‏إظهار الرسائل ذات التسميات سير وتراجم. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات سير وتراجم. إظهار كافة الرسائل

الاثنين، 26 ديسمبر 2011

محروس سليمان ومصريون أضاءوا وجه مصر

بقلم محيي الدين إبراهيم
aupbcmohi@gmail.com
أردف قائلا: الأهم من ذلك يا محيي محروس نفسه، محروس في الخطاب يحكي لي عن معاناته الإبداعية في ترجمة كتاب بالفرنسية عن شيخ الأزهر الشيخ حسن العطار أستاذ رفاعة الطهطاوي، ويتخلل الخطاب عدة شخصيات مصرية كثيرة شاركت بالفعل في صناعة فجر مصر.

لم يكن يتوقع الكاتب والمترجم المصري الكبير محروس سليمان صاحب أهم الترجمات العربية للكتب الأجنبية التي تلقي بكثير من الضوء على مجتمعاتنا العربية وجذورها وتاريخها، وعلى رأسها كتاب الجذور الإسلامية للرأسمالية للكاتب الأميركي بيتر جران، أكرر انه لم يكن يتوقع أن خطاباً يكتبه لصديق عمره الكاتب والناقد المصري الكبير توفيق حنا في نوفمبر عام 1996 بأنه سوف يتم نشره في عام 2011 ، ولكن هي الأقدار دوما حين تمنحنا بصيص نور فتدفعنا من خلاله ودون عناء للعثور على مثل هكذا خطاب شخصي بين صديقين شاركا بالفعل في صناعة فجر مصر الجديد لنجد فيه ومن خلال عفوية الكتابة بداخله لكونها عفوية الحب بين صديق وصديق، إثبات حالة تاريخية على مصريين انتموا بكل ما يمتلكونه من طاقة لمصر، فأحبوها وأحبتهم، بحثوا في كنوزها فأعطتهم من بهائها، آمنوا بها ومن ثم لم يولوا وجوههم شطر طائفة أو قبيلة أو مذهب، بل ولوا وجوههم شطرها، شطر وجه مصر، مصر درة تاج الكون، مصر التي إن أحبها أحد كتبت له الشهرة وكتب له الخلود، مصر الوطن، أم العجائب وحيث أهم عجائبها الكونية أنها إذا تغيرت تغير العالم وإذا أضاءت، تضئ الدنيا وتلمع.
كان ذلك في احد أيام شهر مايو 2011 حينما كنت أتحدث مع الأستاذ توفيق حنا عبر التليفون، والأستاذ توفيق حنا لمن لا يعرفه هو أحد أعمدة النقد في مصر وهو أول من قام بنقد أعمال نجيب محفوظ حيث كان صديقه الحميم وكذا هو أستاذ عمالقة كبار على رأسهم الشاعر الكبير "أمل دنقل" والشاعر الكبير " عبد الرحمن الأبنودي" وغيرهم وهو أول من قدمهما لساحة الثقافة العربية وهم في حداثة أعمارهم، منذ أن كانوا صغارا في مدارس محافظة قنا الابتدائية هذا على سبيل المثال لا الحصر، أقول أنه حينما كنت أتحدث مع الأستاذ توفيق حنا عبر التليفون دائما ما يجمعنا الحوار حول حب مصر، ولا أدري كيف صار بيننا هذا الدستور القوي الذي يحكم علاقتنا منذ زمن بحيث تهيمن علينا وعلى أحاديثنا .. مصر، فنذهب سويا ( هو وأنا ) في غيبوبة عشق مصرية بين حواريها وموالدها ومقاهيها وفدادين قراها ونجوعها.
قال لي: تصدق يا محيي!! .. عثرت اليوم على خطاب قديم أرسله لي صديقي محروس سليمان عام 96، خطاب ذكرني بمصر، مصر الأخرى، ذكرني بشوارعها وناسها الطيبين، ذكرني أيضا ( بقهوة الزلع ) في باب الخلق حينما كان يأتي الكاتب الكبير صلاح عبد الصبور – وكان وقتها مدرسا للغة العربية في إحدى مدارس القاهرة - ليقرأ لنا ملحمته الرائعة الفتى زهران، ثم انتبه الأستاذ توفيق وأردف قائلا: الأهم من ذلك يا محيي محروس نفسه، محروس في الخطاب يحكي لي عن معاناته الإبداعية في ترجمة كتاب بالفرنسية عن شيخ الأزهر الشيخ حسن العطار أستاذ رفاعة الطهطاوي، ويتخلل الخطاب عدة شخصيات مصرية كثيرة شاركت بالفعل في صناعة فجر مصر منهم على سبيل المثال ما ورد في الخطاب، صبحي شكري مدير تحرير جريدة وطني و الحسيني عطا، وغيرهم، وهنا وجدت نفسي مدفوعا لأن اطلب من الأستاذ توفيق إرسال هذا الخطاب لي، ليس لقراءته فحسب بل لأشارك في تعميمه لإيماني بأنه عينة عشوائية صالحة تبرهن على مدى إخلاص أبناء مصريون مبدعون في حب مصر بصمت جاد معطاء وحيث لم يكن حوار هؤلاء عبث، أو أحاديثهم أو حتى مشاغباتهم فارغة، بل كانوا قامات عالية تدفعنا لان نتأملهم وننصت ونتعلم كيف يكون الحب لمصر والوطن، وكأنهم في صلاه بقدس أقداس هذا البلد الطيب. ولنقرأ الخطاب.
عزيزي توفيق: سعدت كثيرا بقراءة خطابك مرات ، لقد التقيت بصديقنا العزيز صبحي شكري إلا ""وهرينا فروتك" بكل الخير طبعا فأنت الصديق الوفي والمصري المثالي في كرم أخلاقك وودك في علاقاتك مع الجميع. ولازلت أحس واشعر كيف كنت في جلساتك معنا تخص جميع الأصدقاء بأحاسيس الود والحب في صدق وبساطه، وهذه سجيتك كمصري أصيل. هل تذكر لقاءات باب الخلق في قهوة "الزلع" في الخمسينات عندما كان يتجمع عدد كبير من الأصدقاء، وكنا ننتقل فى الشتاء وخصوصا فى رمضان إلى الفيشاوي. أنها ايام ولت ولكنها لا تنسى وأصبحت من ذكريات الماضي الجميل. هل تذكر الشاب الهادئ الرقيق المشاعر صلاح عبد الصبور الذى امتعنا بزيارتنا فى قهوة الزلع وقرأ علينا قصيدته الخالدة "الفتى زهران" وكان لايزال مدرسا واظنه كان زميلا للشيخ كامل ابو العينين فى مدرسته ولم يعرف بعد على النطاق العام كشاعر مرموق؟ إنها الذكريات الجميلة التي تختزنها الذاكرة.
أما حبك للخريف حتى في أمريكا لعل ذلك راجع لحبك لخريف مصر فى الاصل فهو امتع فصول السنة كما تعلم، ولكن اين الرفقه من الأحباب والأصدقاء؟ فقد انفرط العقد. هل نطمع ان نراك هذا الشتاء اذا سنحت ظروفك فأديب ديميتري عازم على النزول من فرنسا لزيارة مصر خلال ديسمبر القادم او يناير، واذا سمحت ظروفك فسوف نسعد بلقائك كثيرا.
شكرا لاهتمامك بقلقى بشأن هجرة الابناء وللعلم انا متفق تماما مع رأيك فقط اطلب من الابناء قبل الهجرة ان يفكروا كثيرا وبأناه وعن ابنى وسيم فهو يريد الهجرة الى نيوزيلاندا وهى بلد صغيره سكانه نحو ثلاثة ملايين امكانياتها الاقتصاديه محدوده. استراليا اكثر تطورا منها. وهذه الظروف يمكن ان تكون ميزة لمجتمع هادئ ولكن هل هذا المجتمع يوفر فرص عمل مناسبه له كمهندس علما ايضا ان زوجته موفقه فى عملها كمقدمة برامج بـ N.T.V ولن تجد مثل هذا العمل هناك وهى لاتستطيع ان تكف عن العمل وهذه فى حد ذاتها مشكله. على اية حال هذه حياتهم والقرار لهم اولا واخيرا ونرجوا التوفيق لجميع الشباب وكما تعلم الظروف في مصر صعبه إلى حد ما.
اما عنى فأنا مثلك فلولا القراءه لأصبت بالامراض وقراءاتى متنوعه مع التركيز على الاجتماع السياسى والسياسة ومتابعة السياسة العالميه.
وقد اعجبنى خلال قراءاتى كتاب لأستاذ اكاديمى امريكى هو "بيتر جران" واسم الكتاب "الجذور الاسلاميه فى الرأسماليه – مصر 1760- 1840" وللمؤلف وجهة نظر جديدة الى حد كبير فهو يرى ان بداية النهضة المصرية ليست بمجيء الحمله الفرنسيه او حكم محمد على بل يرجع ذلك الى فترة اسبق فى القرن الثامن عشر "عهد على بك الكبير" ثم تعرضت لفترة جمود حتى مجئ الحمله التى لاينكر المؤلف اثرها لكنها ليست المؤثر الاساسى ثم تعود حركة النهضه تتابع تقدمها فى عهد محمد على. والكتاب مرجع كبير الحجم ورجع المؤلف للبرهنه على نظريته الى كيف التراث فى تلك الفتره بل قرأ المخطوطات وعاش فى القاهره خمس سنوات لجمع الماده واستغرق الكتاب نحو عشر سنوات او اكثر. وقد درس الفتره التى تناولها من جميع الزوايا الثقافية والعملية بكل فروعها تفصيليا وجوانبها الماديه والاقتصاديه والاجتماعيه. وتناول بالدراسه التفصيليه شخصية الشيخ حسن العطار استاذ رفاعه الطهطاوى لان هذا الشيخ عاصر حركة النهوض فى القرن الثامن عشر وامتد به العمر الى عصر محمد على (توفى 1830) وشارك فى النهضه فى مرحلتها الاولى ومرحلتها الثانيه وهذا هو سبب اختيار المؤلف له.
على اية حال لقد ترجمت هذا العمل الهام فى تقديرى بكل استمتاع واهتمام فمثلا سافرت الى سوهاج للحصول على مخطوط من مكتبة رفاعه الطهطاوى.
اما الآن فقد اقتربت من الانتهاء من ترجمة كتاب من تأليف عدد من الاكاديميين الامريكيين واسمه "الاسلام والسياسه والحركات الاجتماعيه" والملفت للنظر ان اكثر من 90% من مؤلفات علماء الاجتماع والاجتماع السياسي والتاريخ فى امريكا تتناول بشكل مباشر او غير مباشر الحركات الاسلاميه. ويتناول هذا الكتاب الفترة الاخيره من القرن التاسع عشر ثم القرن العشرين فى مصر والشمال الافريقى مع التركيز على الجزائر وشمال نيجيريا والسودان والثورة الفلسطينية والثورة الايراينة والمسلمون فى الهند وباكستان. ولكن المشكلة تكمن في اين نجد الناشر الذى يهتم بنشر مثل هذه الاعمال الجاده والاكاديميه لأن الأربح للأسف هذه الأيام هي الكتب الساقطة السوقيه الضاره وكتب الجنس ويلى ذلك الكتب الاخرى. على اى حال اننى اشغل وقتى بطريقه مفيده واستمتع بهذا النشاط كما احاول افادة الاخرين قد طاقتى.
اشكرك ياصيدقى العزيز من كل القلب على ردك الفورى ويسعدنى دائما ان احظى بقراءة خطاباتك بانتظام.
الصديق صبحى شكرى بخير والصديق الحسينى عطا يبعث لك بتحياته وسلامه.
ختاما لك حبى وودى من كل القلب.
والى اللقاء فى خطاب قادم.
3 / 11 / 1996
أخوك محروس سليمان

محروس سليمان ومصريون أضاءوا وجه مصر

بقلم محيي الدين إبراهيم
aupbcmohi@gmail.com
أردف قائلا: الأهم من ذلك يا محيي محروس نفسه، محروس في الخطاب يحكي لي عن معاناته الإبداعية في ترجمة كتاب بالفرنسية عن شيخ الأزهر الشيخ حسن العطار أستاذ رفاعة الطهطاوي، ويتخلل الخطاب عدة شخصيات مصرية كثيرة شاركت بالفعل في صناعة فجر مصر.

لم يكن يتوقع الكاتب والمترجم المصري الكبير محروس سليمان صاحب أهم الترجمات العربية للكتب الأجنبية التي تلقي بكثير من الضوء على مجتمعاتنا العربية وجذورها وتاريخها، وعلى رأسها كتاب الجذور الإسلامية للرأسمالية للكاتب الأميركي بيتر جران، أكرر انه لم يكن يتوقع أن خطاباً يكتبه لصديق عمره الكاتب والناقد المصري الكبير توفيق حنا في نوفمبر عام 1996 بأنه سوف يتم نشره في عام 2011 ، ولكن هي الأقدار دوما حين تمنحنا بصيص نور فتدفعنا من خلاله ودون عناء للعثور على مثل هكذا خطاب شخصي بين صديقين شاركا بالفعل في صناعة فجر مصر الجديد لنجد فيه ومن خلال عفوية الكتابة بداخله لكونها عفوية الحب بين صديق وصديق، إثبات حالة تاريخية على مصريين انتموا بكل ما يمتلكونه من طاقة لمصر، فأحبوها وأحبتهم، بحثوا في كنوزها فأعطتهم من بهائها، آمنوا بها ومن ثم لم يولوا وجوههم شطر طائفة أو قبيلة أو مذهب، بل ولوا وجوههم شطرها، شطر وجه مصر، مصر درة تاج الكون، مصر التي إن أحبها أحد كتبت له الشهرة وكتب له الخلود، مصر الوطن، أم العجائب وحيث أهم عجائبها الكونية أنها إذا تغيرت تغير العالم وإذا أضاءت، تضئ الدنيا وتلمع.
كان ذلك في احد أيام شهر مايو 2011 حينما كنت أتحدث مع الأستاذ توفيق حنا عبر التليفون، والأستاذ توفيق حنا لمن لا يعرفه هو أحد أعمدة النقد في مصر وهو أول من قام بنقد أعمال نجيب محفوظ حيث كان صديقه الحميم وكذا هو أستاذ عمالقة كبار على رأسهم الشاعر الكبير "أمل دنقل" والشاعر الكبير " عبد الرحمن الأبنودي" وغيرهم وهو أول من قدمهما لساحة الثقافة العربية وهم في حداثة أعمارهم، منذ أن كانوا صغارا في مدارس محافظة قنا الابتدائية هذا على سبيل المثال لا الحصر، أقول أنه حينما كنت أتحدث مع الأستاذ توفيق حنا عبر التليفون دائما ما يجمعنا الحوار حول حب مصر، ولا أدري كيف صار بيننا هذا الدستور القوي الذي يحكم علاقتنا منذ زمن بحيث تهيمن علينا وعلى أحاديثنا .. مصر، فنذهب سويا ( هو وأنا ) في غيبوبة عشق مصرية بين حواريها وموالدها ومقاهيها وفدادين قراها ونجوعها.
قال لي: تصدق يا محيي!! .. عثرت اليوم على خطاب قديم أرسله لي صديقي محروس سليمان عام 96، خطاب ذكرني بمصر، مصر الأخرى، ذكرني بشوارعها وناسها الطيبين، ذكرني أيضا ( بقهوة الزلع ) في باب الخلق حينما كان يأتي الكاتب الكبير صلاح عبد الصبور – وكان وقتها مدرسا للغة العربية في إحدى مدارس القاهرة - ليقرأ لنا ملحمته الرائعة الفتى زهران، ثم انتبه الأستاذ توفيق وأردف قائلا: الأهم من ذلك يا محيي محروس نفسه، محروس في الخطاب يحكي لي عن معاناته الإبداعية في ترجمة كتاب بالفرنسية عن شيخ الأزهر الشيخ حسن العطار أستاذ رفاعة الطهطاوي، ويتخلل الخطاب عدة شخصيات مصرية كثيرة شاركت بالفعل في صناعة فجر مصر منهم على سبيل المثال ما ورد في الخطاب، صبحي شكري مدير تحرير جريدة وطني و الحسيني عطا، وغيرهم، وهنا وجدت نفسي مدفوعا لأن اطلب من الأستاذ توفيق إرسال هذا الخطاب لي، ليس لقراءته فحسب بل لأشارك في تعميمه لإيماني بأنه عينة عشوائية صالحة تبرهن على مدى إخلاص أبناء مصريون مبدعون في حب مصر بصمت جاد معطاء وحيث لم يكن حوار هؤلاء عبث، أو أحاديثهم أو حتى مشاغباتهم فارغة، بل كانوا قامات عالية تدفعنا لان نتأملهم وننصت ونتعلم كيف يكون الحب لمصر والوطن، وكأنهم في صلاه بقدس أقداس هذا البلد الطيب. ولنقرأ الخطاب.
عزيزي توفيق: سعدت كثيرا بقراءة خطابك مرات ، لقد التقيت بصديقنا العزيز صبحي شكري إلا ""وهرينا فروتك" بكل الخير طبعا فأنت الصديق الوفي والمصري المثالي في كرم أخلاقك وودك في علاقاتك مع الجميع. ولازلت أحس واشعر كيف كنت في جلساتك معنا تخص جميع الأصدقاء بأحاسيس الود والحب في صدق وبساطه، وهذه سجيتك كمصري أصيل. هل تذكر لقاءات باب الخلق في قهوة "الزلع" في الخمسينات عندما كان يتجمع عدد كبير من الأصدقاء، وكنا ننتقل فى الشتاء وخصوصا فى رمضان إلى الفيشاوي. أنها ايام ولت ولكنها لا تنسى وأصبحت من ذكريات الماضي الجميل. هل تذكر الشاب الهادئ الرقيق المشاعر صلاح عبد الصبور الذى امتعنا بزيارتنا فى قهوة الزلع وقرأ علينا قصيدته الخالدة "الفتى زهران" وكان لايزال مدرسا واظنه كان زميلا للشيخ كامل ابو العينين فى مدرسته ولم يعرف بعد على النطاق العام كشاعر مرموق؟ إنها الذكريات الجميلة التي تختزنها الذاكرة.
أما حبك للخريف حتى في أمريكا لعل ذلك راجع لحبك لخريف مصر فى الاصل فهو امتع فصول السنة كما تعلم، ولكن اين الرفقه من الأحباب والأصدقاء؟ فقد انفرط العقد. هل نطمع ان نراك هذا الشتاء اذا سنحت ظروفك فأديب ديميتري عازم على النزول من فرنسا لزيارة مصر خلال ديسمبر القادم او يناير، واذا سمحت ظروفك فسوف نسعد بلقائك كثيرا.
شكرا لاهتمامك بقلقى بشأن هجرة الابناء وللعلم انا متفق تماما مع رأيك فقط اطلب من الابناء قبل الهجرة ان يفكروا كثيرا وبأناه وعن ابنى وسيم فهو يريد الهجرة الى نيوزيلاندا وهى بلد صغيره سكانه نحو ثلاثة ملايين امكانياتها الاقتصاديه محدوده. استراليا اكثر تطورا منها. وهذه الظروف يمكن ان تكون ميزة لمجتمع هادئ ولكن هل هذا المجتمع يوفر فرص عمل مناسبه له كمهندس علما ايضا ان زوجته موفقه فى عملها كمقدمة برامج بـ N.T.V ولن تجد مثل هذا العمل هناك وهى لاتستطيع ان تكف عن العمل وهذه فى حد ذاتها مشكله. على اية حال هذه حياتهم والقرار لهم اولا واخيرا ونرجوا التوفيق لجميع الشباب وكما تعلم الظروف في مصر صعبه إلى حد ما.
اما عنى فأنا مثلك فلولا القراءه لأصبت بالامراض وقراءاتى متنوعه مع التركيز على الاجتماع السياسى والسياسة ومتابعة السياسة العالميه.
وقد اعجبنى خلال قراءاتى كتاب لأستاذ اكاديمى امريكى هو "بيتر جران" واسم الكتاب "الجذور الاسلاميه فى الرأسماليه – مصر 1760- 1840" وللمؤلف وجهة نظر جديدة الى حد كبير فهو يرى ان بداية النهضة المصرية ليست بمجيء الحمله الفرنسيه او حكم محمد على بل يرجع ذلك الى فترة اسبق فى القرن الثامن عشر "عهد على بك الكبير" ثم تعرضت لفترة جمود حتى مجئ الحمله التى لاينكر المؤلف اثرها لكنها ليست المؤثر الاساسى ثم تعود حركة النهضه تتابع تقدمها فى عهد محمد على. والكتاب مرجع كبير الحجم ورجع المؤلف للبرهنه على نظريته الى كيف التراث فى تلك الفتره بل قرأ المخطوطات وعاش فى القاهره خمس سنوات لجمع الماده واستغرق الكتاب نحو عشر سنوات او اكثر. وقد درس الفتره التى تناولها من جميع الزوايا الثقافية والعملية بكل فروعها تفصيليا وجوانبها الماديه والاقتصاديه والاجتماعيه. وتناول بالدراسه التفصيليه شخصية الشيخ حسن العطار استاذ رفاعه الطهطاوى لان هذا الشيخ عاصر حركة النهوض فى القرن الثامن عشر وامتد به العمر الى عصر محمد على (توفى 1830) وشارك فى النهضه فى مرحلتها الاولى ومرحلتها الثانيه وهذا هو سبب اختيار المؤلف له.
على اية حال لقد ترجمت هذا العمل الهام فى تقديرى بكل استمتاع واهتمام فمثلا سافرت الى سوهاج للحصول على مخطوط من مكتبة رفاعه الطهطاوى.
اما الآن فقد اقتربت من الانتهاء من ترجمة كتاب من تأليف عدد من الاكاديميين الامريكيين واسمه "الاسلام والسياسه والحركات الاجتماعيه" والملفت للنظر ان اكثر من 90% من مؤلفات علماء الاجتماع والاجتماع السياسي والتاريخ فى امريكا تتناول بشكل مباشر او غير مباشر الحركات الاسلاميه. ويتناول هذا الكتاب الفترة الاخيره من القرن التاسع عشر ثم القرن العشرين فى مصر والشمال الافريقى مع التركيز على الجزائر وشمال نيجيريا والسودان والثورة الفلسطينية والثورة الايراينة والمسلمون فى الهند وباكستان. ولكن المشكلة تكمن في اين نجد الناشر الذى يهتم بنشر مثل هذه الاعمال الجاده والاكاديميه لأن الأربح للأسف هذه الأيام هي الكتب الساقطة السوقيه الضاره وكتب الجنس ويلى ذلك الكتب الاخرى. على اى حال اننى اشغل وقتى بطريقه مفيده واستمتع بهذا النشاط كما احاول افادة الاخرين قد طاقتى.
اشكرك ياصيدقى العزيز من كل القلب على ردك الفورى ويسعدنى دائما ان احظى بقراءة خطاباتك بانتظام.
الصديق صبحى شكرى بخير والصديق الحسينى عطا يبعث لك بتحياته وسلامه.
ختاما لك حبى وودى من كل القلب.
والى اللقاء فى خطاب قادم.
3 / 11 / 1996
أخوك محروس سليمان

الثلاثاء، 20 ديسمبر 2011

نجيب محفوظ في ذكراه .. مبدع لا يعرف الرذيلة

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
لقد كان نجيب محفوظ ثائرا، كان أفضل من دافع عن ثورة 1919، وكان يعجب كثيرا بشخصية زعيم الأمة سعد زغلول. أما بالنسبة لثورة 1952، فرغم ترحيبه بها في البداية، إلا أنه انتقدها بشدة حين انحرفت التجربة الثورية عن الشعارات التي أعلنتها وظهرت فجوة عميقة بين النظرية الثورية التي آمن بها الثوار وبين تطبيقهم لهذه النظرية على أرض الواقع.
يبدو أننا أمة تأكل أبناءها، تدرك قيمتنا كل الأمم التي وصلت من العلم قمته أما نحن فكما يقول المثل ( مزمار الحي لا يُطرب) أو كما قال الشيخ تاج الدين الحسني أحد علماء دمشق المشهورين: أزهد الناس بالعلماء أهلهم وجيرانهم.
هذا ما يحدث لنا الآن في مصر تجاه غالب رموزنا التي ملأت العقل الإنساني عامة والعربي خاصة بنور المعرفة، لدرجة أصبحت فيها الفوضى لا تفرق بين ما هو أبيض وبين ما هو أسود، لا تفرق بين الطيب والخبيث، من يضئ النفس بالجمال وبين ما يجرحها بالقبح، هذا ما يحدث اليوم مع نجيب محفوظ الذي اتهمه بعض الرموز الهامة في مصر بأن أدبه يحث على الرذيلة! .. لماذا يحث على الرذيلة؟ فكان الجواب لأنه لا يهتم إلا بالعاهرات!.
نجيب محفوظ الذي خالط الصعاليك والحرافيش وغالب المطحونين والمستضعفين، وكتب عن الفقراء وسكان العشش والحواري، ودافع عن كرامة المصري ضد كل ظلم وقع عليه سواء كان واقعا من محتل انجليزي أو من حاكم مستبد!، نجيب محفوظ الذي وقف ضد قتل أحلام البسطاء وقهر الشباب وتجبر الدولة الأمنية في كل رواياته 33 رواية و19 مجموعة قصصية ابتداء من رواية كفاح طيبة (1944)، والقاهرة 30 (1945)، مروراً بالثلاثية العبقرية بين القصرين (1956)، قصر الشوق (1957)، السكرية (1957)، واللص والكلاب (1961)، وثرثرة فوق النيل (1966)، وميرامار (1967)، و الكرنك (1974)، وانتهاءً بأحلام فترة النقاهة (2004).
روايات أقرب للوثيقة التاريخية التي توثق ظرف المكان وظرف الزمان للمجتمع المصري، روايات لن تسع عقول النقاد تفنيد وطنيتها ومصريتها وانتمائها للأرض والنيل، وأذكر قديما وكنت طالباً بالمرحلة الإعدادية ولا أمتلك سوى بساطة الإدراك وطفولة العقل أن شاهدت فيلم الكرنك مع والدي في سينما "ريفولي" بالقاهرة عام 1975، وقد كان والدي – رحمه الله وهو من علماء الأزهر ودكتور في الشريعة - يحترم نجيب محفوظ ويحافظ بقدر الإمكان على متابعة كل أعماله وحتى مقالاته في جريدة الأهرام، يومها وداخل صالة العرض لاحظت تأثر أبي الشديد، كان الفيلم صدمة شديدة لجرأته السياسية والاجتماعية، ففي ظل تكميم الأفواه يخرج علينا نجيب محفوظ ليسرد لنا صارخاً وقائع الظلم والتعذيب وقهر الحاكم لشعب لا يستحق إلا كل احترام وتوقير، يسرد لنا صارخا وقائع ما كنا نحياه من غيبوبة تحت وهم الحرية والكرامة وأرفع رأسك يا أخي، كان يحكي لنا نجيب محفوظ ظلم الحاكم والدولة على المحكومين من أهل الوطن في فترة لم يجرؤ فيها غيره على التفوه بها، كان جريئا وعنيداً، وهنا يقول لي والدي رحمه الله: لولا نجيب محفوظ ومن هم مثله من كتابنا العظام لعاش الناس في وطننا عيشة البهائم، لا يملكون من أمر دنياهم إلا ما يأكلونه ويشربونه ولا إدراك لهم عن معنى الحرية والكرامة والعدل، فقلت لوالدي محاولاً قنص تعاطفه تجاهي وأنا ألمح مدى التأثر البادي عليه ولا أفهمه: أنا أيضا أحب نجيب محفوظ، وبينما نحن سائران لميدان العتبة لنستقل الأوتوبيس عائدين للمنزل بعد خروجنا من السينما التي كنا نراعي الذهاب إليها أول كل جمعة في أول كل شهر، وجدت أبي يصدق على كلامي متمتماً: محفوظ راجل عظيم.
ينتابني إيمان بأن من قرأ أولاد حارتنا قرأها وهو يحمل ضغينة مسبقاً لنجيب محفوظ ولم يفهم إشارته الأدبية والإنسانية بها وكأنه لم يكتب سواها ففهمها بحجم وعيه لا بحجم وعيها ومن ثم حكم عليها وعليه بالكفر، رغم أن هذه الرواية وكما يقول الدكتور جابر عصفور, وزير الثقافة الأسبق: "إن دار الشروق أعلنت في مطلع 2006 أنها ستنشر الرواية بمقدمة للكاتب الإسلامي أحمد كمال أبو المجد. ونشرت بالفعل مقدمة أحمد كمال أبو المجد التي أطلق عليها "شهادة" في بعض الصحف لكن الرواية نفسها لم تصدر إلى الآن"، وربما تذكرني حادثة التكفير تلك بحادثة أخرى مثيرة للاهتمام حدثت في أواخر السبعينيات وكنا طلبة بالمرحلة الثانوية أو ربما في أوائل المراحل الجامعية حينما اصدر مجلس الشعب المصري قرارا بحظر بيع ونشر وتداول كتب العلاّمة " محيي الدين بن عربي" لأن مؤلفاته تدفع بقارئها إلى الكفر و صاحبها كافر، كنت وقتها لم أقرأ لمحيي الدين بن عربي، ولكني كنت أعرف أنه من عباقرة عصره بل ومن أكابر المفكرين الإسلاميين، ورجعت إلى والدي أسأله لكونه حجة في ذلك: هل محيي الدين بن عربي كافر؟، فأجاب إجابة عجيبة قال فيها: مشكلتنا أننا نظن أنه مادمنا نستطيع القراءة فأنه باستطاعتنا الفهم، ومن قرأ لأبن عربي واتهمه بالكفر هو رجل محدود الوعي، ولا يؤمن أن وعيه وفهمه محدود، بل يرى أنه مبعوث العناية الإلهية للحكمة والمعرفة، ومن ثم يظن بوعيه المحدود هذا أنه القاضي العدل في الحكم على العلماء الكبار، هذا مؤمن وهذا كافر، ثم أردف قائلا: مصيبتنا يا بني أننا مجتمع جاهل، يلتهم علمائه كما تلتهم النار في لحظات فدادين القمح، فيحترق كل شئ ومن بقى بعد الحريق على قيد الحياة لن ينجو من الموت جوعاً بعد أن احترقت سنابل الخير.
لقد كان محفوظ ثائرا، كان أفضل من دافع عن ثورة 1919، وكان يعجب كثيرا بشخصية زعيم الأمة سعد زغلول. أما بالنسبة لثورة 1952، فرغم ترحيبه بها في البداية، إلا أنه انتقدها بشدة حين انحرفت التجربة الثورية عن الشعارات التي أعلنتها وظهرت فجوة عميقة بين النظرية الثورية التي آمن بها الثوار وبين تطبيقهم لهذه النظرية على أرض الواقع والتي انتهت بمراكز القوى والسحل وانتهاك الأعراض والقتل والسجون، وهنا كتب محفوظ رواية "أولاد حارتنا" وهي الرواية التي عاد بها إلى الكتابة في 1959، وكأنه كان يحذر فيها رجالات ثورة يوليو وأعوانهم بل ويحذر فيها الشعب نفسه، ولكن هذه الرواية "أولاد حارتنا" شكلت محطة ومنعطفا مثيراً في أعمال محفوظ لكثر ما أثير حولها من لغط، وبعد بدء نشر الرواية مسلسلة في صحيفة الأهرام الحكومية ابتداء من 21 سبتمبر/أيلول حتى 25 ديسمبر/كانون الأول 1959 حث بعض رموز التيار الديني المحافظ على وقف النشر استنادا إلى تأويل الرواية تأويلا دينيا يتماس مع قصص بعض الأنبياء. . ومنذ ذلك الحين وقصة التكفير والاتهام بالإلحاد لا تتوقف".
وربما أتعجب من هؤلاء الناس الذين يقذفون أدب نجيب محفوظ بأنه فقط أدب يدور حول العاهرات من النساء رغم أن المرأة لم تكن أبداً في كل رواياته جسدا للمتعة أو للغواية بل كانت جزءا من المجتمع وشريكا في الثورة كما حدث في ثورة 1919، وحيث تعددت رؤية نجيب محفوظ لها حسب المراحل السياسية والاجتماعية التي مرت بها البلاد فهي في الثلاثية تختلف عنها في ميرامار أو ثرثرة فوق النيل أو الكرنك وزقاق المدق. 
إنني أتفق مع ما قاله الكاتب المصري يوسف القعيد في أن ثورة 25 يناير ظلمت نجيب محفوظ، لأن وزارة الثقافة قررت البدء في الاحتفال بمئوية نجيب محفوظ، وكانت هناك خطط ومشروعات وأحلام كثيرة للاحتفال بهذه المناسبة، ولكنها لم تنفذ، هناك مشروعات كثيرة قابلة للتنفيذ، أولها متحف نجيب محفوظ ويقام في وكالة محمد بك أبو الدهب، وهناك إجراءات تخصيص المكان قائمة، ومدير المتحف المخرج الكبير توفيق صالح يعمل، والمهم أن يتم افتتاحه، على أن يصبح متحفا لنجيب محفوظ ومختبرا للسرديات العربية تصدر عنه دورية تبدأ من الاهتمام بنجيب محفوظ وتصل إلى كل أشكال السرد المصري والعربي والعالمي. والثاني مشروع المزارات المحفوظية الذي تحمس له محافظ القاهرة السابق الدكتور عبد العظيم وزير، وخرائط ورسومات الأماكن التي عاش فيها محفوظ وكتب عنها موجودة لدى المحافظة منذ أن أعدها الصديق جمال الغيطاني للبدء في العمل الذي مازال حتى الآن حبرا على ورق"، ورحم الله نجيب محفوظ.

نجيب محفوظ في ذكراه .. مبدع لا يعرف الرذيلة

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
لقد كان نجيب محفوظ ثائرا، كان أفضل من دافع عن ثورة 1919، وكان يعجب كثيرا بشخصية زعيم الأمة سعد زغلول. أما بالنسبة لثورة 1952، فرغم ترحيبه بها في البداية، إلا أنه انتقدها بشدة حين انحرفت التجربة الثورية عن الشعارات التي أعلنتها وظهرت فجوة عميقة بين النظرية الثورية التي آمن بها الثوار وبين تطبيقهم لهذه النظرية على أرض الواقع.
يبدو أننا أمة تأكل أبناءها، تدرك قيمتنا كل الأمم التي وصلت من العلم قمته أما نحن فكما يقول المثل ( مزمار الحي لا يُطرب) أو كما قال الشيخ تاج الدين الحسني أحد علماء دمشق المشهورين: أزهد الناس بالعلماء أهلهم وجيرانهم.
هذا ما يحدث لنا الآن في مصر تجاه غالب رموزنا التي ملأت العقل الإنساني عامة والعربي خاصة بنور المعرفة، لدرجة أصبحت فيها الفوضى لا تفرق بين ما هو أبيض وبين ما هو أسود، لا تفرق بين الطيب والخبيث، من يضئ النفس بالجمال وبين ما يجرحها بالقبح، هذا ما يحدث اليوم مع نجيب محفوظ الذي اتهمه بعض الرموز الهامة في مصر بأن أدبه يحث على الرذيلة! .. لماذا يحث على الرذيلة؟ فكان الجواب لأنه لا يهتم إلا بالعاهرات!.
نجيب محفوظ الذي خالط الصعاليك والحرافيش وغالب المطحونين والمستضعفين، وكتب عن الفقراء وسكان العشش والحواري، ودافع عن كرامة المصري ضد كل ظلم وقع عليه سواء كان واقعا من محتل انجليزي أو من حاكم مستبد!، نجيب محفوظ الذي وقف ضد قتل أحلام البسطاء وقهر الشباب وتجبر الدولة الأمنية في كل رواياته 33 رواية و19 مجموعة قصصية ابتداء من رواية كفاح طيبة (1944)، والقاهرة 30 (1945)، مروراً بالثلاثية العبقرية بين القصرين (1956)، قصر الشوق (1957)، السكرية (1957)، واللص والكلاب (1961)، وثرثرة فوق النيل (1966)، وميرامار (1967)، و الكرنك (1974)، وانتهاءً بأحلام فترة النقاهة (2004).
روايات أقرب للوثيقة التاريخية التي توثق ظرف المكان وظرف الزمان للمجتمع المصري، روايات لن تسع عقول النقاد تفنيد وطنيتها ومصريتها وانتمائها للأرض والنيل، وأذكر قديما وكنت طالباً بالمرحلة الإعدادية ولا أمتلك سوى بساطة الإدراك وطفولة العقل أن شاهدت فيلم الكرنك مع والدي في سينما "ريفولي" بالقاهرة عام 1975، وقد كان والدي – رحمه الله وهو من علماء الأزهر ودكتور في الشريعة - يحترم نجيب محفوظ ويحافظ بقدر الإمكان على متابعة كل أعماله وحتى مقالاته في جريدة الأهرام، يومها وداخل صالة العرض لاحظت تأثر أبي الشديد، كان الفيلم صدمة شديدة لجرأته السياسية والاجتماعية، ففي ظل تكميم الأفواه يخرج علينا نجيب محفوظ ليسرد لنا صارخاً وقائع الظلم والتعذيب وقهر الحاكم لشعب لا يستحق إلا كل احترام وتوقير، يسرد لنا صارخا وقائع ما كنا نحياه من غيبوبة تحت وهم الحرية والكرامة وأرفع رأسك يا أخي، كان يحكي لنا نجيب محفوظ ظلم الحاكم والدولة على المحكومين من أهل الوطن في فترة لم يجرؤ فيها غيره على التفوه بها، كان جريئا وعنيداً، وهنا يقول لي والدي رحمه الله: لولا نجيب محفوظ ومن هم مثله من كتابنا العظام لعاش الناس في وطننا عيشة البهائم، لا يملكون من أمر دنياهم إلا ما يأكلونه ويشربونه ولا إدراك لهم عن معنى الحرية والكرامة والعدل، فقلت لوالدي محاولاً قنص تعاطفه تجاهي وأنا ألمح مدى التأثر البادي عليه ولا أفهمه: أنا أيضا أحب نجيب محفوظ، وبينما نحن سائران لميدان العتبة لنستقل الأوتوبيس عائدين للمنزل بعد خروجنا من السينما التي كنا نراعي الذهاب إليها أول كل جمعة في أول كل شهر، وجدت أبي يصدق على كلامي متمتماً: محفوظ راجل عظيم.
ينتابني إيمان بأن من قرأ أولاد حارتنا قرأها وهو يحمل ضغينة مسبقاً لنجيب محفوظ ولم يفهم إشارته الأدبية والإنسانية بها وكأنه لم يكتب سواها ففهمها بحجم وعيه لا بحجم وعيها ومن ثم حكم عليها وعليه بالكفر، رغم أن هذه الرواية وكما يقول الدكتور جابر عصفور, وزير الثقافة الأسبق: "إن دار الشروق أعلنت في مطلع 2006 أنها ستنشر الرواية بمقدمة للكاتب الإسلامي أحمد كمال أبو المجد. ونشرت بالفعل مقدمة أحمد كمال أبو المجد التي أطلق عليها "شهادة" في بعض الصحف لكن الرواية نفسها لم تصدر إلى الآن"، وربما تذكرني حادثة التكفير تلك بحادثة أخرى مثيرة للاهتمام حدثت في أواخر السبعينيات وكنا طلبة بالمرحلة الثانوية أو ربما في أوائل المراحل الجامعية حينما اصدر مجلس الشعب المصري قرارا بحظر بيع ونشر وتداول كتب العلاّمة " محيي الدين بن عربي" لأن مؤلفاته تدفع بقارئها إلى الكفر و صاحبها كافر، كنت وقتها لم أقرأ لمحيي الدين بن عربي، ولكني كنت أعرف أنه من عباقرة عصره بل ومن أكابر المفكرين الإسلاميين، ورجعت إلى والدي أسأله لكونه حجة في ذلك: هل محيي الدين بن عربي كافر؟، فأجاب إجابة عجيبة قال فيها: مشكلتنا أننا نظن أنه مادمنا نستطيع القراءة فأنه باستطاعتنا الفهم، ومن قرأ لأبن عربي واتهمه بالكفر هو رجل محدود الوعي، ولا يؤمن أن وعيه وفهمه محدود، بل يرى أنه مبعوث العناية الإلهية للحكمة والمعرفة، ومن ثم يظن بوعيه المحدود هذا أنه القاضي العدل في الحكم على العلماء الكبار، هذا مؤمن وهذا كافر، ثم أردف قائلا: مصيبتنا يا بني أننا مجتمع جاهل، يلتهم علمائه كما تلتهم النار في لحظات فدادين القمح، فيحترق كل شئ ومن بقى بعد الحريق على قيد الحياة لن ينجو من الموت جوعاً بعد أن احترقت سنابل الخير.
لقد كان محفوظ ثائرا، كان أفضل من دافع عن ثورة 1919، وكان يعجب كثيرا بشخصية زعيم الأمة سعد زغلول. أما بالنسبة لثورة 1952، فرغم ترحيبه بها في البداية، إلا أنه انتقدها بشدة حين انحرفت التجربة الثورية عن الشعارات التي أعلنتها وظهرت فجوة عميقة بين النظرية الثورية التي آمن بها الثوار وبين تطبيقهم لهذه النظرية على أرض الواقع والتي انتهت بمراكز القوى والسحل وانتهاك الأعراض والقتل والسجون، وهنا كتب محفوظ رواية "أولاد حارتنا" وهي الرواية التي عاد بها إلى الكتابة في 1959، وكأنه كان يحذر فيها رجالات ثورة يوليو وأعوانهم بل ويحذر فيها الشعب نفسه، ولكن هذه الرواية "أولاد حارتنا" شكلت محطة ومنعطفا مثيراً في أعمال محفوظ لكثر ما أثير حولها من لغط، وبعد بدء نشر الرواية مسلسلة في صحيفة الأهرام الحكومية ابتداء من 21 سبتمبر/أيلول حتى 25 ديسمبر/كانون الأول 1959 حث بعض رموز التيار الديني المحافظ على وقف النشر استنادا إلى تأويل الرواية تأويلا دينيا يتماس مع قصص بعض الأنبياء. . ومنذ ذلك الحين وقصة التكفير والاتهام بالإلحاد لا تتوقف".
وربما أتعجب من هؤلاء الناس الذين يقذفون أدب نجيب محفوظ بأنه فقط أدب يدور حول العاهرات من النساء رغم أن المرأة لم تكن أبداً في كل رواياته جسدا للمتعة أو للغواية بل كانت جزءا من المجتمع وشريكا في الثورة كما حدث في ثورة 1919، وحيث تعددت رؤية نجيب محفوظ لها حسب المراحل السياسية والاجتماعية التي مرت بها البلاد فهي في الثلاثية تختلف عنها في ميرامار أو ثرثرة فوق النيل أو الكرنك وزقاق المدق. 
إنني أتفق مع ما قاله الكاتب المصري يوسف القعيد في أن ثورة 25 يناير ظلمت نجيب محفوظ، لأن وزارة الثقافة قررت البدء في الاحتفال بمئوية نجيب محفوظ، وكانت هناك خطط ومشروعات وأحلام كثيرة للاحتفال بهذه المناسبة، ولكنها لم تنفذ، هناك مشروعات كثيرة قابلة للتنفيذ، أولها متحف نجيب محفوظ ويقام في وكالة محمد بك أبو الدهب، وهناك إجراءات تخصيص المكان قائمة، ومدير المتحف المخرج الكبير توفيق صالح يعمل، والمهم أن يتم افتتاحه، على أن يصبح متحفا لنجيب محفوظ ومختبرا للسرديات العربية تصدر عنه دورية تبدأ من الاهتمام بنجيب محفوظ وتصل إلى كل أشكال السرد المصري والعربي والعالمي. والثاني مشروع المزارات المحفوظية الذي تحمس له محافظ القاهرة السابق الدكتور عبد العظيم وزير، وخرائط ورسومات الأماكن التي عاش فيها محفوظ وكتب عنها موجودة لدى المحافظة منذ أن أعدها الصديق جمال الغيطاني للبدء في العمل الذي مازال حتى الآن حبرا على ورق"، ورحم الله نجيب محفوظ.

الأحد، 15 مايو 2011

اسطفان باسيلي .. فارس مصري لايعرفه أحد

بقلم: محيي الدين إبراهيم
يقول محمود سليمان باشا غنام: عندما عهد الملك فاروق إلى النحاس باشا تأليف الوزارة في 13 يناير 1950 كان أول ما فعلته الحكومة هو الغاء الأحكام العرفية، وكذلك الغاء الرقابة على الصحف، وشهدت البلاد حرية لم تشهدها في تاريخها، ومن ثم بدأت البلاد تندد بالفعل على صفحات الجرائد الحرة بتصرفات الملك والسراي.

اسطفان باسيلي .. من منا يعرفه؟ .. لا أحد .. حتى الكثير ممن عاصروه – ومازال منهم من هو على قيد الحياة - لا يعرفوه !!.. ولماذا لا نعرفه؟ .. لأننا شعب كل شيء فيه يُنسى بعد حين، ومن ثم نردد: ما أتعس أن نحيا في وطن يفقد الذاكرة عن عمد.
لن اتحدث عن شخصية هذا المجاهد المصري بشكل شامل، فالمجاهدين الشرفاء ليسوا بحاجة لمن يتحدث عنهم، وعساهم فقط أنهم قدموا لأوطانهم أغلى ما يمتلكوه، قدموا النضال والشرف الانساني والأرواح التي كانوا يضعونها دوماً على أكفهم، ولكني سأضع بعض ملامح ليتعرف القارئ عمن نتحدث، أضع ملامح رمزٍ من رموز الكفاح الوطني في مصر أمام أعين هؤلاء المحسوبين على أقباط مصر ممن يتظاهرون اليوم امام السفارات الأمريكية حول العالم كي تحتل أميركا مصر دفاعاً عن الأقليات وحيث بفعلتهم تلك يبولون علينا جميعا وعلى رأس مصر نفسها بجوار شاهد قبر هذا المجاهد النبيل!.
اسطفان بك باسيلي من مواليد عام 1900 عضو مجلس النواب في الخمسينات وعضو الهيئة العليا لحزب الوفد ووكيل نقابة المحامين وعضو ومؤسس اتحاد المحامين العرب عام ١٩٤٩، وهو ابن شقيقة المحامي والسياسي الكبير مرقص باشا فهمي الذي تعلم على يديه مهنة المحاماة بعد تخرجه من الحقوق وتوفى باسيلي عام ١٩٩٠ ومن اشهر ابنائه المرحوم المستشار انطون اسطفان باسيلي رئيس محكمة استئناف بني سويف واشهر احفاده المرحوم الدكتور اشرف انطون اسطفان باسيلي استشاري جراحة العظام بلندن والذي توفى في اواخر مارس 2011، هذه لمحة صغيرة عن شخص هذا الرجل الذي كان ابن من ابناء الفلاحين المصريين وأحد أعيان مصر الذين شاركوا في الدفاع عنها ضد الإنجليز في القنال بعد الحرب العالمية الثانية بعد الغاء معاهدة 36 وكان وقتها عضوا في البرلمان تحت راية الوفد، ولن اتحدث عن كفاحه ضد الانجليز، ولكني سأقص حكاية هامة من حكايا الوطن ومن اهم قضايا الوطن شارك فيها اسطفان بك باسيلي لحماية الحرية والديموقراطية والدستور في مصر حينئذ وربما لولا مشاركته تلك ( كلاعب رئيس ) لوقعت مصر في براثن الرجعية والتخلف وهو مالم يكن يؤمن به الشرفاء من مجاهدي مصر الاحرار وقتذاك، وهذه الحكاية يتناقلها المؤرخين من الناحية السلبية، ويدرجونها كونها من سلبيات هذا المناضل الشريف، ولا يبحثوا في الدوافع التي من المؤكد تحول السالب إلى موجب، أعود وأقول أنه شارك في سيناريو ضد وأد الحرية وعلى خلاف ذلك اعتبره بعض هواة التاريخ عكس ذلك، اعتبروه سيناريو لوأد الحرية لجهلهم وعدم تتبع الجذور، وقد قام باسيلي بتحريك هذا السيناريو رغم علمه ويقينه أن تحريكه هذا ربما ينال من سمعته ومن تاريخه الوطني، ولكن هي مصر دائما بأبنائها الشرفاء التي تتضاءل أمامهم وامام الدفاع عنها ومحبتها كل ما يعنيهم من غال امتلكوه في هذه الحياة حتى ولو كان هذا الغالي هو ابنائهم، لقد كان باسيلي من هذا الطراز الوطني الشريف، يؤمن بأن مصر أو لاشئ.
يقول بعض المؤرخين ( دون تتبع منهم للأصل والجذر والدافع ) أن اسطفان بك باسيلي قدم للبرلمان سنه1951 ثلاثة مشروعات قوانين تسمح للسراي والحكومة بمعاقبة الصحف بالإلغاء والتعطيل الإداري وتسريع إجراءات محاكمة الصحفيين وكذلك تشديد أقصى العقوبات لكل من يقوم بالنشر بدون مستند رسمي ولكن الصحفيون - وعلى رأسهم رئيس تحرير جريدة المصري احمد بك أبو الفتح - اعتبروا هذه المشروعات تقييد لحرية الصحافة وعودة بمصر لعصور الرجعية والتخلف، وحيث وقف حينها أعضاء البرلمان ومجلس الشيوخ كالجدار الناري يعارضون تلك القوانين حتى لو أدى الأمر لإسقاط حكومة الوفد نفسها رغم انهم كانوا وفديين!!، وهوجم وقتها باسيلي هجوما عنيفاً ولم يدافع الرجل عن نفسه اطلاقاً !!، واعتبر المؤرخون أن تلك المشروعات المهينة كانت احدى سلبيات باسيلي وكادت تودي بتاريخه الوطني كله، ولولا معرفة المصريين بهذا التاريخ ونزاهة هذا الرجل ونضاله لضاع باسيلي للأبد، لكن لأن الشرفاء لا يموتون، فقد تم الإفصاح عن سر هذا السيناريو وتم انصاف هذا الرجل في حياته في اواسط سبعينيات القرن الماضي عام 1976م رغم أنه لا يحتاج لإنصاف لكون تاريخه يشهد له، وكانت جلسة الانصاف تلك غير مقصودة وربما الذي قصدها هنا هو قدر الله نفسه لإزاحة الستار عن تلك الجذور التي تلقي الضوء على عظمة المصرين المجاهدين في صمت والذين أبدا ما دفعوا بأنفسهم إلى دولة عظمى سواء انجلترا أو فرنسا أو ألمانيا أو أميركا وقتئذ وتظاهروا أمام سفارتها بالقاهرة لاحتلال مصر تحت اي ذريعة حتى ولو كانت حماية الأقليات وفضلوا الموت على أن يوصموا بالخيانة وبيع الأوطان، وحيث لا تبرير ابداً للخيانة وبيع الوطن، أقول: كانت تضم جلسة الإنصاف هذه عام 1976م صانعوا السيناريو الأصليين أنفسهم وهم محمود سليمان باشا غنام سكرتير حزب الوفد المساعد قبل الثورة واسطفان بك باسيلي وكان يحضرها مستمعاً المناضل الكبير ابراهيم بك طلعت عضو الهيئة الوفدية والمناضل الكبير احمد بك شوقي المحامي ومجموعة من عمالقة حزب الوفد الكبار الذين كانوا فاغري أفواههم مما يسمعوه لأول مرة حيث كان سراً لأكثر من ربع قرن ( 1951 – 1976 )، وسوف انقلها من وحي رواية ابراهيم بك طلعت المحامي.
فما هي الحكاية وما هو السر؟ .. يقول الثائر الوطني ابراهيم طلعت المحامي ( أكرر انني انقل هنا من وحي حديث ابراهيم طلعت وليس نقلاً حرفياً ): كنت من ألد أعداء تلك التشريعات الثلاثة المشئومة التي تقيد الحريات والتي قدمها اسطفان بك باسيلي للبرلمان، وكنت أنا واحمد أبو الفتح، نجلس في حديقة جريدة المصري يوميا ونتحدث عن مقالاتنا النارية التي سنهاجم بها المشروعات على صفحات الجريدة، وبحكم صداقتي بإسطفان باسيلي، سألته أكثر من مرة عمن وراء تلك المشروعات؟ فكان يلوذ بالصمت!، أصرخ في وجهه أنه لا يمكن أن يدفعنا لتصديق أن كريم ثابت مستشار الملك فاروق استطاع بخبثه أن يضحك على باسيلي وأن يمرر من خلاله تلك المشروعات العار للبرلمان؟ لكن دون جدوى، كان باسيلي لا يجيب!، كنت استشعر أن وراء الأمر لغزاً عظيماً، لكن لا أنا ولا مصطفى النحاس باشا ولا حتى فؤاد باشا سراج الدين ولا مخلوق كان يدري عنها شيئا حتى اعتقدنا بالفعل انها سقطة باسيلي التي سيغفرها له تاريخ نضاله وكفاحه الوطني وأن لكل جواد كبوة، لكن اللغز استمر عالقاً في رأسي دوماً، وتمر الأيام والسنين وبعد اكثر من ربع قرن ما زلت ألتقي بإسطفان باسيلي ومازلت اذكره بفعلته القديمة واطلب منه أن يفصح لي عن الدافع وراء تقديمه للمشروعات المشئومة للبرلمان سنة 1951 وفي لقاءنا في صيف 1976م وبعد الحاح يقول لي: اسأل غنام باشا، وقلت ولكن ما شأن غنام باشا؟ فقال: اسأل غنام باشا يا ابراهيم يا طلعت، وأدركت وقتها أنه طيلة أكثر من ربع قرن كان ظني في محله وأنه بالفعل وراء الأمر لغزاً، ذلك اللغز الذي فك عنه لثام السر ولثام الزمن محمود سليمان باشا غنام، سر اختزنه باسيلي في جوفه عمراً كاملاً ولم يفصح عنه رغم كل ما كابده من ألم كاد يطيح بتاريخه الوطني كله، فماهو ذلك السر؟.
يقول محمود سليمان باشا غنام: عندما عهد الملك فاروق إلى النحاس باشا تأليف الوزارة في 13 يناير 1950 كان أول ما فعلته الحكومة هو الغاء الأحكام العرفية، وكذلك الغاء الرقابة على الصحف، وشهدت البلاد حرية لم تشهدها في تاريخها، وفي هذه الأثناء كانت البلاد تضيق بتصرفات الملك وفضائح اسرته، وبدأت البلاد تندد بالفعل على صفحات الجرائد الحرة بتصرفات الملك والسراي، وقد كان من اهم تلك الصحف، اللواء الجديد، لسان حال الحزب الوطني الجديد، وجريدة الاشتراكية، التي كان يصدرها احمد حسين رئيس الحزب الاشتراكي، وجريدة الجمهور المصري التي كان يصدرها ابو الخير نجيب، وكان هجوم هذه الصحف من الشدة بحيث أفقدت الملك فاروق صوابه، ولم تكن حكومة الوفد تتخذ اي اجراء تجاه تلك الصحف، وذات يوم بعد أن فاض الكيل بالملك استدعى النحاس باشا للقصر وعرض عليه الصحف والمجلات التي تهاجمه، وأخذ النحاس باشا يقرأها في دهشة مصطنعة، ثم وعد الملك باتخاذ اجراء صارم، فتهلل وجه فاروق وقال له: ماذا ستفعل؟ فقال النحاس باشا: سأبلغ النيابة!، وهنا صاح الملك فاروق في وجه النحاس باشا: تبلغ النيابة؟ أمال السجون فين؟ فأجابه النحاس: يا مولاي .. لا أستطيع ادخال احد السجن كده بدون اجراءات .. لابد من امر النيابة والقضاء، وهنا راح الملك فاروق يمشي في عصبية وهو يردد: النيابة!! .. جميل خالص .. النيابة قال!!.
ويقول المجاهد الكبير ابراهيم طلعت أن الحوار السابق بين الملك والنحاس باشا استمع إليه منقولاً على لسان عبد الفتاح باشا الطويل وزير العدل في حكومة الوفد الذي نقله بدوره عن النحاس باشا شخصياً.
ولما وجد الملك فاروق أن النحاس باشا لن يفعل شيئاً قرر استدعاء مستشاره الصحفي كريم ثابت ربما يدله على مشوره تنقذه من الصحافة والصحفيين.
أقترح كريم ثابت مشروع بتعديل قانون العقوبات تعديلا من شأنه فرض الرقابة على انباء القصر وكذلك تعديل الدستور بحيث لا تستطيع الصحافة القذف في عرض أو سمعة الافراد والعائلات، وأكد كريم ثابت على الملك أن النحاس باشا رجل يتمسك بقواعد الأخلاق ولن يرضيه الطعن في أعراض الناس، ومن ثم سيرحب بتقديم هذا المشروع، وبما للنحاس باشا من سلطة ابوية على اعضاء المجلسين – البرلمان والشورى -، فسيوافق الأعضاء على الفور على اصدار هذه التشريعات، وهنا ارتاح الملك واطمأن، وعهد لكريم ثابت بتنفيذ تلك المشورة فوراً.
ويقفز القدر ليقرر ما يجب أن يكون رغما عن الحاكم والمحكوم، حيث يرسل كريم ثابت للسكرتارية مسودة قوانين ثلاثة من شأنها ذبح الحرية لطباعتها على الآلة الكاتبة، تمهيداً لتسليمها للنحاس باشا، وهنا يظهر على سطح السيناريو أحد السعاة ( الفراشين ) الذين عهدت إليهم السكرتارية بنقل مسودة القوانين الثلاثة، وتشاء الصدف أن يكون ذلك الساعي أحد أنصار غنام باشا، فيلتقط صورة من القوانين ويذهب بها إلى منزل غنام باشا ويسلمها له، ويقرأها غنام باشا وينزعج من هول الكارثة، الملك فاروق يريد الرجوع بمصر للوراء، الملك يريد تكميم مصر.
ويسترسل محمود سليمان باشا غنام: كان لابد من البحث عن رجل فدائي يسبق الملك في تقديم نفس القوانين للبرلمان والشورى، ويكون من القوة والبأس والوطنية ما يجعله يتحمل مواجهة المعارضة والنواب، ويتحمل اي اتهام حتى لو وصلت حدود الاتهام للعمالة لحساب الملك والسراي، كل ذلك دون أن ينبت بكلمة لأي مخلوق مهما كان حتى ولو كانت زوجته، وهداني تفكيري بل قل انها منحة الله في ان ذلك الفدائي الذي يجب أن يكون نائبا في احد المجلسين، هو اسطفان باسيلي، المجاهد الوحيد الذي يستطيع أن يقف في وجه العاصفة، ويؤدي دوره الوطني دون أي تقصير.
يصرخ اسطفان باسيلي في وجه غنام باشا: يا نهار اسود .. ايه ده ياباشا .. معاليك متأكد إن صحتك كويسة، فيرد غنام باشا: يا باسيلي يا خويا انا صحتي زي الرصاص، فيصرخ اسطفان: تقوم تضربني انا بالرصاص ياباشا!!.. اشمعنى أنا ياباشا .. كدة الوفديين هيقتلوني .. حرام عليك .. أنا عملت فيك حاجة؟.
ويشرح غنام باشا لباسيلي السر بهدوء اعصاب: شوف يا صديقي العزيز .. المقصود انك تقدم المشاريع دي قبل الملك فاروق ودلوقتي، ولما تقدمها هيثور اعضاء البرلمان والشورى معارضة ووفديين، ويهاجموك ويتهموك ويهاجموا الدنيا كلها، والصحافة تكتب عن المشاريع السودا دي وعن كبت الحريات والدنيا تنقلب، وهنا نبقى قدمنا كارت ارهاب للملك ولا يمكن يجرؤ بعدها في العدوان على الحريات العامة أو حرية الصحافة.
ويمتثل اسطفان باسيلي لغنام باشا، فقد هبط عليه غنام هبوط القضاء والقدر، ويقول اسطفان وهو يتصنع المرح وحيث كان مشهورا بالدعابة وخفة الروح ومن أكثر السياسيين مرحا في مصر كلها: حاضر يا باشا، بس وحياة والدك وصيتك العيال.
ويتقدم اسطفان باسيلي بالمشاريع للبرلمان والشورى على وجه الاستعجال، وقامت حملة ضارية عنيفة ضد المشاريع وضد باسيلي وضد من أوحى بها لباسيلي واتهمته الصحف وعلى رأسها المصري بالعمل لحساب السراي، ثم سارت الإشاعات بسب أن الناس لا تصدق أمام تاريخ باسيلي ونضاله ما حدث، فأخذت تهمس فيما بينها أن باسيلي ربما يكون ضحية مؤامرة، وهو ربما يكون مجرد مخلب قط لبعض زعماء الوفد الذين يريدون ممالأة الملك لبقاء الوفد في الحكم ولم ينجو حتى فؤاد باشا سراج الدين من هذا الاتهام رغم ثقة كل الوفدين فيه، الموضوع بكل المقاييس كان فضيحه، تماماً كما تخيله غنام باشا واسطفان بك، فضيحة أقامت الدنيا ولم تقعدها، لدرجة أنه اشيع أن الذي قدم المشروع هو اسطفان باسيلي بالاشتراك مع عبد الفتاح باشا الطويل وزير العدل، وظن الناس وقتها أن رفعة النحاس باشا كان على علم مسبق بها وانه يوافق عليها من ناحية المبدأ، وهو ما دفع الدكتور عبد العزيز فهمي بك المحامي لأن يخطب في اجتماع الهيئة البرلمانية بالنادي السعدي: لا يا رفعة النحاس باشا .. نحن لسنا معك في هذا إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
كل ذلك وأكثر سيل المصائب كان ينهال على رأس اسطفان باسيلي وحده، وما يتبقى من سيل تلك المصائب كان من نصيب من يقع عليه دور الشائعة في الاشتراك مع باسيلي في تقديم تلك المشاريع، ولما كان باسيلي قد قبل العملية الفدائية، وقد أتت اكلها بالفعل ولم يجرؤ الملك بعدها على التقدم بمشاريعه للبرلمان، كان لسان حاله يقول: واللهي حتى لو وصل الهجوم لقتلي ما كنت افرط ابداً فيما قمت به لصالح الوطن، ولو كنت تفوهت وقتها بأن المسألة كلها كانت مناورة بيني وبين غنام باشا للضغط على السراي لربما كانت دفعت الملك أن يتجرأ على حريات مصر العامة كلها وفرض الأحكام العرفية من جديد، نظر غنام باشا لصديقة القديم وقال: انت عارف يا باسيلي ان النحاس باشا مات وما يعرفش الحكاية دي لا هو ولا الملك .. احنا كنا رجالة بحق وحقيق ، ويغرقان في الضحك، بينما الحضور جميعا في دهشة من أمرهم لسماع ذلك السر لأول مرة بعد حدوثة منذ اكثر من ربع قرن.
هكذا كان، وهكذا كانوا، رحم الله الشرفاء، ورحم الله مصر وأمتنا العربية، والأبرار الشباب الذين سقطوا ضحايا الثورات ضد طغاة الوطن سواء كان هؤلاء الطغاة ممن ينتسبوا للوطن أو كانوا من أعدائه.

اسطفان باسيلي .. فارس مصري لايعرفه أحد

بقلم: محيي الدين إبراهيم
يقول محمود سليمان باشا غنام: عندما عهد الملك فاروق إلى النحاس باشا تأليف الوزارة في 13 يناير 1950 كان أول ما فعلته الحكومة هو الغاء الأحكام العرفية، وكذلك الغاء الرقابة على الصحف، وشهدت البلاد حرية لم تشهدها في تاريخها، ومن ثم بدأت البلاد تندد بالفعل على صفحات الجرائد الحرة بتصرفات الملك والسراي.

اسطفان باسيلي .. من منا يعرفه؟ .. لا أحد .. حتى الكثير ممن عاصروه – ومازال منهم من هو على قيد الحياة - لا يعرفوه !!.. ولماذا لا نعرفه؟ .. لأننا شعب كل شيء فيه يُنسى بعد حين، ومن ثم نردد: ما أتعس أن نحيا في وطن يفقد الذاكرة عن عمد.
لن اتحدث عن شخصية هذا المجاهد المصري بشكل شامل، فالمجاهدين الشرفاء ليسوا بحاجة لمن يتحدث عنهم، وعساهم فقط أنهم قدموا لأوطانهم أغلى ما يمتلكوه، قدموا النضال والشرف الانساني والأرواح التي كانوا يضعونها دوماً على أكفهم، ولكني سأضع بعض ملامح ليتعرف القارئ عمن نتحدث، أضع ملامح رمزٍ من رموز الكفاح الوطني في مصر أمام أعين هؤلاء المحسوبين على أقباط مصر ممن يتظاهرون اليوم امام السفارات الأمريكية حول العالم كي تحتل أميركا مصر دفاعاً عن الأقليات وحيث بفعلتهم تلك يبولون علينا جميعا وعلى رأس مصر نفسها بجوار شاهد قبر هذا المجاهد النبيل!.
اسطفان بك باسيلي من مواليد عام 1900 عضو مجلس النواب في الخمسينات وعضو الهيئة العليا لحزب الوفد ووكيل نقابة المحامين وعضو ومؤسس اتحاد المحامين العرب عام ١٩٤٩، وهو ابن شقيقة المحامي والسياسي الكبير مرقص باشا فهمي الذي تعلم على يديه مهنة المحاماة بعد تخرجه من الحقوق وتوفى باسيلي عام ١٩٩٠ ومن اشهر ابنائه المرحوم المستشار انطون اسطفان باسيلي رئيس محكمة استئناف بني سويف واشهر احفاده المرحوم الدكتور اشرف انطون اسطفان باسيلي استشاري جراحة العظام بلندن والذي توفى في اواخر مارس 2011، هذه لمحة صغيرة عن شخص هذا الرجل الذي كان ابن من ابناء الفلاحين المصريين وأحد أعيان مصر الذين شاركوا في الدفاع عنها ضد الإنجليز في القنال بعد الحرب العالمية الثانية بعد الغاء معاهدة 36 وكان وقتها عضوا في البرلمان تحت راية الوفد، ولن اتحدث عن كفاحه ضد الانجليز، ولكني سأقص حكاية هامة من حكايا الوطن ومن اهم قضايا الوطن شارك فيها اسطفان بك باسيلي لحماية الحرية والديموقراطية والدستور في مصر حينئذ وربما لولا مشاركته تلك ( كلاعب رئيس ) لوقعت مصر في براثن الرجعية والتخلف وهو مالم يكن يؤمن به الشرفاء من مجاهدي مصر الاحرار وقتذاك، وهذه الحكاية يتناقلها المؤرخين من الناحية السلبية، ويدرجونها كونها من سلبيات هذا المناضل الشريف، ولا يبحثوا في الدوافع التي من المؤكد تحول السالب إلى موجب، أعود وأقول أنه شارك في سيناريو ضد وأد الحرية وعلى خلاف ذلك اعتبره بعض هواة التاريخ عكس ذلك، اعتبروه سيناريو لوأد الحرية لجهلهم وعدم تتبع الجذور، وقد قام باسيلي بتحريك هذا السيناريو رغم علمه ويقينه أن تحريكه هذا ربما ينال من سمعته ومن تاريخه الوطني، ولكن هي مصر دائما بأبنائها الشرفاء التي تتضاءل أمامهم وامام الدفاع عنها ومحبتها كل ما يعنيهم من غال امتلكوه في هذه الحياة حتى ولو كان هذا الغالي هو ابنائهم، لقد كان باسيلي من هذا الطراز الوطني الشريف، يؤمن بأن مصر أو لاشئ.
يقول بعض المؤرخين ( دون تتبع منهم للأصل والجذر والدافع ) أن اسطفان بك باسيلي قدم للبرلمان سنه1951 ثلاثة مشروعات قوانين تسمح للسراي والحكومة بمعاقبة الصحف بالإلغاء والتعطيل الإداري وتسريع إجراءات محاكمة الصحفيين وكذلك تشديد أقصى العقوبات لكل من يقوم بالنشر بدون مستند رسمي ولكن الصحفيون - وعلى رأسهم رئيس تحرير جريدة المصري احمد بك أبو الفتح - اعتبروا هذه المشروعات تقييد لحرية الصحافة وعودة بمصر لعصور الرجعية والتخلف، وحيث وقف حينها أعضاء البرلمان ومجلس الشيوخ كالجدار الناري يعارضون تلك القوانين حتى لو أدى الأمر لإسقاط حكومة الوفد نفسها رغم انهم كانوا وفديين!!، وهوجم وقتها باسيلي هجوما عنيفاً ولم يدافع الرجل عن نفسه اطلاقاً !!، واعتبر المؤرخون أن تلك المشروعات المهينة كانت احدى سلبيات باسيلي وكادت تودي بتاريخه الوطني كله، ولولا معرفة المصريين بهذا التاريخ ونزاهة هذا الرجل ونضاله لضاع باسيلي للأبد، لكن لأن الشرفاء لا يموتون، فقد تم الإفصاح عن سر هذا السيناريو وتم انصاف هذا الرجل في حياته في اواسط سبعينيات القرن الماضي عام 1976م رغم أنه لا يحتاج لإنصاف لكون تاريخه يشهد له، وكانت جلسة الانصاف تلك غير مقصودة وربما الذي قصدها هنا هو قدر الله نفسه لإزاحة الستار عن تلك الجذور التي تلقي الضوء على عظمة المصرين المجاهدين في صمت والذين أبدا ما دفعوا بأنفسهم إلى دولة عظمى سواء انجلترا أو فرنسا أو ألمانيا أو أميركا وقتئذ وتظاهروا أمام سفارتها بالقاهرة لاحتلال مصر تحت اي ذريعة حتى ولو كانت حماية الأقليات وفضلوا الموت على أن يوصموا بالخيانة وبيع الأوطان، وحيث لا تبرير ابداً للخيانة وبيع الوطن، أقول: كانت تضم جلسة الإنصاف هذه عام 1976م صانعوا السيناريو الأصليين أنفسهم وهم محمود سليمان باشا غنام سكرتير حزب الوفد المساعد قبل الثورة واسطفان بك باسيلي وكان يحضرها مستمعاً المناضل الكبير ابراهيم بك طلعت عضو الهيئة الوفدية والمناضل الكبير احمد بك شوقي المحامي ومجموعة من عمالقة حزب الوفد الكبار الذين كانوا فاغري أفواههم مما يسمعوه لأول مرة حيث كان سراً لأكثر من ربع قرن ( 1951 – 1976 )، وسوف انقلها من وحي رواية ابراهيم بك طلعت المحامي.
فما هي الحكاية وما هو السر؟ .. يقول الثائر الوطني ابراهيم طلعت المحامي ( أكرر انني انقل هنا من وحي حديث ابراهيم طلعت وليس نقلاً حرفياً ): كنت من ألد أعداء تلك التشريعات الثلاثة المشئومة التي تقيد الحريات والتي قدمها اسطفان بك باسيلي للبرلمان، وكنت أنا واحمد أبو الفتح، نجلس في حديقة جريدة المصري يوميا ونتحدث عن مقالاتنا النارية التي سنهاجم بها المشروعات على صفحات الجريدة، وبحكم صداقتي بإسطفان باسيلي، سألته أكثر من مرة عمن وراء تلك المشروعات؟ فكان يلوذ بالصمت!، أصرخ في وجهه أنه لا يمكن أن يدفعنا لتصديق أن كريم ثابت مستشار الملك فاروق استطاع بخبثه أن يضحك على باسيلي وأن يمرر من خلاله تلك المشروعات العار للبرلمان؟ لكن دون جدوى، كان باسيلي لا يجيب!، كنت استشعر أن وراء الأمر لغزاً عظيماً، لكن لا أنا ولا مصطفى النحاس باشا ولا حتى فؤاد باشا سراج الدين ولا مخلوق كان يدري عنها شيئا حتى اعتقدنا بالفعل انها سقطة باسيلي التي سيغفرها له تاريخ نضاله وكفاحه الوطني وأن لكل جواد كبوة، لكن اللغز استمر عالقاً في رأسي دوماً، وتمر الأيام والسنين وبعد اكثر من ربع قرن ما زلت ألتقي بإسطفان باسيلي ومازلت اذكره بفعلته القديمة واطلب منه أن يفصح لي عن الدافع وراء تقديمه للمشروعات المشئومة للبرلمان سنة 1951 وفي لقاءنا في صيف 1976م وبعد الحاح يقول لي: اسأل غنام باشا، وقلت ولكن ما شأن غنام باشا؟ فقال: اسأل غنام باشا يا ابراهيم يا طلعت، وأدركت وقتها أنه طيلة أكثر من ربع قرن كان ظني في محله وأنه بالفعل وراء الأمر لغزاً، ذلك اللغز الذي فك عنه لثام السر ولثام الزمن محمود سليمان باشا غنام، سر اختزنه باسيلي في جوفه عمراً كاملاً ولم يفصح عنه رغم كل ما كابده من ألم كاد يطيح بتاريخه الوطني كله، فماهو ذلك السر؟.
يقول محمود سليمان باشا غنام: عندما عهد الملك فاروق إلى النحاس باشا تأليف الوزارة في 13 يناير 1950 كان أول ما فعلته الحكومة هو الغاء الأحكام العرفية، وكذلك الغاء الرقابة على الصحف، وشهدت البلاد حرية لم تشهدها في تاريخها، وفي هذه الأثناء كانت البلاد تضيق بتصرفات الملك وفضائح اسرته، وبدأت البلاد تندد بالفعل على صفحات الجرائد الحرة بتصرفات الملك والسراي، وقد كان من اهم تلك الصحف، اللواء الجديد، لسان حال الحزب الوطني الجديد، وجريدة الاشتراكية، التي كان يصدرها احمد حسين رئيس الحزب الاشتراكي، وجريدة الجمهور المصري التي كان يصدرها ابو الخير نجيب، وكان هجوم هذه الصحف من الشدة بحيث أفقدت الملك فاروق صوابه، ولم تكن حكومة الوفد تتخذ اي اجراء تجاه تلك الصحف، وذات يوم بعد أن فاض الكيل بالملك استدعى النحاس باشا للقصر وعرض عليه الصحف والمجلات التي تهاجمه، وأخذ النحاس باشا يقرأها في دهشة مصطنعة، ثم وعد الملك باتخاذ اجراء صارم، فتهلل وجه فاروق وقال له: ماذا ستفعل؟ فقال النحاس باشا: سأبلغ النيابة!، وهنا صاح الملك فاروق في وجه النحاس باشا: تبلغ النيابة؟ أمال السجون فين؟ فأجابه النحاس: يا مولاي .. لا أستطيع ادخال احد السجن كده بدون اجراءات .. لابد من امر النيابة والقضاء، وهنا راح الملك فاروق يمشي في عصبية وهو يردد: النيابة!! .. جميل خالص .. النيابة قال!!.
ويقول المجاهد الكبير ابراهيم طلعت أن الحوار السابق بين الملك والنحاس باشا استمع إليه منقولاً على لسان عبد الفتاح باشا الطويل وزير العدل في حكومة الوفد الذي نقله بدوره عن النحاس باشا شخصياً.
ولما وجد الملك فاروق أن النحاس باشا لن يفعل شيئاً قرر استدعاء مستشاره الصحفي كريم ثابت ربما يدله على مشوره تنقذه من الصحافة والصحفيين.
أقترح كريم ثابت مشروع بتعديل قانون العقوبات تعديلا من شأنه فرض الرقابة على انباء القصر وكذلك تعديل الدستور بحيث لا تستطيع الصحافة القذف في عرض أو سمعة الافراد والعائلات، وأكد كريم ثابت على الملك أن النحاس باشا رجل يتمسك بقواعد الأخلاق ولن يرضيه الطعن في أعراض الناس، ومن ثم سيرحب بتقديم هذا المشروع، وبما للنحاس باشا من سلطة ابوية على اعضاء المجلسين – البرلمان والشورى -، فسيوافق الأعضاء على الفور على اصدار هذه التشريعات، وهنا ارتاح الملك واطمأن، وعهد لكريم ثابت بتنفيذ تلك المشورة فوراً.
ويقفز القدر ليقرر ما يجب أن يكون رغما عن الحاكم والمحكوم، حيث يرسل كريم ثابت للسكرتارية مسودة قوانين ثلاثة من شأنها ذبح الحرية لطباعتها على الآلة الكاتبة، تمهيداً لتسليمها للنحاس باشا، وهنا يظهر على سطح السيناريو أحد السعاة ( الفراشين ) الذين عهدت إليهم السكرتارية بنقل مسودة القوانين الثلاثة، وتشاء الصدف أن يكون ذلك الساعي أحد أنصار غنام باشا، فيلتقط صورة من القوانين ويذهب بها إلى منزل غنام باشا ويسلمها له، ويقرأها غنام باشا وينزعج من هول الكارثة، الملك فاروق يريد الرجوع بمصر للوراء، الملك يريد تكميم مصر.
ويسترسل محمود سليمان باشا غنام: كان لابد من البحث عن رجل فدائي يسبق الملك في تقديم نفس القوانين للبرلمان والشورى، ويكون من القوة والبأس والوطنية ما يجعله يتحمل مواجهة المعارضة والنواب، ويتحمل اي اتهام حتى لو وصلت حدود الاتهام للعمالة لحساب الملك والسراي، كل ذلك دون أن ينبت بكلمة لأي مخلوق مهما كان حتى ولو كانت زوجته، وهداني تفكيري بل قل انها منحة الله في ان ذلك الفدائي الذي يجب أن يكون نائبا في احد المجلسين، هو اسطفان باسيلي، المجاهد الوحيد الذي يستطيع أن يقف في وجه العاصفة، ويؤدي دوره الوطني دون أي تقصير.
يصرخ اسطفان باسيلي في وجه غنام باشا: يا نهار اسود .. ايه ده ياباشا .. معاليك متأكد إن صحتك كويسة، فيرد غنام باشا: يا باسيلي يا خويا انا صحتي زي الرصاص، فيصرخ اسطفان: تقوم تضربني انا بالرصاص ياباشا!!.. اشمعنى أنا ياباشا .. كدة الوفديين هيقتلوني .. حرام عليك .. أنا عملت فيك حاجة؟.
ويشرح غنام باشا لباسيلي السر بهدوء اعصاب: شوف يا صديقي العزيز .. المقصود انك تقدم المشاريع دي قبل الملك فاروق ودلوقتي، ولما تقدمها هيثور اعضاء البرلمان والشورى معارضة ووفديين، ويهاجموك ويتهموك ويهاجموا الدنيا كلها، والصحافة تكتب عن المشاريع السودا دي وعن كبت الحريات والدنيا تنقلب، وهنا نبقى قدمنا كارت ارهاب للملك ولا يمكن يجرؤ بعدها في العدوان على الحريات العامة أو حرية الصحافة.
ويمتثل اسطفان باسيلي لغنام باشا، فقد هبط عليه غنام هبوط القضاء والقدر، ويقول اسطفان وهو يتصنع المرح وحيث كان مشهورا بالدعابة وخفة الروح ومن أكثر السياسيين مرحا في مصر كلها: حاضر يا باشا، بس وحياة والدك وصيتك العيال.
ويتقدم اسطفان باسيلي بالمشاريع للبرلمان والشورى على وجه الاستعجال، وقامت حملة ضارية عنيفة ضد المشاريع وضد باسيلي وضد من أوحى بها لباسيلي واتهمته الصحف وعلى رأسها المصري بالعمل لحساب السراي، ثم سارت الإشاعات بسب أن الناس لا تصدق أمام تاريخ باسيلي ونضاله ما حدث، فأخذت تهمس فيما بينها أن باسيلي ربما يكون ضحية مؤامرة، وهو ربما يكون مجرد مخلب قط لبعض زعماء الوفد الذين يريدون ممالأة الملك لبقاء الوفد في الحكم ولم ينجو حتى فؤاد باشا سراج الدين من هذا الاتهام رغم ثقة كل الوفدين فيه، الموضوع بكل المقاييس كان فضيحه، تماماً كما تخيله غنام باشا واسطفان بك، فضيحة أقامت الدنيا ولم تقعدها، لدرجة أنه اشيع أن الذي قدم المشروع هو اسطفان باسيلي بالاشتراك مع عبد الفتاح باشا الطويل وزير العدل، وظن الناس وقتها أن رفعة النحاس باشا كان على علم مسبق بها وانه يوافق عليها من ناحية المبدأ، وهو ما دفع الدكتور عبد العزيز فهمي بك المحامي لأن يخطب في اجتماع الهيئة البرلمانية بالنادي السعدي: لا يا رفعة النحاس باشا .. نحن لسنا معك في هذا إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
كل ذلك وأكثر سيل المصائب كان ينهال على رأس اسطفان باسيلي وحده، وما يتبقى من سيل تلك المصائب كان من نصيب من يقع عليه دور الشائعة في الاشتراك مع باسيلي في تقديم تلك المشاريع، ولما كان باسيلي قد قبل العملية الفدائية، وقد أتت اكلها بالفعل ولم يجرؤ الملك بعدها على التقدم بمشاريعه للبرلمان، كان لسان حاله يقول: واللهي حتى لو وصل الهجوم لقتلي ما كنت افرط ابداً فيما قمت به لصالح الوطن، ولو كنت تفوهت وقتها بأن المسألة كلها كانت مناورة بيني وبين غنام باشا للضغط على السراي لربما كانت دفعت الملك أن يتجرأ على حريات مصر العامة كلها وفرض الأحكام العرفية من جديد، نظر غنام باشا لصديقة القديم وقال: انت عارف يا باسيلي ان النحاس باشا مات وما يعرفش الحكاية دي لا هو ولا الملك .. احنا كنا رجالة بحق وحقيق ، ويغرقان في الضحك، بينما الحضور جميعا في دهشة من أمرهم لسماع ذلك السر لأول مرة بعد حدوثة منذ اكثر من ربع قرن.
هكذا كان، وهكذا كانوا، رحم الله الشرفاء، ورحم الله مصر وأمتنا العربية، والأبرار الشباب الذين سقطوا ضحايا الثورات ضد طغاة الوطن سواء كان هؤلاء الطغاة ممن ينتسبوا للوطن أو كانوا من أعدائه.

الأربعاء، 27 أبريل 2011

نجيب محفوظ رجل الثورة الصامتة

بقلم: محيي الدين إبراهيم
كان يستمتع بمشاهدة الأطعمة الشعبية المصرية وباستنشاق رائحتها التي شبهها يوماً وكأنها النيل حينما تطالعك صفحة مياهه المقدسة،يذهب عنك الاكتئاب ولا يقفز في عقلك أثناء اندماجك معه إلا نسائم الإبداع من فضاءاتها الفسيحة الرحبة، هكذا الإحساس حين تخترق رائحة تلك الأكلات الشعبية وجدان نجيب محفوظ فتنتعش أصالته، حتى وإن كان ممنوعاً من تناولها بأمر الطبيب.


سيداتي آنساتي سادتي
رغم كل ما يجرى حولنا فإنني ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية. لا أقول مع الفيلسوف "كانت" إن الخير سينتصر في العالم الآخر. فإنه يحرز نصرا كل يوم. بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير. وأمامنا الدليل الذي لا يجحد. فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والأنانية. أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكون الأمم وتكتشف وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء وتعلن حقوق الإنسان: غاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره. وقد صدق شاعرنا أبو العلاء عندما قال :إن حـــزنا ســاعـة المـــوت أضعاف سرور ساعة الميلاد.
نجيب محفوظ ( معي ) وجمال الغيطاني والناقد توفيق حنا في مركب فرح بوت

بهذه الكلمات المعبرة أختتم نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا كلمته على لسان عائشة ابنته لجمهور المحتفلين به من جميع أنحاء العالم ليلة تسلمه جائزة نوبل عام 1988، وحيث كانت هناك مشكلة كبرى في أن كل مهتم بالأدب وقتها من الأجانب والغرب يجهل اسم نجيب محفوظ تماماً ولا يعلمه ولا يعرفه، لقد أضافت عليه تلك الجائزة شعبية عالمية في الخارج، توازي وربما أكثر من شعبيته في الداخل، الآن نجيب محفوظ قامة أدبية عالمية، ورواياته التي كتبها طوال عمره أصبحت تترجم إلى العديد من لغات العالم، ولا يحتاج المترجم الأجنبي أن يقول : الكاتب المصري، فقط يقول : نجيب محفوظ فيرى العالم في اسمه روح مصر. 
يبتسم نجيب محفوظ وهو يقول للمحيطين به في مركب فرح بوت على نيل القاهرة: لو كانت جائزة نوبل في حياة طه حسين ما كنت خرجت من بيتي ولا كنت تسلمتها، ثم يتذكر مداعباً ويقول: حين تقدمت في عام 1930م للدراسة في كلية الآداب، اخترت قسم الفلسفة، وكان في ذلك الحين الدكتور طه حسين هو عميد الكلية، كان يستقبل الطلاب الجدد بنفسه، ويتحاور معهم ليتأكد من خلال الحوار هل أحسنوا الاختيار بدخولهم الأقسام التي اختاروها في الكلية أم لا؟ وربما كان دافعه أن يوجههم للقسم المناسب إن كان أيا منهم – من وجهة نظر طه حسين طبعاً – لم يوفق في الاختيار الصحيح، وجاء دوري في الحوار وسألني العميد طه حسين عن سبب اختياري لقسم الفلسفة بكلية الآداب دون غيرها، فأخذت أعبر له عن رأيي في أسباب اختياري لقسم الفلسفة وأهميته و.. و.. و.. ، عندئذ قال لي د. طه حسين مداعبا، إنك حقا تصلح لدخول قسم الفلسفة، فكلامك غير مفهوم، ويضحك نجيب محفوظ ضحكة مجلجلة مازلت أتذكر رنين وقعها على أذني حتى اليوم وكأنه بهذه الضحكة التي يتميز بها وصارت داله على شخصه يشير للمحيطين به من بقايا الحرافيش القدامى ببدء المشاغبات، ضحكته المشاغبة الساحرة، كانت إذنا بحالة الشغب المثير والرائع بين كل فطاحل الثقافة والأدب والفن الذين يجلسون من حوله، هذا هو نجيب محفوظ ببساطته ومصريته، نموذج صادق لمعدن الإنسان الفطري في مشاعره الراقي بسمو في وعيه وحكمته وتفكيره.
في مساء (11 ديسمبر 1911م ) كانت زوجة عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا تعاني حالة ولادة متعثرة، ولم تستطع "الداية" فعل شيء إلا الاستنجاد بالزوج، الذي أسرع أحد أصدقائه بإحضار الدكتور "نجيب محفوظ" - الذي أصبح من أشهر أطباء النساء والتوليد في العالم- وأصر الأب على أن يسمي وليده باسم الدكتور القبطي الشهير" نجيب محفوظ".
كان نجيب أصغر الأبناء، لكنه عاش مع أبيه وأمه كأنه طفل وحيد؛ لأن الفارق الزمني بينه وبين أصغر إخوته كان لا يقل عن عشر سنوات، وكانوا كلهم رجالا ونساء قد تزوجوا وغادروا بيت العائلة، إلا أصغرهم الذي التحق بالكلية الحربية، ثم عمل بالسودان بعد تخرجه مباشرة، لذلك كانت علاقته بأمه علاقة وطيدة، وكان تأثيرها فيه عميقا، بعكس والده الذي كان طوال الوقت في عمله خارج البيت، وكان صموتا لا يتحدث كثيرا داخل البيت، ويصف نجيب والدته بأنها: "سيدة أمية لا تقرأ ولا تكتب، ومع ذلك كانت مخزنا للثقافة الشعبية.. وكانت تعشق سيدنا الحسين وتزوره باستمرار.. والغريب أن والدتي أيضا كانت دائمة التردد على المتحف المصري، وتحب قضاء أغلب 
الوقت في حجرة المومياوات.. ثم إنها كانت بنفس الحماس تذهب لزيارة الآثار القبطية خاصة دير "مار جرجس".. وكنت عندما أسألها عن حبها للحسين و"مار جرجس" في نفس الوقت تقول "كلهم بركة" وتعتبرهم "سلسلة واحدة".. والحقيقة أنني تأثرت بهذا التسامح الجميل لأن الشعب المصري لم يعرف التعصب، وهذه هي روح الإسلام الحقيقية".
في العشاء الشعبي الذي كانت تقيمه له دوما مركب فرح بوت ولأصدقائه، فول، بصارة، طحينة، زيتون مخلل، عيش، باذنجان مخلل، طعمية، شوربة عدس، وجميع أنواع السلطات إلى جانب الطورشي البلدي، كان يسعد كاتبنا الكبير بالمحيط الشعبي الذي يحيطه، كان لا يأكل بأمر الطبيب، لكنه كان يستمتع بمشاهدة الأطعمة الشعبية المصرية وباستنشاق رائحتها التي شبهها يوماً وكأنها النيل حينما تطالعك صفحة مياهه الحكيمة المقدسة،يذهب عنك الاكتئاب ولا يقفز في عقلك أثناء اندماجك معه في بورتريه خاص إلا نسائم الإبداع من فضاءاتها الفسيحة الرحبة، هكذا الإحساس حين تخترق رائحة تلك الأكلات الشعبية وجدان نجيب محفوظ فتنتعش أصالته، حتى وإن كان ممنوعاً من تناولها بأمر الطبيب.
قال له أحدهم وهو يداعبه: إذن فهي الشيخوخة يا نجيب بك، وليست حجة الطبيب.
فرد كاتبنا الكبير: الشيخوخة تنشد السلامة يا صديقي
وهنا دفعتني كلمته تلك إلى جملة قالها في أحدى رواياته والتي كان يرمي فيها إسقاطات سياسية رفيعة المستوى على ما آل عليه حكم البلاد في ذلك الوقت، صحت بفرح وقلت: "الشباب يبحث عن المغامرة والشيخوخة تنشد السلامة"، في أي رواية كتبت تلك العبارة؟
كنت أعلم أن نجيب محفوظ ثقيل السمع ولكن فوجئ الحاضرون أنه أسبق الناس إلى الإجابة بكلمة واحدة: ميرامار
وهنا صفق الجميع إذ أدهشهم أنه سمع الجملة وأجاب عليها قبلهم دون أن ينقلها له أحدهم بصوت مرتفع، يسمع كاتبنا إذن ما يريد أن يسمعه وتلك بادرة صحية، وهنا أدار كاتبنا وجهه بجديه شديدة إلى جموع الجالسين من حوله بعد أن انتصبوا بظهورهم قليلا بعيدا عن مائدة الطعام في انتباهه لما سيقوله، ووجدناه يقول: "ما جدوى الندم بعد الثمانين.."، وكأنه بهذه الجملة يلخص رواية ميرا مار بأكملها، ويسقط بجملته هذه نوعاً من الثورة ضد الواقع السياسي الذي يحياه الوطن الآن ونحن في معيته.
سألته مشاغباً - كما تعلمت فن المشاغبة الجميل والراقي من فطاحل الثقافة والفن والأدب المحيطين بنا في الجلسة - وقلت: ميرامار التي كان سيعتقلك عبد الناصر بسببها؟
ولكن كاتبنا كانت ملامح وجهه مازالت عابسة متجهمه وكان وكأنه ينظر إلى أعماقه، وكأنه ليس معنا، وهنا ردد عليه الجالس بجواره سؤالي بصوت مرتفع جداً، وهنا ضحك كاتبنا الكبير ضحكته المشاغبة الساحرة فعرفنا أنه عاد ثم قال: ليست ميرامار ولكنها ثرثرة فوق النيل، قرأها المشير عبد الحكيم عامر فقرر إعتقالي، تصور الرواية أنا كاتبها ضد الحكومة والنظام، ولكن الدكتور ثروت عكاشة – ربنا يحميه – جلس مع جمال عبد الناصر ونبهه : الرواية ليست ضد النظام، ولو إعتقلناه ياريس الناس مش هتسكت، ورجعت العربية بالعساكر قبل مايعتقلوني .. ربنا يحميه ثروت.

نجيب محفوظ رجل الثورة الصامتة

بقلم: محيي الدين إبراهيم
كان يستمتع بمشاهدة الأطعمة الشعبية المصرية وباستنشاق رائحتها التي شبهها يوماً وكأنها النيل حينما تطالعك صفحة مياهه المقدسة،يذهب عنك الاكتئاب ولا يقفز في عقلك أثناء اندماجك معه إلا نسائم الإبداع من فضاءاتها الفسيحة الرحبة، هكذا الإحساس حين تخترق رائحة تلك الأكلات الشعبية وجدان نجيب محفوظ فتنتعش أصالته، حتى وإن كان ممنوعاً من تناولها بأمر الطبيب.


سيداتي آنساتي سادتي
رغم كل ما يجرى حولنا فإنني ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية. لا أقول مع الفيلسوف "كانت" إن الخير سينتصر في العالم الآخر. فإنه يحرز نصرا كل يوم. بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير. وأمامنا الدليل الذي لا يجحد. فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والأنانية. أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكون الأمم وتكتشف وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء وتعلن حقوق الإنسان: غاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره. وقد صدق شاعرنا أبو العلاء عندما قال :إن حـــزنا ســاعـة المـــوت أضعاف سرور ساعة الميلاد.
نجيب محفوظ ( معي ) وجمال الغيطاني والناقد توفيق حنا في مركب فرح بوت

بهذه الكلمات المعبرة أختتم نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا كلمته على لسان عائشة ابنته لجمهور المحتفلين به من جميع أنحاء العالم ليلة تسلمه جائزة نوبل عام 1988، وحيث كانت هناك مشكلة كبرى في أن كل مهتم بالأدب وقتها من الأجانب والغرب يجهل اسم نجيب محفوظ تماماً ولا يعلمه ولا يعرفه، لقد أضافت عليه تلك الجائزة شعبية عالمية في الخارج، توازي وربما أكثر من شعبيته في الداخل، الآن نجيب محفوظ قامة أدبية عالمية، ورواياته التي كتبها طوال عمره أصبحت تترجم إلى العديد من لغات العالم، ولا يحتاج المترجم الأجنبي أن يقول : الكاتب المصري، فقط يقول : نجيب محفوظ فيرى العالم في اسمه روح مصر. 
يبتسم نجيب محفوظ وهو يقول للمحيطين به في مركب فرح بوت على نيل القاهرة: لو كانت جائزة نوبل في حياة طه حسين ما كنت خرجت من بيتي ولا كنت تسلمتها، ثم يتذكر مداعباً ويقول: حين تقدمت في عام 1930م للدراسة في كلية الآداب، اخترت قسم الفلسفة، وكان في ذلك الحين الدكتور طه حسين هو عميد الكلية، كان يستقبل الطلاب الجدد بنفسه، ويتحاور معهم ليتأكد من خلال الحوار هل أحسنوا الاختيار بدخولهم الأقسام التي اختاروها في الكلية أم لا؟ وربما كان دافعه أن يوجههم للقسم المناسب إن كان أيا منهم – من وجهة نظر طه حسين طبعاً – لم يوفق في الاختيار الصحيح، وجاء دوري في الحوار وسألني العميد طه حسين عن سبب اختياري لقسم الفلسفة بكلية الآداب دون غيرها، فأخذت أعبر له عن رأيي في أسباب اختياري لقسم الفلسفة وأهميته و.. و.. و.. ، عندئذ قال لي د. طه حسين مداعبا، إنك حقا تصلح لدخول قسم الفلسفة، فكلامك غير مفهوم، ويضحك نجيب محفوظ ضحكة مجلجلة مازلت أتذكر رنين وقعها على أذني حتى اليوم وكأنه بهذه الضحكة التي يتميز بها وصارت داله على شخصه يشير للمحيطين به من بقايا الحرافيش القدامى ببدء المشاغبات، ضحكته المشاغبة الساحرة، كانت إذنا بحالة الشغب المثير والرائع بين كل فطاحل الثقافة والأدب والفن الذين يجلسون من حوله، هذا هو نجيب محفوظ ببساطته ومصريته، نموذج صادق لمعدن الإنسان الفطري في مشاعره الراقي بسمو في وعيه وحكمته وتفكيره.
في مساء (11 ديسمبر 1911م ) كانت زوجة عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا تعاني حالة ولادة متعثرة، ولم تستطع "الداية" فعل شيء إلا الاستنجاد بالزوج، الذي أسرع أحد أصدقائه بإحضار الدكتور "نجيب محفوظ" - الذي أصبح من أشهر أطباء النساء والتوليد في العالم- وأصر الأب على أن يسمي وليده باسم الدكتور القبطي الشهير" نجيب محفوظ".
كان نجيب أصغر الأبناء، لكنه عاش مع أبيه وأمه كأنه طفل وحيد؛ لأن الفارق الزمني بينه وبين أصغر إخوته كان لا يقل عن عشر سنوات، وكانوا كلهم رجالا ونساء قد تزوجوا وغادروا بيت العائلة، إلا أصغرهم الذي التحق بالكلية الحربية، ثم عمل بالسودان بعد تخرجه مباشرة، لذلك كانت علاقته بأمه علاقة وطيدة، وكان تأثيرها فيه عميقا، بعكس والده الذي كان طوال الوقت في عمله خارج البيت، وكان صموتا لا يتحدث كثيرا داخل البيت، ويصف نجيب والدته بأنها: "سيدة أمية لا تقرأ ولا تكتب، ومع ذلك كانت مخزنا للثقافة الشعبية.. وكانت تعشق سيدنا الحسين وتزوره باستمرار.. والغريب أن والدتي أيضا كانت دائمة التردد على المتحف المصري، وتحب قضاء أغلب 
الوقت في حجرة المومياوات.. ثم إنها كانت بنفس الحماس تذهب لزيارة الآثار القبطية خاصة دير "مار جرجس".. وكنت عندما أسألها عن حبها للحسين و"مار جرجس" في نفس الوقت تقول "كلهم بركة" وتعتبرهم "سلسلة واحدة".. والحقيقة أنني تأثرت بهذا التسامح الجميل لأن الشعب المصري لم يعرف التعصب، وهذه هي روح الإسلام الحقيقية".
في العشاء الشعبي الذي كانت تقيمه له دوما مركب فرح بوت ولأصدقائه، فول، بصارة، طحينة، زيتون مخلل، عيش، باذنجان مخلل، طعمية، شوربة عدس، وجميع أنواع السلطات إلى جانب الطورشي البلدي، كان يسعد كاتبنا الكبير بالمحيط الشعبي الذي يحيطه، كان لا يأكل بأمر الطبيب، لكنه كان يستمتع بمشاهدة الأطعمة الشعبية المصرية وباستنشاق رائحتها التي شبهها يوماً وكأنها النيل حينما تطالعك صفحة مياهه الحكيمة المقدسة،يذهب عنك الاكتئاب ولا يقفز في عقلك أثناء اندماجك معه في بورتريه خاص إلا نسائم الإبداع من فضاءاتها الفسيحة الرحبة، هكذا الإحساس حين تخترق رائحة تلك الأكلات الشعبية وجدان نجيب محفوظ فتنتعش أصالته، حتى وإن كان ممنوعاً من تناولها بأمر الطبيب.
قال له أحدهم وهو يداعبه: إذن فهي الشيخوخة يا نجيب بك، وليست حجة الطبيب.
فرد كاتبنا الكبير: الشيخوخة تنشد السلامة يا صديقي
وهنا دفعتني كلمته تلك إلى جملة قالها في أحدى رواياته والتي كان يرمي فيها إسقاطات سياسية رفيعة المستوى على ما آل عليه حكم البلاد في ذلك الوقت، صحت بفرح وقلت: "الشباب يبحث عن المغامرة والشيخوخة تنشد السلامة"، في أي رواية كتبت تلك العبارة؟
كنت أعلم أن نجيب محفوظ ثقيل السمع ولكن فوجئ الحاضرون أنه أسبق الناس إلى الإجابة بكلمة واحدة: ميرامار
وهنا صفق الجميع إذ أدهشهم أنه سمع الجملة وأجاب عليها قبلهم دون أن ينقلها له أحدهم بصوت مرتفع، يسمع كاتبنا إذن ما يريد أن يسمعه وتلك بادرة صحية، وهنا أدار كاتبنا وجهه بجديه شديدة إلى جموع الجالسين من حوله بعد أن انتصبوا بظهورهم قليلا بعيدا عن مائدة الطعام في انتباهه لما سيقوله، ووجدناه يقول: "ما جدوى الندم بعد الثمانين.."، وكأنه بهذه الجملة يلخص رواية ميرا مار بأكملها، ويسقط بجملته هذه نوعاً من الثورة ضد الواقع السياسي الذي يحياه الوطن الآن ونحن في معيته.
سألته مشاغباً - كما تعلمت فن المشاغبة الجميل والراقي من فطاحل الثقافة والفن والأدب المحيطين بنا في الجلسة - وقلت: ميرامار التي كان سيعتقلك عبد الناصر بسببها؟
ولكن كاتبنا كانت ملامح وجهه مازالت عابسة متجهمه وكان وكأنه ينظر إلى أعماقه، وكأنه ليس معنا، وهنا ردد عليه الجالس بجواره سؤالي بصوت مرتفع جداً، وهنا ضحك كاتبنا الكبير ضحكته المشاغبة الساحرة فعرفنا أنه عاد ثم قال: ليست ميرامار ولكنها ثرثرة فوق النيل، قرأها المشير عبد الحكيم عامر فقرر إعتقالي، تصور الرواية أنا كاتبها ضد الحكومة والنظام، ولكن الدكتور ثروت عكاشة – ربنا يحميه – جلس مع جمال عبد الناصر ونبهه : الرواية ليست ضد النظام، ولو إعتقلناه ياريس الناس مش هتسكت، ورجعت العربية بالعساكر قبل مايعتقلوني .. ربنا يحميه ثروت.

الجمعة، 18 مارس 2011

سيد درويش في ذكراه زعيم ثورة مصر يناير 2011

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
ولأن الأبطال لا تلدهم الأمهات‏..‏ وإنما تلدهم الأمم‏، فإن سيد درويش يولد ولم يأت إلهامه الثوري من فراغ وإنما من رحم الأمة، من رحم مصر، فقد عاش صباه في ظرف سياسي غاية في التعقيد، فملأ في ضميره مخزونا عظيماً من النور والانتماء كما هو دوما عند أصحاب الضمائر الوطنية.

ليس هناك صراع بين حق وحق، بل بين حقٍ وباطلٍ وينتصر فيه الحقُ دوما حتى وإن طال أمد الصراع، وهناك صراع بين باطل وباطل وهذا الأخير هو أقساها وأكثرها فتنة وخراباً ولا انتصار فيه.
يقول سيد درويش على لسان بديع خيري حينما أدرك بحسه الوطني النقي أن هناك صراعا بين الحق ( المصري ) وبين باطل ( الاستعمار ) الانجليزي: 



مصر يا أم العجايب
شعبك أصيل والخصم عايب
خللي بالك من الحبايب
هما دول أنصار القضية
آهو ده اللي صار وآدي اللي كان
مالكش حق تلوم عليا. 
لم يختار سيد درويش ممارسة الصراع حتى ولو كان بين حق وباطل حتى رغم إدراكه ويقينه بما لا يدع مجالا لشك أنه في جانب الحق، فهو ابن البلد صاحب الأرض وذاك هو المستعمر الذي لاحق له فيها، ومن هنا اختار سيد درويش كمبدع مصري ملهم أن يمارس التنوير، أن يمارس نور الإيمان بقضاياه الوطنية وينشر أشعته قدر الاستطاعة في ضمائر الأمة جميعا فصار بنقطة النور هذه زعيماً تستلهم من ضميره النقي كل ثورات الحق من بعده أضواء النصر والحرية، حتى صار سيد درويش رغم مرور أكثر من 119 عاما على ميلاده 17 مارس عام 1892 زعيماً للتنوير الثوري لكل الباحثين عن دولة الحق والعدل والمساواة حتى يومنا هذا بل أن روحه الثورية استلهمها ثوار الشباب في ميدان التحرير لينالوا بها ما أرادوه لهم ولمصر من حقوق وطموح في 25 يناير 2011 وهم يرددون أغانيه ويقذفوا بها في وجه الطاغي وجنوده المدججين بأحدث أنواع الأسلحة الفتاكة والغازات السامة لقتلهم وإبادتهم ووأد روح الثورة فيهم لينتصروا وينتصر معهم سيد درويش.
ربما من أهم ما تخلص إليه روح سيد درويش الثورية ( المستمرة ليومنا هذا ) رائعته الموجعة " قوم يا مصري مصر دايما بتناديك"، إنها أقرب للعملية الجراحية للمجتمع المصري بدون بنج، يصرخ المريض من ألم الاستئصال لكنه يعيش معافاً بعد الألم حيث لا ألم ولا استئصال، رائعة موجعة كأنه يصدح بها اليوم مع الثوار في ميدان التحرير بالقاهرة ويسخر فيها من كل خلل اجتماعي من شأنه التفريق والحؤول بين المصريين وبعضهم البعض وأمور لا طائل منها ولا قيمة فيها سوى الفتن وصراع الباطل مع الباطل الذي لا يصب إلا في صالح العدو والمتربص في أحوج الظروف الوطنية احتياجاً لتلاحم المصريين وتآلفهم، وقد غناها في ظروف تتشابه مع ظروف ما نحياه الآن، وهي البحث عن الحرية، في فترة تم فيها الغدر بمصر ونفي سعد زغلول ورفاقه خارجها لحرمانها من أبنائها الانقياء الأوفياء والمؤمنين بالتغيير، وحيث لم يدع سيد درويش حينئذ لواء الثورة أن يسّاقط بنفي هؤلاء الوطنيين بل رفعه قبل السقوط وحث الناس ( بالتنوير ) وهو يلوح به من خلال أغانيه التي تحث على الثورة والوجود داعيا المصريين بالتمسك بالأرض والتآخي والنهضة حتى وإن اختلفت مللهم ونحلهم وعقائدهم فيقول:
ليه يا مصري كل أحوالك عجب
تشكى فقرك و أنت ماشى فوق دهب
حب جارك قبل ما تحب الوجود
إيه نصارى و مسلمين قال إيه ويهود
دى العبارة نسل واحد م الجدود
قوم يا مصري مصر دايما بتناديك
خد بنصري نصري دين واجب عليك
إذن وبهذه الثورية كيف لا يكون سيد درويش زعيم الأمة؟!.
ولأن الأبطال لا تلدهم الأمهات‏..‏ وإنما تلدهم الأمم‏، فإن سيد درويش يولد ولم يأت إلهامه الثوري من فراغ وإنما من رحم الأمة، من رحم مصر، فهو قد عاش صباه وبواكير شبابه في ظرف سياسي غاية في الظلمة والتعقيد، ظرف ملأ في ضمير سيد درويش مخزونا عظيماً من النور والحكمة والانتماء كما هو دوما عند أصحاب الضمائر الوطنية، فحينما كان يبلغ من العمر أربعة عشرة عاما تقريباً قامت مذبحة دنشواي، تفتح ضميره الثوري على أقسى ما يمكن أن تتفتح عليه ضمائر الثوريين في العالم، مذابح الناس بقرية صغيره بمحافظة المنوفية في الثالث عشر من يونيو من عام‏1906‏ ، كان وقتها يعيش في الإسكندرية التي لا تبعد سوى خمسين ميلا على أقصى تقدير من المنوفية، تفتحت مداركه على غدر الانجليز وبطولة الفتى المصري الطيب زهران الذي شنقته العساكر الانجليز بتهمة انه مصري هو وزملائه الثلاثة، وشجاعة الفتى مصطفى كامل الذي أجبر أكبر طاغية حكم مصر من وراء الستار على الرحيل بلا رجعة وهو اللورد كرومر، أدت المذبحة لهروب الصفاء من كل القلوب المحبة لتراب مصر لتحل مكانه المرارة ‏..‏ أياما سوداء‏ لا شك يحياها الكل ويبحثون من خلال السواد عن نقطة الخلاص، عن حورس المصري الذي يجب أن يظهر ليحول عار موت أبيه إلى نصر ينغرس في قلوب المطحونين والبسطاء من شعب مصر فينقلب وهن قلوبهم إلى قوة، ومن قوة قلوبهم تستمد الثورة وقودها للحرية.
كان الناس يعلمون مدى عداء كرومر والانجليز للخديوي عباس الذي حكم مصر في الفترة ( 1892 – 1914 ) والذين كانوا يعتبرونه ( حورس المصري ) ويعلمون مدى قربه ومحبته لزعيم الثوار الفتى مصطفى كامل الذي نجح في خلق رأى عام ضد سياسة كرومر في مصر، مما دفع بالحكومة البريطانية ومجلس النواب وخاصة بعد هجوم الأديب الأيرلندي جورج برنارد شو وقتها على الاحتلال الانجليزي لمصر واعتبره عارا على تاج المملكة العظمى الأمر الذي أدى إلى عزل كرومر من منصبة في مصر 12 أبريل 1907بعد كلمة برنارد شو الشهيرة التي كان يقصد بها كرومر وقتذاك : "السلطة لا تفسد الرجال، إنما الأغبياء إن وضعوا في السلطة فإنهم يفسدونها".
كان يستمع سيد درويش لغناء شقيقاته فريدة وستونة وزينب وهم يرددون أهازيج شعبية تضخ الوطنية في القلوب رغم أنهن كانوا يغنونها في الأفراح الخاصة بهم وبعشيرتهم داخل الحي الذي يسكنونه كنوع من المجاملة وكذلك كنوع من المرح في ساعات السمر البريئة بأحضان ليالي صيف الإسكندرية حيث كان حي كوم الدكة أشبه بقرية صغيرة على الأطراف القريبة جداً من عاصمة العالم الخفية ( بندر إسكندرية ) التي تكتظ ويسكنها خليط كثيف من شعوب العالم اجمع بثقافاته وأيديولوجياته ومسارحه ومدارسه ودور عباداته في خليط مدهش لا تجده إلا في مصر ( وقتذاك ) وربما هو سر عبقرية مصر، وسر كونها "أم الدنيا".
كان ينصت لكل شئ ويحفظ كل شئ وربما من أشهر تلك الأهازيج الشعبية والمواويل الحسية التي حفظها موال "يا عزيز عيني وأنا نفسي أروح بلدي"، ذلك الموال أو " البكائية" التي تأثر بها سيد درويش جدا ونالت من أعماقه لدرجة أن خصص لها دورا كاملا من ألحانه وسماه بذات اسمها " يا عزيز عيني"، وكذلك موال الفتى زهران فارس دنشواي الذي كان يكرر على أخته " فريدة " أن تسمعه إياه وتنشده له بصوتها حيث كان يطمئن دوماً لحلاوة صوتها خاصة وأنها تحفظ الكثير من المواويل التي تأتي على هواه، وحيث كانا يذهبان بصحبة أقرانهم وأبناء الحي بنات وبنين فوق سطوح المنزل ليستمعوا لفريدة وهي تغني عن الفتى زهران:
من بعد حكم المحاكم والشاويش والباش
غلايين ( وساقها ) كرومر مخرب
والانجليز فرعنوا بعد ما كانوا أوباش
نزلوا على دنشواي ماخلو نفر ولا أخوه
اللى ( أتشنق ) مات واللى فضل جلدوه
واللى فضل من الجلد جوا سجنهم ورموه
يوم (شنق) زهران كانت صعب (وقفاته)
أمه بتبكى عليه فوق السطح وأخواته
لوكان له أب ساعة (الشنق) لم فاته
صبرك علينا يا ظالم بكرة راح تندم.
كان يستمع لأخته ثم يذهب ليكمل شحن ضميره وحسه الوطني من حكاوي المصريين الحماسية في المقاهي الواقعة في حي العطارين بالإسكندرية والتي تحكي عن مآثر عباس الثاني ومصطفى كامل وكرههما للانجليز وكرومر وحبهما لمصر وللفلاحين لدرجة أغضبت كرومر وجعلته يكره مصر والمصريين وعباس ومصطفى كامل ويحث حكومة انجلترا على إرسال لورد كتشنر ليباشر مهام المملكة في مصر بدلا من كرومر، بل وينتقم ممن طردوه فيوحي لكتشنر بقتل مصطفى كامل عام 1908 وبالفعل ينجح برجاله في أن يدسوا له السم ليموت وهو في زيارة الآستانة، بل ومن شدة كره كرومر لمصر وثوار مصر أوحى للورد كتشنر أن ينشئ جهازاً سئ السمعة لقمع الأحرار في مصر واغتيالهم لصالح انجلترا وهو جهاز أمن الدولة ذلك الاختراع الإنجليزي في مصر والذي اخترعوه الانجليز في مصر عام 1913 تحت اسم القلم السياسي وكانت أول عمليات الاغتيال التي قام بها هذا الجهاز البوليسي هي عملية اغتيال الخديوي عباس في 25 مايو 1914على يد احد ضباط القلم السياسي ( أمن الدولة ) ويدعى "محمود مظهر" حيث قام بإطلاق الرصاص عليه بينما كان خارجاً من الباب العالي في استانبول بتركيا ولكنها محاولة باءت بالفشل الأمر الذي دعا انجلترا في ديسمبر 1914 أن تأتي بفؤاد الأول من ايطاليا وكان ضابطا في الجيش الإيطالي وقتها لتقيمه ملكا على مصر وتمنع عباس من العودة لمصر بحجة نشوب الحرب العالمية الأمر الذي أعتبره المصريون خلع لخديوي مصر المحبوب بالقوة وعلى غير إرادة المصريين وهو ربما ما جعلهم يكرهون فؤاد الأول على ذلك حتى مات رغم إصلاحاته، وربما يدفعني الموقف لأن اسرد قصة نفي بيرم التونسي لكونها ترتبط بهذه الحادثة ( اعتلاء فؤاد الأول عرش مصر وقبوله خلع الخديوي عباس ) الأمر الذي دفع المصريين لكره الملك وجعل بيرم ينشد:
ولما خلصت في مصر الملوك
جابوك لانجليز يافؤاد قعدوك
وكان بيت الشعر هذا هو بيت القصيد الذي تم نفي صاحبه خارج مصر سنينا طوالا عقابا له على طول لسانه في الذات الملكية!.
وفاه مصطفى كامل ونفي محمد فريد واغتياله وخلع عباس بعد محاولة اغتياله وقيام الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، تتسارع الأحداث ليجد المصري نفسه بين المطرقة والسندان .. مطرقة الاحتلال وسندان القصر فيلجأ المغنى الشعبي لموال شفيقة ومتولي والذي كان يسقط فيه الفنان الشعبي إسقاطات على واقع احتلال مصر من الانجليز وتحويلها من بلد حر إلى مستعمرة لإمتاع انجلترا في غيبة الثوار والوطنيين تماما مثل "شفيقة" ( 1870 م ) التي حولها القصر إلى ( مومس ) في غياب أخيها "متولي" الجدع الثوري الذي كان في خدمة الجيش والوطن ليفاجأ بأن القصر غدر به وانتهك حرمة شفيقة أو انتهك حرمة مصر كما يحاول أن يدفع بها الفنان الشعبي للناس ليثير حماسهم ضد الإنجليز في المقهى الكبير بحي العطارين والذي ينصت إليه سيد درويش وكأنه في حالة غيبوبة وهو موال طويل تترنح من سماعه الناس حينما يردد المنشد:
نادى القاضي 
ووقف قدامو قالو بتموت شفيقة لية يا متولى 
قالو يا بية انا دمى فار زى العمال 
ومع اسود عمل الفار عمل 
وحدانا شجرة وفيها فرع مال 
مفيش غيرى لاعم ولا خال لية 
اشرب المرار دة والخل لية 
اقطعو يا بية ولا اخلية 
كان القاضى اسمو حسن 
راجل عندو فضل وأحسان 
قالو صراحة قطعو احسن 
يا متولى يا جرجاوى يا جرجاوى يا متولى.
هكذا إذن رحم الأمة الذي يخرج منه أصحاب الأرض الحقيقيين ورموز ثورتها الكبار الذين لا يدانيهم شك في مدى وطنيتهم وانتمائهم، ورغم أن الظروف الصعبة التي مر بها سيد درويش وفقر أسرته اضطرته إلى العمل مبكرا من أجل الأسرة وهو لم يكمل تعليمه بعد إلا أنه – وهو الملهم الثوري - أخذ يبحث عن وسيلة للتعبير عما يجيش في نفسه من ضغوط وعن أحلامه في الحياة ، فلم يجد أفضل من الموسيقى ، وانجذب بحسه العالي إلى ما سمعه في الإسكندرية من ألحان وأغاني على اختلاف ألوانها المحلية الوطنية والأجنبية الوافدة التي كانت تصدح بها الجاليات الأجنبية وخاصة جاليات اليونان وايطاليا في مسارحها الخاصة في إسكندرية، ثم بدأ يردد ما حفظه على أسماع أصدقائه الذين وجدوا فيه موهبة تستحق فدعوه لإحياء حفلاتهم العائلية وأفراحهم، وسرعان ما انتشر الأمر فطلبه آخرون وعرضوا عليه أجرا مقابل الغناء فقبل، حتى تدخل القدر في عام 1909 بعد رحلة شاقة له في أعمال منحطة شغلها، منها على سبيل المثال عامل بناء وصب اسمنت، ليعول بأجر هذه الأعمال المنحطة التي قبلها رغما عنه أسرته الفقيرة وحيث استمع ذات يوم لغنائه رجلان من الشوام كانا يجلسان مصادفة على مقهى بجانب العمارة التي يعمل بها سيد درويش ( عامل بناء) وكان هذين الرجلين هما أمين وسليم عطا الله أصحاب فرقة مسرحية تعمل بالشام ، فعرضا عليه العمل بفرقتهما فقبل وليبدأ من ذلك التاريخ بزوغ نجمه وأول خيوط حياته الفنية وكان عمره حينئذ 17 عاما.
سافر معهما سيد درويش إلى الشام واستطاع أن يجمع تراثا موسيقيا قيما خاصة بعد لقائه هناك بالموسيقى المخضرم عثمان الموصلي في عام 1912، وفى عام 1914 عاد سيد درويش لمقاهي الإسكندرية ولكنه عاد بالجديد فلم يعد يكتفي بتقديم ما حفظه عن الشيخ سلامة حجازي وكبار الموسيقيين مثل إبراهيم القباني، داود حسني وترديد أدوارهم الشهيرة، مثل "المحاسن واللطافة، يامنت واحشني، بأفتكارك ايه يفيدك"، ولكنه بدأ يبدع ألحانه الخاصة فقدم أول أدواره يا فؤادي، كما ظهرت أغانيه القصيرة السريعة إلى الوجود وغناها بنفسه كما غناها غيره من المطربين ، وبدأ نجمه يعلو في المدينة حتى سمع عنه الشيخ سلامة حجازي وقرر أن يذهب لسماعه بنفسه، ما أن سمعه الشيخ الكبير حتى حدث مثلما حدث مع أمين وسليم عطا الله ، عرض عليه العمل بفرقته بالقاهرة فقبل الشيخ سيد.
كانت الحرب العالمية الأولى قد غيرت كل شئ حتى أذواق الناس، كان الناس يعيشون حالة من الإحباط الوطني، حالة من اليأس القومي والأممي خاصة بعد سقوط دولة آل عثمان في تركيا جعلتهم يستسلمون للاحتلال وهذا ما رفضه سيد درويش في فرقة سلامة حجازي بالقاهرة وأصيب من جراءه بإحباط كبير جعلته يعود إلى مدينته الإسكندرية في اليوم التالي على أن لا يعود للقاهرة مرة أخرى ابداً، وان يظل ينشد أغانيه الحماسية والعاطفية وما يؤمن به على المقاهي وفي الأفراح أعظم له وأكرم ألف مرةٍ من أن يقدم المبتذل والساقط على أكبر مسارح القاهرة تحت مسمى "الجمهور عاوز كده".
في عام 1917، بعد ثلاث سنوات من اللقاء الأول ومن بداية الحرب العالمية، عاد الشيخ سلامة حجازي للإسكندرية ليبحث عن سيد درويش، بحث عنه في إسكندرية كلها حتى علم أنه يحيي فرحاً في قرية " أبيس" الواقعة على مدخل مدينة إسكندرية، وذهب له هناك الشيخ سلامة حجازي، وأصر أن يعود معه بالحنطور إلى الإسكندرية، وفي الحنطور عرض عليه الشيخ سلامة حجازي عرضا أقوى، التلحين لفرقة جورج أبيض تلحين رواية كاملة هي "فيــروز شاه" تلك الرواية التي لم تجذب الجمهور لكنها جعلته ينتبه لمنهج جديد في الموسيقى يولد من ضمير مصري نقي اسمه سيد درويش و تناثرت الأخبار إلى الفرق الأخرى فتسابقت لاكتساب سيد درويش إلى جانبها وأغدقت عليه لاجتذابه ليصبح سيد درويش ملحناً لجميع الفرق المسرحية بالقاهرة في وقت واحد ولتنضم لجذبه فرق الفطاحل أمثال نجيب الريحاني ، على الكسار ، منيرة المهدية.
وبعد انفجار ثورة 1919 تحول سيد درويش إلى فنان الشعب وصوت الأمة الذي يصرخ بطموحاتها وآمالها وقد أكد ذلك في أغنياته على وحدة وادي النيل التي تقول :
جالت لى خالتى أم أحمد
كلمايه فى متلايا
سرجوا الصندوق يا محمد
لكن مفتاحه معايا
بحر النيل راسه فى ناحيه
رجليه فى الناحية التانى
فوقانى يروحوا فى داهية
إذا كان سيبو التحتانى
وقد ساهم سيد درويش بالاشتراك مع بديع خيري ومحمد تيمور وببرم التونسي ومحمود مراد في عملية ميلاد ما يسمى بالمسرح الوطني الذي مهد بشكل فاعل في أحداث الثورة ( ثورة 1919 ) وزيادة لهيبها وبث القوة في ضمائر وقلوب أبناء مصر جميعا لصالح إنجاحها خاصة بعد نفي سعد زغلول ورفاقه، وفي عمر ثلاثة وثلاثين عاماً يخطف القدر عمر هذا الفنان الملهم الوطني وهو ينشد نشيد الوطن ليستقبل به سعد زغلول ورفاقه أثناء عودتهم من المنفى ، ولكن لم يحالفه القدر بلقاء سعد باشا ليغني له النشيد بنفسه إذ لم يكن يعرف أن انجلترا ستتخلص منه بالاغتيال أيضاً كما تخلصت من الخديوي عباس ومن مصطفى كامل ومن محمد فريد وغيرهم من خيرة ثوار مصر، واغتيل سيد درويش بجسده لكن ألحانه الثورية رددتها الملايين من بعده لسعد زغلول زعيم الوفد وثورة 1919 في ميدان المنشية، وأخذت ترددها حتى ثورة 25 يناير 2011 في ميدان التحرير.
بلادي بلادي بلادي
لك حبي وفؤادي
مصر يا أم البلاد
أنت غايتي والمراد
وعلى كل العباد
كم لنيلك من أيادي