الإنجليزي.
كانت الجموع البشرية في محطة ديروط لا تقل زحاماً عن منفلوط في استقبال خليل أبو زيد ومن معه من أعيان الصعيد باللافتات والأعلام والهتاف لمصر وحين نزل خليل أبو زيد وأعيان الصعيد من القطار أخذتهم الناس بالأحضان بينما أعلنت صافرة المحطة بمغادرة قطار الإكسبريس محطة ديروط متوجهاً للقاهرة، وهنا قفز جرجس حنا مخاطباً في الناس بأن لايدعوا القطار يرحل، ثم نظر لخليل أبو زيد بينما ذهب ( عرفة الأشول ) وكان فلاح بسيط ممن آمنوا بأفكار خليل أبو زيد عن الحرية والاستقلال لغرفة قيادة القطار وسحب السائق الإنجليزي ومساعدة بالقوة خارج مقصورة القيادة، كانت الناس تنظر لخليل أبو زيد وهو يخطب في الناس بأن المصريين سيحصلون على حريتهم رغم أنف الإنجليز، سيحصلون على الحرية رغم أنف ملكة الإنجليز ذاتها، في هذه اللحظة صاح عبد الرحمن من شدة الغضب ومن شدة ما رآه من استعلاء كولونيل ( بوب ) بعربة الطعام في الجموع المحتشده أثناء خطاب خليل ابو زيد بأن المصريين يهتفون منذ زمن ولكن بلا أفعال ثورية حقيقية على أرض الواقع، يا أهل مصر عليكم أن تفعلوا اليوم ماكان يجب عليكم فعله منذ زمن فهاهو القطار يجلس فيه قائد انجليزي سليط اللسان لايريد لمصر خيراً، وقبل أن يكمل عبد الرحمن حديثه للجموع المحتشدة من حوله ونظراً لإيمان الناس بهؤلاء الرجال الذين رأوا فيهم رمزاً ونوراً للحرية والإستقلال هب الناس مندفعين صائحين لعربة الطعام بالقطار محاولين الفتك بالضباط الإنجليز، في هذه اللحظة كان ( عرفة ) أول من ترك مكانه قرب عربة القيادة مهرولا لعربة الطعام للثأر من الضباط الإنجليز، كانت الفلاحين تهرول في كل مكان تحاول الفتك بالضباط الأنجليز، كان الفلاحين فوق رصيف المحطة وعلى قضبان السكة وفوق القطار وتحت القطار، وهنا قفز السائق الإنجليزي إلى غرفة قيادة القطار وتحرك بالقطار في طريق ذهابه للقاهرة، فدهس العشرات وتمزقت أجساد العشرات من الفلاحين تحت عجلاته والمدهش أن في تطاير الأشلاء وبحار الدم التي مازال ( يفرمها ) القطار ( فرماً ) لم تنهزم عزيمة المصريين من الصعود للقطار والفتك بالضباط الأنجليز الذين لم تنفعهم أسلحتهم، وحين وصل القطار دير مواس كانت جموع الغاضبين قد قتلت كل الضباط الإنجليز ومزقتهم تمزيقاً عنيفاً، وتوقف القطار في دير مواس حيث ( خلع ) الفلاحون قضبان السكة الحديد لمنع وصول أي قطارات محملة بعساكر انجليز، وأخذوا ينقلون جثث الضباط من شبابيك القطار ومن بينها جثة بوب الضابط الإنجليزي وألقوها على الأرض، وأخذوا يهتفون: تحيا مصر، يحيا سعد، يسقط الإنجليز وكان ذلك في يوم 18 مارس 1919.
قبل أن يحل صباح اليوم التالي كانت دير مواس عبارة عن ثكنة عسكرية مملوءة بكل أنواع العساكر ، وقبل أن يحل مساء ذلك اليوم كان هناك ثلاثمائة وثلاثة وستون رجلاً قد تم ترحيلهم لسجن أسيوط العمومي من دير مواس فقط وعلى رأسهم الدكتور خليل أبو زيد وعبد الرحمن أبن عمه بتهمة التحريض ضد حكومة الملكة والعصيان المدني والإرهاب وقلب نظام الحكم والقتل العمد للضباط الإنجليز.
تم إعدام دكتور خليل أبو زيد وعبد الرحمن ابن عمه في يوم 17 يونيو 1919 الساعة السادسة صباحاً مع 47 مصرياً في سجن اسيوط العمومي، حيث أقام الأنجليز خمسون مشنقة في صفوف متراصة داخل ساحة السجن وأعدموا الجميع على المشانق في لحظة واحدة، وتم دفن 34 من هؤلاء الشهداء في مقبرة جماعية بينما تم تسليم جثة الشهيد الدكتور خليل أبو زيد وإبن عمه عبد الرحمن لأسرتيهما ليتم دفنهما بمدافن العائلة وتم مصادرة أملاكهما، المدهش أن خليل وابن عمه عبد الرحمن ولدا معاً في يوم واحد عام 1888 وتم إعدامها معاً في يوم واحد عام 1919، وعرفانا بجميل هؤلاء الثوار أصبحت تلك الحادثة النبيلة الوطنية عيداً قومياً لمحافظة المنيا.

حكاية ( دير مواس ) وثورة شعب ضد الإنجليز عام 1919

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
لم يكد يمضي على وصول الدكتور خليل أبو زيد إلى مصر سوى أشهر معدودة على الأكثر حينما أعتقل الإنجليز في 8 مارس 1919 سعد زغلول ومرافقيه أحمد باشا الباسل ومحمد باشا محمود وإسماعيل صدقي وسينوت حنا ومكرم عبيد وفتح الله بركات وعاطف بركات وإرسالهم للمنفى.

بمناسبة ذكرى احتفال محافظة المنيا بعيدها القومي:

دكتور خليل ابو زيد .. ضحى بعلمه وماله في سبيل الوطن وأعدمه الإنجليز.

هل ضحى دكتور خليل أبو زيد بنفسه من أجل الإعلان عن جمهورية ( دير مواس ) ؟؟

الشهيد الدكتور خليل أبو زيد سالم
 كان ذلك عام 1910 حينما قرر العمدة أبو زيد عمدة دير مواس أن يرسل أبنه خليل ليدرس الزراعة في بلاد الإنجليز لقد اتفق هو والشيخ عبد الرازق في قرية أبو جورج بالبهنسا على ذلك، هو يرسل ابنه خليل لإنجلترا ليدرس الزراعة ويتعرف على ثقافة ( المحتل ) لعله يأتي ويشارك في جلاءهم عن البلاد وبعدها حين يأخذ الشيخ ( علي عبد الرازق ) شهادة العالمية من الأزهر في خلال عام على الأكثر يرسله الشيخ عبد الرازق ليلتقي مع خليل أبو زيد في انجلترا لدراسة الإقتصاد، كان رأي الأعيان والعمد في الصعيد أن أعظم سلاح للوطنية والحرية هو سلاح العلم، وغداً سيكون الدكتور خليل أبو زيد والشيخ علي عبد الرازق من أهم الشخصيات في مصر متسلحين بالعلم والمعرفة والوطنية لبناء هذا الوطن الكريم، لن نقف مكتوفي الأيدي أمام الإحتلال، لن نقف مكتوفي الأيدي أمام تقدم الوطن وإعلاء شأنه، وسافر خليل إلى إنجلترا في صيف عام 1910 على نفس المركب التي تحمل الطالب أحمد محمد أحمد حسانين باشا ذاهبة بهما لجامعة اوكسفورد حيث سيدرس خليل الزراعة. 
قامت الحرب العالمية الأولى في 28 يوليو من عام 1914 قبل أن ينهي خليل أبو زيد دراسته بعام واحد أو ربما عامين، إنقطعت كل سبل السفر عبر البحر من وإلى مصر وأنجلترا، فقضى خليل أبو زيد كل سنوات الحرب في انجلترا قبل أن يعود لمصر في أواخر عام 1918.
الشهيد عبد الرحمن سالم
لم يكد يمضي على وصول الدكتور خليل أبو زيد إلى مصر سوى أشهر معدودة على الأكثر حينما أعتقل الإنجليز في 8 مارس 1919 سعد زغلول ومرافقيه أحمد باشا الباسل ومحمد باشا محمود وإسماعيل صدقي وسينوت حنا ومكرم عبيد وفتح الله بركات وعاطف بركات وإرسالهم للمنفى، ثار الشعب المصري كله من شمال مصر لجنوبها ليس تضامناً مع سعد زغلول وأصحابه بقدر احساسهم بأن سعد زغلول هو رمز للمصريين جميعاً في رغبتهم للتحرر، وعليه كان سكان الصعيد وأهالي دير مواس على وجه الخصوص في طليعة هؤلاء الثوار الرافضين للانجليز والغاضبين لاعتقال سعد باشا ومن معه وهو الأمر الذي أشعل جذوة الحماسة عند خليل أبو زيد علي محمود سالم وابن عمه عبد الرحمن حسن علي محمود سالم بل وعائلتهما وأهل بلدهما جميعاً.
بعد صلاة عصر يوم الجمعة فوجئ العمدة أبو زيد بإبن أخيه عبد الرحمن يهرع إليه في المسجد ويعلمه بحضور جرجس بك حنا المحامي للسراية، كان جرجس حنا المحامي من أشهر المحامين في بندر أسيوط، وكان ثورياً وطنياً وكان خطيباً بليغاً، لا يخطب في الناس إلا ويلهب حماستهم، جاء جرجس حنا بناء على دعوة من الدكتور خليل أبو زيد، كان يعرف خليل أبو زيد معرفة جيدة ويعرف أيضاً أنه يدير جلسات وطنية مهمة في سرايا والده كل يوم بعد صلاة العشاء حول مقاومة الإنجليز وضرورة عودة سعد زغلول رغم أنه لم يزل عائداً من انجلترا حديثاً، لكن ظروف البلد وغضب الناس ووحشية الإنجليز واعتقال سعد دفعته لأن يعقد ندوات وطنية في دارة ويرفض قبول العمل كمدير زراعة في أسيوط في ظل الطاغية ( كوكسن باشا ) الإنجليزي الذي تتبعه كل الترع والقنوات، هذا الفاجر السكير الذي لا يفيق من غيبوبة سكره إلا حين يشتكي البشوات من سرقة الفلاحين لمياة الري وحينها يلحق ( كوكسن) بالفلاحين الخراب ويقطع عنهم المياه ، كان (كوكسن ) رمزاً للاحتلال الانجليزي بكل سلطويته وديكتاتوريته، لذا لن يقبل خليل أبو زيد وظيفة مدير زراعة حتى يرحل ( كوكسن ) هذا، بل لن يقبل الوظيفة حتى تنجلي غمة الإحتلال، لكن المدهش أن خليل أبو زيد لم يكن في ضميره ولا بأخلاقياته يعلم أن كلماته التي يقولها بحماسة للأعيان والفلاحين في ( سهراته ) ضد الإنجليز والاحتلال الإنجليزي يمكنها أن تدفع ( نور المراكبي ) لجريمة قتل، ( نور المراكبي ) الذي عانى من ظلم ( كوكسن )، قرر أن يقتله وحين مرت مركبه بجوار الكوبري أطلق عليه عيار خرطوش من البندقية الإنجليزي الذي سرقها من أحد الجنود الأستراليين فقتله، صارت الإشاعات في مديرية أسيوط وإلمنيا بأن موت ( كوكسن ) جاء بعد رجوع الدكتور خليل أبو زيد من انجلترا كرسالة من الفلاحين للإنجليز بأننا تخلصنا من مفتش الري الإنجليزي ونريد خليل أبو زيد ( المصري ) بدلاً عنه، وهو الأمر الذي أثار حفيظة بعض الباشوات الذين يعملون لصالح الأنجليز في أن يقوم بالإبلاغ عن أن المحرض على قتل كوكسن هو خليل أبو زيد نفسه، وعليه جاءت بناء على هذا البلاغ حملة كبيرة من رجال الشرطة وعساكر الهجانة ( السودانية ) بحثاً عن قاتل كوكسن وظلت أكثر من ثلاثة أيام تحقق مع عائلة أبوزيد فيما نسبته إليهم أقوال الباشا بشأن التحريض على قتل كوكسن، ولكنهم لم يجدوا دليلاً مادياً واحداً ضد خليل أبو زيد ولم يستطيعوا الحصول على أي معلومة فرحلوا ، بينما الباشا – عميل الإنجليز - أضمرها في صدره وتوعد بالثأر للباشا ( كوكسن ) من عائلة أبو زيد جميعاً. 
كانت وجهة نظر جرجس حنا المحامي تتفق مع وجهة نظر خليل أبو زيد في أن تتضافر كل القوى الوطنية في الصعيد، وهو ما دفعة لقبول دعوة خليل لزيارته في دير مواس، كان رأي الدكتور خليل أبو زيد أن يسافر هو وجرجس حنا المحامي وابن عمه عبد الرحمن للقاهرة مع مجموعة من وجهاء الصعيد وأعيانه لعقر دار المندوب السامي الإنجليزي والمطالبة بعودة سعد باشا لمصر وكذلك سحب العساكر ( الهندوس ) الذين جلبتهم انجلترا من معسكراتها في الهند والسودان بعدما عاثوا في مدن وقرى الصعيد فساداً وصل بهم لتحويل قرى بأكملها إلى كوم تراب واغتصاب النساء فيها بدافع قمع الثورة.
هنا تبدأ حكاية وطن، حيث اتفق الجميع خليل أبو زيد ومن معه أن يلتقوا بأعيان بندر منفلوط للاجتماع التحضيري الذي سيتم اجراؤه في بندر ديروط قبل السفر للقاهرة ولقاء المندوب السامي، كان اجتماع ديروط هو الأهم حيث سيلتقي فيه كل عمد ومشايخ وأعيان وعرب منفلوط وديروط ودير مواس وملوي وأبو قرقاص، كانت أهمية ذلك الاجتماع تكمن في أن يتفق فيه الجميع على ورقة العمل التي سيتحاورون فيها مع المندوب السامي بالقاهرة.
وصلت للباشا – عميل الإنجليز – الذي لم يحضر الاجتماع أخباراً تفيد بأن هذا الاجتماع الشعبي في منفلوط ليلاً قد أثار حماسة الناس لدرجة أن الفلاحين صرخوا بالهتاف معلنين السفر لبندر ديروط لحضور الاجتماع الوطني مع اعيان الصعيد ضد الانجليز، فرأى الباشا أنه لا حل سوى تعطيل القطار الذاهب لديروط، وفي يوم الرجوع من منفلوط صباحاً لدير مواس خطب خليل أبو زيد في الناس أمام محطة قطار منفلوط فأثار حماستهم وغيرتهم الوطنية وألهبها، ثم خطب من بعده جرجس حنا المحامي ثم خطب عين أعيان منفلوط ومن بعده خطب عمدة ملوي ثم عبد الرحمن، كل منهم كان يخطب في جماعة وفي نفر من الناس، كان صياح الناس يملأ الأجواء، عشرات الآلاف احتشدوا أمام محطة قطار منفلوط، ثم دخل خليل أبو زيد بصحبة الأعيان لمحطة القطار متوجهين لرصيف المحطة ليستقلوا القطار، ووسط الزحام الشديد كأنه يوم الحشر، أعلن مستر ( فورد ) ناظر المحطة ( الإنجليزي ) بتعطل القطار المتجه لديروط.
قرر خليل أبو زيد ومن معه حين لم يجدوا حيلة أو حل لعطل القطار الذاهب لديروط أن ينتظروا قطار الإكسبريس القادم من الأقصر ليستقلونه إلى ديروط، لابد أن يتم اجتماع ديروط مهما كلف الأمر، كان عليهم الإنتظار لأكثر من ثلاث ساعات داخل المحطة، الأمر الذي جعل الخبر يتطاير كشظايا النار بين البيوت لتهب الناس من القرى والنجوع المجاورة بالمئات متوجهين لمحطة القطار تأييداً ودعماً لخليل أبو زيد ورجالة، احتشدت الناس وتوافدت حتى اصبح ميدان المحطة والمحطة نفسها ليسا فيهما موضعاً لقدم.
ظل خليل أبو زيد وابن عمه عبد الرحمن وجرجس حنا المحامي وعمدة منفلوط يخطبون في الناس حتى جاء قطار الإكسبريس في الساعة العاشرة، زحفت الناس بالمئات نحو عربات القطار تستقله على أمل حضور اجتماع ديروط، حتى أن سطح القطار لم يكن فيه شبراً واحداً ليجلس فيه رجل في حجم طفل، دخل خليل أبو زيد ومن معه القطار بصعوبة بالغة حتى أنهم هرعوا لعربة الطعام في القطار على أمل أن يجدوا فيها موضع قدم لهم حتى يصلوا ديروط، دخلوا عربة الطعام وكان آخرهم عمدة ملوي الذي أغلق باب العربة منعاً لزحف المتحمسين من الأهالي، وحينما استداروا داخل العربة وجدوا مالم يكن في حسبانهم على الإطلاق.
كان هناك ثمانية من الضباط الإنجليز في عربة الطعام يشهرون أسلحتهم في وجه خليل أبو زيد ومن معه وينظرون للموقف بأكمله بعين التوجس والريبة، شاحبي الوجوه وقد جزوا على نواجذهم وفي وضع الاستعداد لإطلاق الرصاص.
تحدث خليل أبو زيد للضباط الإنجليز بأن لايخافوا، فهم لم يستقلوا القطار ليقتلوهم، وبين المسافة من منفلوط وحتى ديروط تحدث معهم خليل أبو زيد كما كان يتحدث مع زملاءه الإنجليز في جامعة اوكسفورد عن ضرورة انهاء الاحتلال فوراً والافراج عن سعد زغلول بل وتحاور معهم عن حق مصر في أن تصبح جمهورية أو مملكة مستقلة تتمتع بما تتمتع به البلاد الحرة وقد عانت انجلترا في الحرب العظمى من فكرة استلاب حريتها ولكن بكفحها وكفاح الشعب الإنجليزي احرزوا الانتصار واستعادة حريتهم، لسنا أقل من الإنجليز.
لم يعجب هذا الكلام الكولونيل ( بوب ) وأخذ يتحدث باستعلاء وغطرسة مع خليل أبو زيد، هنا كان القطار قد وصل لمحطة ديروط وقد ملأ الغضب قلوب المصريين الجالسين في نفس العربة مع الإنجليز، حتى خليل أبو زيد نفسه كان غاضباً غضباً شديداً من ( بوب ) الضابط الإنجليزي.
كانت الجموع البشرية في محطة ديروط لا تقل زحاماً عن منفلوط في استقبال خليل أبو زيد ومن معه من أعيان الصعيد باللافتات والأعلام والهتاف لمصر وحين نزل خليل أبو زيد وأعيان الصعيد من القطار أخذتهم الناس بالأحضان بينما أعلنت صافرة المحطة بمغادرة قطار الإكسبريس محطة ديروط متوجهاً للقاهرة، وهنا قفز جرجس حنا مخاطباً في الناس بأن لايدعوا القطار يرحل، ثم نظر لخليل أبو زيد بينما ذهب ( عرفة الأشول ) وكان فلاح بسيط ممن آمنوا بأفكار خليل أبو زيد عن الحرية والاستقلال لغرفة قيادة القطار وسحب السائق الإنجليزي ومساعدة بالقوة خارج مقصورة القيادة، كانت الناس تنظر لخليل أبو زيد وهو يخطب في الناس بأن المصريين سيحصلون على حريتهم رغم أنف الإنجليز، سيحصلون على الحرية رغم أنف ملكة الإنجليز ذاتها، في هذه اللحظة صاح عبد الرحمن من شدة الغضب ومن شدة ما رآه من استعلاء كولونيل ( بوب ) بعربة الطعام في الجموع المحتشده أثناء خطاب خليل ابو زيد بأن المصريين يهتفون منذ زمن ولكن بلا أفعال ثورية حقيقية على أرض الواقع، يا أهل مصر عليكم أن تفعلوا اليوم ماكان يجب عليكم فعله منذ زمن فهاهو القطار يجلس فيه قائد انجليزي سليط اللسان لايريد لمصر خيراً، وقبل أن يكمل عبد الرحمن حديثه للجموع المحتشدة من حوله ونظراً لإيمان الناس بهؤلاء الرجال الذين رأوا فيهم رمزاً ونوراً للحرية والإستقلال هب الناس مندفعين صائحين لعربة الطعام بالقطار محاولين الفتك بالضباط الإنجليز، في هذه اللحظة كان ( عرفة ) أول من ترك مكانه قرب عربة القيادة مهرولا لعربة الطعام للثأر من الضباط الإنجليز، كانت الفلاحين تهرول في كل مكان تحاول الفتك بالضباط الأنجليز، كان الفلاحين فوق رصيف المحطة وعلى قضبان السكة وفوق القطار وتحت القطار، وهنا قفز السائق الإنجليزي إلى غرفة قيادة القطار وتحرك بالقطار في طريق ذهابه للقاهرة، فدهس العشرات وتمزقت أجساد العشرات من الفلاحين تحت عجلاته والمدهش أن في تطاير الأشلاء وبحار الدم التي مازال ( يفرمها ) القطار ( فرماً ) لم تنهزم عزيمة المصريين من الصعود للقطار والفتك بالضباط الأنجليز الذين لم تنفعهم أسلحتهم، وحين وصل القطار دير مواس كانت جموع الغاضبين قد قتلت كل الضباط الإنجليز ومزقتهم تمزيقاً عنيفاً، وتوقف القطار في دير مواس حيث ( خلع ) الفلاحون قضبان السكة الحديد لمنع وصول أي قطارات محملة بعساكر انجليز، وأخذوا ينقلون جثث الضباط من شبابيك القطار ومن بينها جثة بوب الضابط الإنجليزي وألقوها على الأرض، وأخذوا يهتفون: تحيا مصر، يحيا سعد، يسقط الإنجليز وكان ذلك في يوم 18 مارس 1919.
قبل أن يحل صباح اليوم التالي كانت دير مواس عبارة عن ثكنة عسكرية مملوءة بكل أنواع العساكر ، وقبل أن يحل مساء ذلك اليوم كان هناك ثلاثمائة وثلاثة وستون رجلاً قد تم ترحيلهم لسجن أسيوط العمومي من دير مواس فقط وعلى رأسهم الدكتور خليل أبو زيد وعبد الرحمن أبن عمه بتهمة التحريض ضد حكومة الملكة والعصيان المدني والإرهاب وقلب نظام الحكم والقتل العمد للضباط الإنجليز.
تم إعدام دكتور خليل أبو زيد وعبد الرحمن ابن عمه في يوم 17 يونيو 1919 الساعة السادسة صباحاً مع 47 مصرياً في سجن اسيوط العمومي، حيث أقام الأنجليز خمسون مشنقة في صفوف متراصة داخل ساحة السجن وأعدموا الجميع على المشانق في لحظة واحدة، وتم دفن 34 من هؤلاء الشهداء في مقبرة جماعية بينما تم تسليم جثة الشهيد الدكتور خليل أبو زيد وإبن عمه عبد الرحمن لأسرتيهما ليتم دفنهما بمدافن العائلة وتم مصادرة أملاكهما، المدهش أن خليل وابن عمه عبد الرحمن ولدا معاً في يوم واحد عام 1888 وتم إعدامها معاً في يوم واحد عام 1919، وعرفانا بجميل هؤلاء الثوار أصبحت تلك الحادثة النبيلة الوطنية عيداً قومياً لمحافظة المنيا.