الأربعاء، 27 أبريل 2011

نجيب محفوظ رجل الثورة الصامتة

بقلم: محيي الدين إبراهيم
كان يستمتع بمشاهدة الأطعمة الشعبية المصرية وباستنشاق رائحتها التي شبهها يوماً وكأنها النيل حينما تطالعك صفحة مياهه المقدسة،يذهب عنك الاكتئاب ولا يقفز في عقلك أثناء اندماجك معه إلا نسائم الإبداع من فضاءاتها الفسيحة الرحبة، هكذا الإحساس حين تخترق رائحة تلك الأكلات الشعبية وجدان نجيب محفوظ فتنتعش أصالته، حتى وإن كان ممنوعاً من تناولها بأمر الطبيب.


سيداتي آنساتي سادتي
رغم كل ما يجرى حولنا فإنني ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية. لا أقول مع الفيلسوف "كانت" إن الخير سينتصر في العالم الآخر. فإنه يحرز نصرا كل يوم. بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير. وأمامنا الدليل الذي لا يجحد. فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والأنانية. أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكون الأمم وتكتشف وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء وتعلن حقوق الإنسان: غاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره. وقد صدق شاعرنا أبو العلاء عندما قال :إن حـــزنا ســاعـة المـــوت أضعاف سرور ساعة الميلاد.
نجيب محفوظ ( معي ) وجمال الغيطاني والناقد توفيق حنا في مركب فرح بوت

بهذه الكلمات المعبرة أختتم نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا كلمته على لسان عائشة ابنته لجمهور المحتفلين به من جميع أنحاء العالم ليلة تسلمه جائزة نوبل عام 1988، وحيث كانت هناك مشكلة كبرى في أن كل مهتم بالأدب وقتها من الأجانب والغرب يجهل اسم نجيب محفوظ تماماً ولا يعلمه ولا يعرفه، لقد أضافت عليه تلك الجائزة شعبية عالمية في الخارج، توازي وربما أكثر من شعبيته في الداخل، الآن نجيب محفوظ قامة أدبية عالمية، ورواياته التي كتبها طوال عمره أصبحت تترجم إلى العديد من لغات العالم، ولا يحتاج المترجم الأجنبي أن يقول : الكاتب المصري، فقط يقول : نجيب محفوظ فيرى العالم في اسمه روح مصر. 
يبتسم نجيب محفوظ وهو يقول للمحيطين به في مركب فرح بوت على نيل القاهرة: لو كانت جائزة نوبل في حياة طه حسين ما كنت خرجت من بيتي ولا كنت تسلمتها، ثم يتذكر مداعباً ويقول: حين تقدمت في عام 1930م للدراسة في كلية الآداب، اخترت قسم الفلسفة، وكان في ذلك الحين الدكتور طه حسين هو عميد الكلية، كان يستقبل الطلاب الجدد بنفسه، ويتحاور معهم ليتأكد من خلال الحوار هل أحسنوا الاختيار بدخولهم الأقسام التي اختاروها في الكلية أم لا؟ وربما كان دافعه أن يوجههم للقسم المناسب إن كان أيا منهم – من وجهة نظر طه حسين طبعاً – لم يوفق في الاختيار الصحيح، وجاء دوري في الحوار وسألني العميد طه حسين عن سبب اختياري لقسم الفلسفة بكلية الآداب دون غيرها، فأخذت أعبر له عن رأيي في أسباب اختياري لقسم الفلسفة وأهميته و.. و.. و.. ، عندئذ قال لي د. طه حسين مداعبا، إنك حقا تصلح لدخول قسم الفلسفة، فكلامك غير مفهوم، ويضحك نجيب محفوظ ضحكة مجلجلة مازلت أتذكر رنين وقعها على أذني حتى اليوم وكأنه بهذه الضحكة التي يتميز بها وصارت داله على شخصه يشير للمحيطين به من بقايا الحرافيش القدامى ببدء المشاغبات، ضحكته المشاغبة الساحرة، كانت إذنا بحالة الشغب المثير والرائع بين كل فطاحل الثقافة والأدب والفن الذين يجلسون من حوله، هذا هو نجيب محفوظ ببساطته ومصريته، نموذج صادق لمعدن الإنسان الفطري في مشاعره الراقي بسمو في وعيه وحكمته وتفكيره.
في مساء (11 ديسمبر 1911م ) كانت زوجة عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا تعاني حالة ولادة متعثرة، ولم تستطع "الداية" فعل شيء إلا الاستنجاد بالزوج، الذي أسرع أحد أصدقائه بإحضار الدكتور "نجيب محفوظ" - الذي أصبح من أشهر أطباء النساء والتوليد في العالم- وأصر الأب على أن يسمي وليده باسم الدكتور القبطي الشهير" نجيب محفوظ".
كان نجيب أصغر الأبناء، لكنه عاش مع أبيه وأمه كأنه طفل وحيد؛ لأن الفارق الزمني بينه وبين أصغر إخوته كان لا يقل عن عشر سنوات، وكانوا كلهم رجالا ونساء قد تزوجوا وغادروا بيت العائلة، إلا أصغرهم الذي التحق بالكلية الحربية، ثم عمل بالسودان بعد تخرجه مباشرة، لذلك كانت علاقته بأمه علاقة وطيدة، وكان تأثيرها فيه عميقا، بعكس والده الذي كان طوال الوقت في عمله خارج البيت، وكان صموتا لا يتحدث كثيرا داخل البيت، ويصف نجيب والدته بأنها: "سيدة أمية لا تقرأ ولا تكتب، ومع ذلك كانت مخزنا للثقافة الشعبية.. وكانت تعشق سيدنا الحسين وتزوره باستمرار.. والغريب أن والدتي أيضا كانت دائمة التردد على المتحف المصري، وتحب قضاء أغلب 
الوقت في حجرة المومياوات.. ثم إنها كانت بنفس الحماس تذهب لزيارة الآثار القبطية خاصة دير "مار جرجس".. وكنت عندما أسألها عن حبها للحسين و"مار جرجس" في نفس الوقت تقول "كلهم بركة" وتعتبرهم "سلسلة واحدة".. والحقيقة أنني تأثرت بهذا التسامح الجميل لأن الشعب المصري لم يعرف التعصب، وهذه هي روح الإسلام الحقيقية".
في العشاء الشعبي الذي كانت تقيمه له دوما مركب فرح بوت ولأصدقائه، فول، بصارة، طحينة، زيتون مخلل، عيش، باذنجان مخلل، طعمية، شوربة عدس، وجميع أنواع السلطات إلى جانب الطورشي البلدي، كان يسعد كاتبنا الكبير بالمحيط الشعبي الذي يحيطه، كان لا يأكل بأمر الطبيب، لكنه كان يستمتع بمشاهدة الأطعمة الشعبية المصرية وباستنشاق رائحتها التي شبهها يوماً وكأنها النيل حينما تطالعك صفحة مياهه الحكيمة المقدسة،يذهب عنك الاكتئاب ولا يقفز في عقلك أثناء اندماجك معه في بورتريه خاص إلا نسائم الإبداع من فضاءاتها الفسيحة الرحبة، هكذا الإحساس حين تخترق رائحة تلك الأكلات الشعبية وجدان نجيب محفوظ فتنتعش أصالته، حتى وإن كان ممنوعاً من تناولها بأمر الطبيب.
قال له أحدهم وهو يداعبه: إذن فهي الشيخوخة يا نجيب بك، وليست حجة الطبيب.
فرد كاتبنا الكبير: الشيخوخة تنشد السلامة يا صديقي
وهنا دفعتني كلمته تلك إلى جملة قالها في أحدى رواياته والتي كان يرمي فيها إسقاطات سياسية رفيعة المستوى على ما آل عليه حكم البلاد في ذلك الوقت، صحت بفرح وقلت: "الشباب يبحث عن المغامرة والشيخوخة تنشد السلامة"، في أي رواية كتبت تلك العبارة؟
كنت أعلم أن نجيب محفوظ ثقيل السمع ولكن فوجئ الحاضرون أنه أسبق الناس إلى الإجابة بكلمة واحدة: ميرامار
وهنا صفق الجميع إذ أدهشهم أنه سمع الجملة وأجاب عليها قبلهم دون أن ينقلها له أحدهم بصوت مرتفع، يسمع كاتبنا إذن ما يريد أن يسمعه وتلك بادرة صحية، وهنا أدار كاتبنا وجهه بجديه شديدة إلى جموع الجالسين من حوله بعد أن انتصبوا بظهورهم قليلا بعيدا عن مائدة الطعام في انتباهه لما سيقوله، ووجدناه يقول: "ما جدوى الندم بعد الثمانين.."، وكأنه بهذه الجملة يلخص رواية ميرا مار بأكملها، ويسقط بجملته هذه نوعاً من الثورة ضد الواقع السياسي الذي يحياه الوطن الآن ونحن في معيته.
سألته مشاغباً - كما تعلمت فن المشاغبة الجميل والراقي من فطاحل الثقافة والفن والأدب المحيطين بنا في الجلسة - وقلت: ميرامار التي كان سيعتقلك عبد الناصر بسببها؟
ولكن كاتبنا كانت ملامح وجهه مازالت عابسة متجهمه وكان وكأنه ينظر إلى أعماقه، وكأنه ليس معنا، وهنا ردد عليه الجالس بجواره سؤالي بصوت مرتفع جداً، وهنا ضحك كاتبنا الكبير ضحكته المشاغبة الساحرة فعرفنا أنه عاد ثم قال: ليست ميرامار ولكنها ثرثرة فوق النيل، قرأها المشير عبد الحكيم عامر فقرر إعتقالي، تصور الرواية أنا كاتبها ضد الحكومة والنظام، ولكن الدكتور ثروت عكاشة – ربنا يحميه – جلس مع جمال عبد الناصر ونبهه : الرواية ليست ضد النظام، ولو إعتقلناه ياريس الناس مش هتسكت، ورجعت العربية بالعساكر قبل مايعتقلوني .. ربنا يحميه ثروت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق