الخميس، 14 نوفمبر 2002

كتاب بوش يخوض الحرب - تأليف: بوب وودوارد، عرض ومناقشة: محمد الخولي

mohi_ibraheem
بقلم: محيي الدين إبراهيم
في الساعة الثانية عشرة وست وثلاثين دقيقة، تكلم الرئيس بوش: اكتست عيناه هالات من الاحمرار ولم يكن في أدائه ما يبعث على الاطمئنان، وحين تكلم الرئيس كان مضطربا وكان يخطئ في تهجئة ونطق الكلمات، لكنه بدا كمن يستجمع رباطة جأشه !
هذا الكتاب.. صدر منذ أسابيع وما زال يحدث ضجة في أوساط السياسة ودوائر الاعلام في أميركا، وقد راجع بوب وودوارد محاضر ومذكرات أكثر من 50 اجتماعا لمجلس الأمن القومي، ويعد مؤلف الكتاب بوب وودوارد في طليعة الكتاب، المحققين ، الباحثين في الصحافة الأميركية، يرتبط اسمه بعدد من أهم الكتب السياسية التي قام بتأليفها أو شارك في اعدادها ابتداء من كتاب «كل رجال الرئيس» حول فضيحة ووترجيت (1974) الى كتاب «الحجاب» حول نشاط المخابرات المركزية الأميركية (1987) الى كتاب «القادة» (1991) حول ملابسات حرب الخليج الثانية. 
صباح الثلاثاء، الحادي عشر من سبتمبر، تناول السيناتور السابق رشفة من فنجان الشاي وسأل صديقه مدير المخابرات المركزية: ـ ترى ماذا يشغلك هذه الأيام؟ أجاب تينيت في كلمة واحدة: ـ ابن لادن. 
كان تينيت مشغولا بصاحب هذا الاسم على مدى العامين اللذين مضيا، ولدرجة أن تصور المحيطون به أن ابن لادن أصبح هاجسا كأنه وسواس تقمص عقل وفكر مدير المخابرات في واشنطن، وكان المدير يتوقع هجوما ارهابيا في كل لحظة يدبره ابن لادن، وقد خلص من واقع تجسسه على اتصالات دارت في صيف عام 2001 ـ وكان عدد الاتصالات بالتحديد هو 34 مخابرة ـ الى أن شيئا خطيرا في طريقه الى الحدوث، وكان المتوقع أن يحدث يوم 4 يوليو 2001 ـ يوم احتفالات أميركا السنوية بعيد استقلالها، لكن انقضت الاحتفالات وتوالت الأيام ولم يحدث شيء ولا بدت أخطار تلوح في الأفق ولا استطاعت دوائر الاستخبارات أن تحدد ماهية الخطر المتوقع ولا ظروف وقوعه لا من حيث المكان ولا من حيث الزمان. 
فجأة، شق عدد من حراس تينيت ـ بشكل غير مألوف ـ طريقهم الى مائدة مدير المخابرات المركزية ثم وقف أحدهم جامدا كتمثال ليقول: ـ سيادة المدير، ثمة مشكلة خطيرة. 
ـ تكلم. 
ـ مركز التجارة العالمي تعرض للهجوم. 
فيما طار تينيت بسيارته الى مقر وكالة المخابرات المركزية في ضاحية لانغلي قرب واشنطن، كان طبيعيا أن تستعرض ذاكرته شريط السنوات الخمس السابقة التي انشغلت فيها دوائر الاستخبارات والمباحث الأميركية بحكاية «أسامة بن لادن» وتنظيم «القاعدة»، ارتفعت حرارة هذا الانشغال بالذات في عام 1998 الذي شهد حادثة تفجير سفارتي أميركا في كينيا وتنزانيا، في ذلك الوقت أمر الرئيس كلينتون باطلاق 66 صاروخا لقصف معسكرات التدريب في أفغانستان حيث كان المعتقد أن ابن لادن يعقد اجتماعا فائق الأهمية، وجاء القصف بغير جدوى. 
وفي عام 1999 بدأت المخابرات الأميركية عملية سرية شملت تدريب 60 من أفراد الكوماندوز الذين اختيروا من المخابرات الباكستانية لتكليفهم بدخول أفغانستان والقبض على ابن لادن أسيرا، وطرحت عملية أخرى تهدف الى توقيفه على يد قوة أميركية خاصة محمولة على متن طائرات هليكوبتر قوامها 40 رجلا. 
اقترحوا أيضا عمليات أخرى ولكنها لم تصل الى نهايتها بسبب محاذير شتى من الفشل ومن الانكشاف وخاصة اذا ما وقعت خسائر بشرية في صفوف الأميركيين. 
ومن الأسرار التي ظلت حبيسة الصدور والملفات ذلك السر المتعلق بتجنيد 40 عميلا أفغانيا يشكلون مجموعة عمل تحمل اسم «سنيور» ويتكلفون عشرة آلاف دولار شهريا ويكلفون بتقصي آثار ابن لادن في أراضي أفغانستان وهم مزودون بما يلزم من سيارات ودراجات بخارية ـ والمدهش أن المجموعة المذكورة كانت تنجح في تحديد موقع وجود «المذكور» ولكنها لم تكن تنجح في تقديم معلومات حول فترة هذا الوجود بحيث يتم على أساسها التخطيط للقصف أو الهجوم. 
مع هذا كله فقد فشلت الاستخبارات المركزية في تجنيد عنصر بشري ـ جاسوس موثوق ضمن الدائرة المحيطة بابن لادن يمكن من خلاله التزويد بالمعلومات المطلوبة لمثل هذا القصف أو المداهمة أو الهجوم. 
لورا وتوكواز وتوينكل كان الرئيس بوش جالسا يقرأ سطورا من كتاب على مسامع أطفال في الصف الثاني بمدرسة ساروسوتا الابتدائية في فلوريدا حين أبلغه مستشاره كارل روف باصطدام طائرة مدنية بالمركز التجاري، ظن الرئيس أنها غلطة طيار، لكن ها هو رئيس ديوان البيت الأبيض أندرو كارد يقاطع رئيس الدولة ويهمس في أذنه قائلا: ـ طائرة ثانية صدمت البرج الثاني، أميركا تتعرض للهجوم. 
لقطة الكاميرا التي سجلت هذه اللحظة صورت رئيس أكبر دولة في العالم، شبك يديه في حجره، اكتسى وجهه بسحابة قاتمة كادت ملامحه تتجمد، وتشي بقدر ملحوظ من الارتباك وفي هذا يقول بوش (في تصريح سجله مؤلف الكتاب): ـ كان تفكيري هو: أنهم أعلنوا الحرب علينا وكان عزمي في تلك اللحظة أننا سوف نخوض غمار الحرب. 
في عصبية ظاهرة حرص رجال أمن البيت الأبيض على أن يتخذ الرئيس مكانه بأسرع ما يمكن على متن طائرة السلاح الجوي رقم واحد، وكان أول أوامره هو تأمين زوجته وابنتيه وبعد أن تحفظوا على لورا بوش في مكان أمين كانت مشكلتهم تتمثل في توكواز وتوينكل ـ وهما الاسمان الوهميان ـ الرمزيان لابنتي الرئيس بوش التوأم وحين حددوا مكان كل منهما وضعوا الأولى بربارا في مكتب المخابرات في نيوهافن شمالي ولاية نيويورك وتحفظوا على شقيقتها جينا في فندق ديرسكيل في أوستن ـ تكساس، وهي الولاية الأساسية لعائلة بوش بأكملها. 
تعكس وثائق تلك الساعات العصيبة ـ وبعضها تم اعلانه وبعضها مازال قيد السرية ـ قدرا واضحا من الفوضى والخلط والارتباك، كانت قد انقضت ثلاث ساعات ويزيد دون أن يسمع الناس خطابا أو تصريحا من الرئيس أو من أي مسئول كبير في الادارة بواشنطن. 
وفي الساعة الثانية عشرة وست وثلاثين دقيقة، تكلم الرئيس بوش: اكتست عيناه هالات من الاحمرار ولم يكن في ادائه ما يبعث على الاطمئنان (كانت طائرة ثالثة قد ضربت مباني وزارة الدفاع ـ البنتاغون)، وحين تكلم الرئيس كان مضطربا وكان يخطئ في تهجئة ونطق الكلمات، لكنه بدا كمن يستجمع رباطة جأشه ختام البيان المؤلف من 219 كلمة من البيان الذي كان يلقيه على مسامع الأمة والعالم وكان الختام بعبارة قال فيها: ـ سيرى العالم أننا سوف نجتاز الامتحان. 

في الثالثة والنصف عصرا انعقد أول اجتماع لمجلس الأمن القومي لبحث الهجوم الارهابي على الولايات المتحدة، لم يعقد الاجتماع كما هي العادة في قاعة البيت الأبيض، بل عقد في قاعدة جوية نائية بولاية نبراسكا، من جانبه أكد مدير المخابرات المركزية أنه يعتقد ـ بما يشبه اليقين ـ أن ابن لادن وراء الهجوم وأضاف أن راصدي الاتصالات بين أركان «القاعدة» أفادوا بأن عددا منهم، من المعروفين لدى دوائر الاستخبارات، تبادلوا التهاني بعد الهجوم، مع ذلك فقد ساد الاجتماع شعور بأن لا المخابرات المركزية ولا مكتب المباحث الفيدرالية كانا على مستوى الموقف، لا من حيث التوقعات ولا التحذيرات ولا موثوقية المعلومات، وربما لهذا السبب فقد بدأت المخابرات المركزية تموج بنشاط محموم وخاصة في مكتب مكافحة الارهاب ويتولى رئاسته جيمس بافيت الذي بعث الى مرؤوسيه المنتشرين في مكاتب الوكالة في أنحاء شتى من خريطة العالم برسالة سرية تحثهم على «مضاعفة جهودهم في جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات حول هذه المأساة»، واختتم رسالته بدعوة ضباط مخابراته الى أن يشاركوه في «صلاة صامتة من أجل الآلاف الذين لقوا حتفهم اليوم ومن أجل أحبائهم الذين باتوا وحيدين من بعدهم» (يلاحظ تكرار لجوء المسئولين الأميركيين الذين يعرض لهم هذا الكتاب الى الصلوات والأدعية في مناسبات متعددة وخاصة في مستهل ما يعقدونه من لقاءات واجتماعات). 
ميلاد مبدأ بوش في المساء قرر الرئيس بوش أن يلقي بياناً على الأمة، جاءه كبير كاتبي خُطبه، مايكل كارسون بمسودة البيان وكانت تحوي عبارات تقول: ـ «ليس هذا عملا من أعمال الارهاب بل عمل من أعمال الحرب». 
وكانت العبارات ـ كما توخى كاتبها المحترف ـ تعكس المزاج النفسي للرئيس بوش على نحو ما شهدته ساعات النهار ـ لكنه استدعى مستشارته الأقدم كارين هيوز قائلا: ـ احذفوا هذه العبارات من البيان. 
لماذا؟ لأنه يريد ألا يزيد الناس غمّا بل يود أن يبعث في أفئدتهم بشعور من الطمأنينة ثم كان هناك تغيير آخر، وكان تغييرا جذريا وخطيرا أيضا، مشروع البيان كان يحوي عبارات تقول: ـ إن الولايات المتحدة لن تميز بين الذين خططوا لتلك الأعمال (الارهابية) وبين الذين تسامحوا مع الارهابيين أو شجعوهم. 
كان جورج دبليو بوش قد استقر أخيرا في مكتب الرئاسة البيضاوي وحين راجع مشروع البيان، علق على هذه العبارات قائلا: ـ إنها شديدة الغموض. 
ثم اقترح استخدام تعبير «يؤوي» وهكذا أصبحت سطور البيان الرسمي الذي سمعه العالم تفيد بأن أميركا لن تفّرق بين الذين خططوا وبين الذين يؤوون الارهابيين. 
وجاءت تلك العبارة لتجسد ما أصبح يعرف بعد ذلك باسم «مبدأ بوش» وجاءت أيضا ـ في رأي مؤلف الكتاب ـ لتشكل «إلتزاما عميقا بشكل لا يصدق بملاحقة الارهابيين ومن يحتضنونهم ومن يحمونهم، وقد تم اتخاذ هذا القرار دون مشاورة تشيني نائب الرئيس ولا باول وزير الخارجية ولا رامسفيلد وزير الدفاع». 
المسئول الوحيد الذي تمت مراجعته كانت كوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي وهي ـ كما يصفها المؤلف ـ تتبع أسلوب عدم الزام نفسها بشئ إلا إذا تعرضت لضغط من جانب الرئيس، وقد بدأت بأن قالت له: ـ تستطيع أن تقول ذلك الآن، ولكن أمامك فرص أخرى لكي تقوله. 
لكنها عادت لتحّبذ اعلان «المبدأ» في المساء ذاته على أساس أن أول ما يقال هو الأنجع والأهم من حيث الفعالية وعمق التأثير. 
في أول اجتماع لكبار الوزراء بعد أحداث سبتمبر ثارت تساؤلات عديدة، وكان أغلبها من جانب وزير الدفاع رامسفيلد الذي جاء الى البيت الأبيض وفي جيبه قائمة من ورقة واحدة تحوي أسئلة محورية تطلب اجابات شافية من قبيل: من نستهدف؟، كم من القرائن نمتلك لكي نخوض حربا ضد «القاعدة»؟ ضمن أي فترة زمنية؟ هل سيشارك في ذلك حلفاء أميركا؟، الخ. 
قال مدير المخابرات: أن طالبان والقاعدة هما شيء واحد. 
قال وزير الحربية: علينا ألا نقتصر على استخدام أدوات الحرب بل نستخدم كل قدراتنا القومية القانونية والمالية والدبلوماسية والمخابراتية. 
عاد مدير المخابرات المركزية يقول: ـ على الرغم من أن تنظيم القاعدة يتخذ مقره في أفغانستان إلا أنه يعمل على مستوى العالم كله، وفي جميع القارات ومن ثم فأمامنا مشكلة 60 بلدا. 
قال الرئيس بوش: فلنلتقط كل بلد منها مرة على حدة. 
قال وزير الحربية إن المشكلة ليست ابن لادن أو القاعدة وحسب بل هي أيضا في الأقطار التي دعمت الارهاب. 
قال الرئيس: علينا أن نجبر الأقطار على الاختيار. 
وحين انفض الاجتماع، كان الرئيس الذي لم يجرب ولا تدرب في مضمار الأمن القومي على وشك أن يبدأ السير على طريق الحرب المعقد الطويل من دون أن يمتلك خريطة يعتد بها توضح معالم هذا الطريق. 
خطط أوسع نطاقاً في الحادية عشرة وثماني دقائق بالضبط من الليلة نفسها، اقتحم رجال الأمن مخدع الرئيس بوش في البيت الأبيض، أيقظوه مع قرينته وهرعوا لاصطحابهما الى الملجأ الآمن في المقر الرئاسي، السبب هو ان طائرة مجهولة بدت في تلك اللحظات المشحونة بالتوتر وكأنها تقصد تحديدا البيت الأبيض، كان الرئيس يرتدي شورت الركض وعليه قميص بسيط، وكانت السيدة بوش ترتدي الروب المنزلي وتتحرك بغير عدساتها اللاصقة وقد هرع في أثرهما كلباهما سبوت وبارني، وفي الممر الطويل المفضي الى الملجأ، التقيا بالمستشارة رايس وعدد من كبار موظفي الرئاسة، كان الجميع في سباق الى حيث مخبأ الأمان، ورغم أن الطائرة أمكن تحديد شخصيتها بعد أن أخطأ قائدها بغير قصد مساره الجوي، فقد أراد رجال الخدمة السرية أن يقضي الرئيس ليلته في الملجأ، ألقى الرئيس نظرة على السرير الصغير البسيط ثم أعلن أنه عائد الى السكن الرئاسي، وما أن بلغ جناحه حتى آثر أن يملي عبارات من مذكراته التي يحرص على تسجيلها أسوة بوالده الرئيس الأسبق، يومها أملى جورج دبليو بوش العبارة التالية على جهاز التسجيل: ـ اليوم، وقعت «بيرل هاربور» القرن الحادي والعشرين. 
الثامنة تماما من صباح اليوم التالي، 12 سبتمبر وصل جورج تينيت كعادته الى المكتب البيضاوي لتقديم موجز الاستخبارات اليومي الى الرئيس، كان الموجز يحوي استعراضا للمعلومات السرية المتاحة بشأن متابعة ابن لادن وكبار معاونيه، من هذه المعلومات تقرير من قندهار أوضح أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر كانت محصلة تخطيط دام عامين ومن هذه التقارير أيضا ما أفاد بأن أركان القاعدة قدموا شكرهم على الانفجار الذي أصاب مبنى الكونغرس، ولم يكن هذا صحيحا بطبيعة الحال. كان الرئيس بوش ينفذ تدريجيا داخل زوايا الصورة، كانت ادارة كلينتون السابقة قد بدأت عمليات سرية داخل أفغانستان وقدمت عدة ملايين من الدولارات لقوات التحالف الشمالي المعارض ـ وقتها ـ لنظام طالبان في العاصمة كابل، وكانت المخابرات المركزية تحتفظ بصلات أيضا مع زعماء القبائل في جنوبي أفغانستان وكان لها كذلك عدة فرق شبه عسكرية تدخل أفغانستان وتخرج منها لادارة هذا النوع من الاتصالات. 
لكن بعد الأحداث الجديدة، ها هو مدير المخابرات المركزية يطلب الى رئيسه أن يوافق على خطط أوسع نطاقا وأبعد مدى وأفدح من حيث التكاليف وها هو مؤلف الكتاب يختتم الفصل الثالث بعبارات تقول: من ناحية هذه التكاليف الباهظة فإن مدير المخابرات المركزية الأميركية لم يحدد رقما بعينه، فالعملية تكاد تصل من حيث الكلفة الى نحو مليار دولار. 
وهنا قال الرئيس بوش: لا عليك، نفّذ مهما كانت التكاليف!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق