الأربعاء، 27 أبريل 2011

نجيب محفوظ رجل الثورة الصامتة

بقلم: محيي الدين إبراهيم
كان يستمتع بمشاهدة الأطعمة الشعبية المصرية وباستنشاق رائحتها التي شبهها يوماً وكأنها النيل حينما تطالعك صفحة مياهه المقدسة،يذهب عنك الاكتئاب ولا يقفز في عقلك أثناء اندماجك معه إلا نسائم الإبداع من فضاءاتها الفسيحة الرحبة، هكذا الإحساس حين تخترق رائحة تلك الأكلات الشعبية وجدان نجيب محفوظ فتنتعش أصالته، حتى وإن كان ممنوعاً من تناولها بأمر الطبيب.


سيداتي آنساتي سادتي
رغم كل ما يجرى حولنا فإنني ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية. لا أقول مع الفيلسوف "كانت" إن الخير سينتصر في العالم الآخر. فإنه يحرز نصرا كل يوم. بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير. وأمامنا الدليل الذي لا يجحد. فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والأنانية. أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكون الأمم وتكتشف وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء وتعلن حقوق الإنسان: غاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره. وقد صدق شاعرنا أبو العلاء عندما قال :إن حـــزنا ســاعـة المـــوت أضعاف سرور ساعة الميلاد.
نجيب محفوظ ( معي ) وجمال الغيطاني والناقد توفيق حنا في مركب فرح بوت

بهذه الكلمات المعبرة أختتم نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا كلمته على لسان عائشة ابنته لجمهور المحتفلين به من جميع أنحاء العالم ليلة تسلمه جائزة نوبل عام 1988، وحيث كانت هناك مشكلة كبرى في أن كل مهتم بالأدب وقتها من الأجانب والغرب يجهل اسم نجيب محفوظ تماماً ولا يعلمه ولا يعرفه، لقد أضافت عليه تلك الجائزة شعبية عالمية في الخارج، توازي وربما أكثر من شعبيته في الداخل، الآن نجيب محفوظ قامة أدبية عالمية، ورواياته التي كتبها طوال عمره أصبحت تترجم إلى العديد من لغات العالم، ولا يحتاج المترجم الأجنبي أن يقول : الكاتب المصري، فقط يقول : نجيب محفوظ فيرى العالم في اسمه روح مصر. 
يبتسم نجيب محفوظ وهو يقول للمحيطين به في مركب فرح بوت على نيل القاهرة: لو كانت جائزة نوبل في حياة طه حسين ما كنت خرجت من بيتي ولا كنت تسلمتها، ثم يتذكر مداعباً ويقول: حين تقدمت في عام 1930م للدراسة في كلية الآداب، اخترت قسم الفلسفة، وكان في ذلك الحين الدكتور طه حسين هو عميد الكلية، كان يستقبل الطلاب الجدد بنفسه، ويتحاور معهم ليتأكد من خلال الحوار هل أحسنوا الاختيار بدخولهم الأقسام التي اختاروها في الكلية أم لا؟ وربما كان دافعه أن يوجههم للقسم المناسب إن كان أيا منهم – من وجهة نظر طه حسين طبعاً – لم يوفق في الاختيار الصحيح، وجاء دوري في الحوار وسألني العميد طه حسين عن سبب اختياري لقسم الفلسفة بكلية الآداب دون غيرها، فأخذت أعبر له عن رأيي في أسباب اختياري لقسم الفلسفة وأهميته و.. و.. و.. ، عندئذ قال لي د. طه حسين مداعبا، إنك حقا تصلح لدخول قسم الفلسفة، فكلامك غير مفهوم، ويضحك نجيب محفوظ ضحكة مجلجلة مازلت أتذكر رنين وقعها على أذني حتى اليوم وكأنه بهذه الضحكة التي يتميز بها وصارت داله على شخصه يشير للمحيطين به من بقايا الحرافيش القدامى ببدء المشاغبات، ضحكته المشاغبة الساحرة، كانت إذنا بحالة الشغب المثير والرائع بين كل فطاحل الثقافة والأدب والفن الذين يجلسون من حوله، هذا هو نجيب محفوظ ببساطته ومصريته، نموذج صادق لمعدن الإنسان الفطري في مشاعره الراقي بسمو في وعيه وحكمته وتفكيره.
في مساء (11 ديسمبر 1911م ) كانت زوجة عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا تعاني حالة ولادة متعثرة، ولم تستطع "الداية" فعل شيء إلا الاستنجاد بالزوج، الذي أسرع أحد أصدقائه بإحضار الدكتور "نجيب محفوظ" - الذي أصبح من أشهر أطباء النساء والتوليد في العالم- وأصر الأب على أن يسمي وليده باسم الدكتور القبطي الشهير" نجيب محفوظ".
كان نجيب أصغر الأبناء، لكنه عاش مع أبيه وأمه كأنه طفل وحيد؛ لأن الفارق الزمني بينه وبين أصغر إخوته كان لا يقل عن عشر سنوات، وكانوا كلهم رجالا ونساء قد تزوجوا وغادروا بيت العائلة، إلا أصغرهم الذي التحق بالكلية الحربية، ثم عمل بالسودان بعد تخرجه مباشرة، لذلك كانت علاقته بأمه علاقة وطيدة، وكان تأثيرها فيه عميقا، بعكس والده الذي كان طوال الوقت في عمله خارج البيت، وكان صموتا لا يتحدث كثيرا داخل البيت، ويصف نجيب والدته بأنها: "سيدة أمية لا تقرأ ولا تكتب، ومع ذلك كانت مخزنا للثقافة الشعبية.. وكانت تعشق سيدنا الحسين وتزوره باستمرار.. والغريب أن والدتي أيضا كانت دائمة التردد على المتحف المصري، وتحب قضاء أغلب 
الوقت في حجرة المومياوات.. ثم إنها كانت بنفس الحماس تذهب لزيارة الآثار القبطية خاصة دير "مار جرجس".. وكنت عندما أسألها عن حبها للحسين و"مار جرجس" في نفس الوقت تقول "كلهم بركة" وتعتبرهم "سلسلة واحدة".. والحقيقة أنني تأثرت بهذا التسامح الجميل لأن الشعب المصري لم يعرف التعصب، وهذه هي روح الإسلام الحقيقية".
في العشاء الشعبي الذي كانت تقيمه له دوما مركب فرح بوت ولأصدقائه، فول، بصارة، طحينة، زيتون مخلل، عيش، باذنجان مخلل، طعمية، شوربة عدس، وجميع أنواع السلطات إلى جانب الطورشي البلدي، كان يسعد كاتبنا الكبير بالمحيط الشعبي الذي يحيطه، كان لا يأكل بأمر الطبيب، لكنه كان يستمتع بمشاهدة الأطعمة الشعبية المصرية وباستنشاق رائحتها التي شبهها يوماً وكأنها النيل حينما تطالعك صفحة مياهه الحكيمة المقدسة،يذهب عنك الاكتئاب ولا يقفز في عقلك أثناء اندماجك معه في بورتريه خاص إلا نسائم الإبداع من فضاءاتها الفسيحة الرحبة، هكذا الإحساس حين تخترق رائحة تلك الأكلات الشعبية وجدان نجيب محفوظ فتنتعش أصالته، حتى وإن كان ممنوعاً من تناولها بأمر الطبيب.
قال له أحدهم وهو يداعبه: إذن فهي الشيخوخة يا نجيب بك، وليست حجة الطبيب.
فرد كاتبنا الكبير: الشيخوخة تنشد السلامة يا صديقي
وهنا دفعتني كلمته تلك إلى جملة قالها في أحدى رواياته والتي كان يرمي فيها إسقاطات سياسية رفيعة المستوى على ما آل عليه حكم البلاد في ذلك الوقت، صحت بفرح وقلت: "الشباب يبحث عن المغامرة والشيخوخة تنشد السلامة"، في أي رواية كتبت تلك العبارة؟
كنت أعلم أن نجيب محفوظ ثقيل السمع ولكن فوجئ الحاضرون أنه أسبق الناس إلى الإجابة بكلمة واحدة: ميرامار
وهنا صفق الجميع إذ أدهشهم أنه سمع الجملة وأجاب عليها قبلهم دون أن ينقلها له أحدهم بصوت مرتفع، يسمع كاتبنا إذن ما يريد أن يسمعه وتلك بادرة صحية، وهنا أدار كاتبنا وجهه بجديه شديدة إلى جموع الجالسين من حوله بعد أن انتصبوا بظهورهم قليلا بعيدا عن مائدة الطعام في انتباهه لما سيقوله، ووجدناه يقول: "ما جدوى الندم بعد الثمانين.."، وكأنه بهذه الجملة يلخص رواية ميرا مار بأكملها، ويسقط بجملته هذه نوعاً من الثورة ضد الواقع السياسي الذي يحياه الوطن الآن ونحن في معيته.
سألته مشاغباً - كما تعلمت فن المشاغبة الجميل والراقي من فطاحل الثقافة والفن والأدب المحيطين بنا في الجلسة - وقلت: ميرامار التي كان سيعتقلك عبد الناصر بسببها؟
ولكن كاتبنا كانت ملامح وجهه مازالت عابسة متجهمه وكان وكأنه ينظر إلى أعماقه، وكأنه ليس معنا، وهنا ردد عليه الجالس بجواره سؤالي بصوت مرتفع جداً، وهنا ضحك كاتبنا الكبير ضحكته المشاغبة الساحرة فعرفنا أنه عاد ثم قال: ليست ميرامار ولكنها ثرثرة فوق النيل، قرأها المشير عبد الحكيم عامر فقرر إعتقالي، تصور الرواية أنا كاتبها ضد الحكومة والنظام، ولكن الدكتور ثروت عكاشة – ربنا يحميه – جلس مع جمال عبد الناصر ونبهه : الرواية ليست ضد النظام، ولو إعتقلناه ياريس الناس مش هتسكت، ورجعت العربية بالعساكر قبل مايعتقلوني .. ربنا يحميه ثروت.

نجيب محفوظ رجل الثورة الصامتة

بقلم: محيي الدين إبراهيم
كان يستمتع بمشاهدة الأطعمة الشعبية المصرية وباستنشاق رائحتها التي شبهها يوماً وكأنها النيل حينما تطالعك صفحة مياهه المقدسة،يذهب عنك الاكتئاب ولا يقفز في عقلك أثناء اندماجك معه إلا نسائم الإبداع من فضاءاتها الفسيحة الرحبة، هكذا الإحساس حين تخترق رائحة تلك الأكلات الشعبية وجدان نجيب محفوظ فتنتعش أصالته، حتى وإن كان ممنوعاً من تناولها بأمر الطبيب.


سيداتي آنساتي سادتي
رغم كل ما يجرى حولنا فإنني ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية. لا أقول مع الفيلسوف "كانت" إن الخير سينتصر في العالم الآخر. فإنه يحرز نصرا كل يوم. بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير. وأمامنا الدليل الذي لا يجحد. فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والأنانية. أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكون الأمم وتكتشف وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء وتعلن حقوق الإنسان: غاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره. وقد صدق شاعرنا أبو العلاء عندما قال :إن حـــزنا ســاعـة المـــوت أضعاف سرور ساعة الميلاد.
نجيب محفوظ ( معي ) وجمال الغيطاني والناقد توفيق حنا في مركب فرح بوت

بهذه الكلمات المعبرة أختتم نجيب محفوظ عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا كلمته على لسان عائشة ابنته لجمهور المحتفلين به من جميع أنحاء العالم ليلة تسلمه جائزة نوبل عام 1988، وحيث كانت هناك مشكلة كبرى في أن كل مهتم بالأدب وقتها من الأجانب والغرب يجهل اسم نجيب محفوظ تماماً ولا يعلمه ولا يعرفه، لقد أضافت عليه تلك الجائزة شعبية عالمية في الخارج، توازي وربما أكثر من شعبيته في الداخل، الآن نجيب محفوظ قامة أدبية عالمية، ورواياته التي كتبها طوال عمره أصبحت تترجم إلى العديد من لغات العالم، ولا يحتاج المترجم الأجنبي أن يقول : الكاتب المصري، فقط يقول : نجيب محفوظ فيرى العالم في اسمه روح مصر. 
يبتسم نجيب محفوظ وهو يقول للمحيطين به في مركب فرح بوت على نيل القاهرة: لو كانت جائزة نوبل في حياة طه حسين ما كنت خرجت من بيتي ولا كنت تسلمتها، ثم يتذكر مداعباً ويقول: حين تقدمت في عام 1930م للدراسة في كلية الآداب، اخترت قسم الفلسفة، وكان في ذلك الحين الدكتور طه حسين هو عميد الكلية، كان يستقبل الطلاب الجدد بنفسه، ويتحاور معهم ليتأكد من خلال الحوار هل أحسنوا الاختيار بدخولهم الأقسام التي اختاروها في الكلية أم لا؟ وربما كان دافعه أن يوجههم للقسم المناسب إن كان أيا منهم – من وجهة نظر طه حسين طبعاً – لم يوفق في الاختيار الصحيح، وجاء دوري في الحوار وسألني العميد طه حسين عن سبب اختياري لقسم الفلسفة بكلية الآداب دون غيرها، فأخذت أعبر له عن رأيي في أسباب اختياري لقسم الفلسفة وأهميته و.. و.. و.. ، عندئذ قال لي د. طه حسين مداعبا، إنك حقا تصلح لدخول قسم الفلسفة، فكلامك غير مفهوم، ويضحك نجيب محفوظ ضحكة مجلجلة مازلت أتذكر رنين وقعها على أذني حتى اليوم وكأنه بهذه الضحكة التي يتميز بها وصارت داله على شخصه يشير للمحيطين به من بقايا الحرافيش القدامى ببدء المشاغبات، ضحكته المشاغبة الساحرة، كانت إذنا بحالة الشغب المثير والرائع بين كل فطاحل الثقافة والأدب والفن الذين يجلسون من حوله، هذا هو نجيب محفوظ ببساطته ومصريته، نموذج صادق لمعدن الإنسان الفطري في مشاعره الراقي بسمو في وعيه وحكمته وتفكيره.
في مساء (11 ديسمبر 1911م ) كانت زوجة عبد العزيز إبراهيم أحمد الباشا تعاني حالة ولادة متعثرة، ولم تستطع "الداية" فعل شيء إلا الاستنجاد بالزوج، الذي أسرع أحد أصدقائه بإحضار الدكتور "نجيب محفوظ" - الذي أصبح من أشهر أطباء النساء والتوليد في العالم- وأصر الأب على أن يسمي وليده باسم الدكتور القبطي الشهير" نجيب محفوظ".
كان نجيب أصغر الأبناء، لكنه عاش مع أبيه وأمه كأنه طفل وحيد؛ لأن الفارق الزمني بينه وبين أصغر إخوته كان لا يقل عن عشر سنوات، وكانوا كلهم رجالا ونساء قد تزوجوا وغادروا بيت العائلة، إلا أصغرهم الذي التحق بالكلية الحربية، ثم عمل بالسودان بعد تخرجه مباشرة، لذلك كانت علاقته بأمه علاقة وطيدة، وكان تأثيرها فيه عميقا، بعكس والده الذي كان طوال الوقت في عمله خارج البيت، وكان صموتا لا يتحدث كثيرا داخل البيت، ويصف نجيب والدته بأنها: "سيدة أمية لا تقرأ ولا تكتب، ومع ذلك كانت مخزنا للثقافة الشعبية.. وكانت تعشق سيدنا الحسين وتزوره باستمرار.. والغريب أن والدتي أيضا كانت دائمة التردد على المتحف المصري، وتحب قضاء أغلب 
الوقت في حجرة المومياوات.. ثم إنها كانت بنفس الحماس تذهب لزيارة الآثار القبطية خاصة دير "مار جرجس".. وكنت عندما أسألها عن حبها للحسين و"مار جرجس" في نفس الوقت تقول "كلهم بركة" وتعتبرهم "سلسلة واحدة".. والحقيقة أنني تأثرت بهذا التسامح الجميل لأن الشعب المصري لم يعرف التعصب، وهذه هي روح الإسلام الحقيقية".
في العشاء الشعبي الذي كانت تقيمه له دوما مركب فرح بوت ولأصدقائه، فول، بصارة، طحينة، زيتون مخلل، عيش، باذنجان مخلل، طعمية، شوربة عدس، وجميع أنواع السلطات إلى جانب الطورشي البلدي، كان يسعد كاتبنا الكبير بالمحيط الشعبي الذي يحيطه، كان لا يأكل بأمر الطبيب، لكنه كان يستمتع بمشاهدة الأطعمة الشعبية المصرية وباستنشاق رائحتها التي شبهها يوماً وكأنها النيل حينما تطالعك صفحة مياهه الحكيمة المقدسة،يذهب عنك الاكتئاب ولا يقفز في عقلك أثناء اندماجك معه في بورتريه خاص إلا نسائم الإبداع من فضاءاتها الفسيحة الرحبة، هكذا الإحساس حين تخترق رائحة تلك الأكلات الشعبية وجدان نجيب محفوظ فتنتعش أصالته، حتى وإن كان ممنوعاً من تناولها بأمر الطبيب.
قال له أحدهم وهو يداعبه: إذن فهي الشيخوخة يا نجيب بك، وليست حجة الطبيب.
فرد كاتبنا الكبير: الشيخوخة تنشد السلامة يا صديقي
وهنا دفعتني كلمته تلك إلى جملة قالها في أحدى رواياته والتي كان يرمي فيها إسقاطات سياسية رفيعة المستوى على ما آل عليه حكم البلاد في ذلك الوقت، صحت بفرح وقلت: "الشباب يبحث عن المغامرة والشيخوخة تنشد السلامة"، في أي رواية كتبت تلك العبارة؟
كنت أعلم أن نجيب محفوظ ثقيل السمع ولكن فوجئ الحاضرون أنه أسبق الناس إلى الإجابة بكلمة واحدة: ميرامار
وهنا صفق الجميع إذ أدهشهم أنه سمع الجملة وأجاب عليها قبلهم دون أن ينقلها له أحدهم بصوت مرتفع، يسمع كاتبنا إذن ما يريد أن يسمعه وتلك بادرة صحية، وهنا أدار كاتبنا وجهه بجديه شديدة إلى جموع الجالسين من حوله بعد أن انتصبوا بظهورهم قليلا بعيدا عن مائدة الطعام في انتباهه لما سيقوله، ووجدناه يقول: "ما جدوى الندم بعد الثمانين.."، وكأنه بهذه الجملة يلخص رواية ميرا مار بأكملها، ويسقط بجملته هذه نوعاً من الثورة ضد الواقع السياسي الذي يحياه الوطن الآن ونحن في معيته.
سألته مشاغباً - كما تعلمت فن المشاغبة الجميل والراقي من فطاحل الثقافة والفن والأدب المحيطين بنا في الجلسة - وقلت: ميرامار التي كان سيعتقلك عبد الناصر بسببها؟
ولكن كاتبنا كانت ملامح وجهه مازالت عابسة متجهمه وكان وكأنه ينظر إلى أعماقه، وكأنه ليس معنا، وهنا ردد عليه الجالس بجواره سؤالي بصوت مرتفع جداً، وهنا ضحك كاتبنا الكبير ضحكته المشاغبة الساحرة فعرفنا أنه عاد ثم قال: ليست ميرامار ولكنها ثرثرة فوق النيل، قرأها المشير عبد الحكيم عامر فقرر إعتقالي، تصور الرواية أنا كاتبها ضد الحكومة والنظام، ولكن الدكتور ثروت عكاشة – ربنا يحميه – جلس مع جمال عبد الناصر ونبهه : الرواية ليست ضد النظام، ولو إعتقلناه ياريس الناس مش هتسكت، ورجعت العربية بالعساكر قبل مايعتقلوني .. ربنا يحميه ثروت.

الخميس، 21 أبريل 2011

الثورة المضادة في مصر والمماليك الجدد

بقلم: محيي الدين إبراهيم
على قادة الثورة المضادة الآن في مصر أو المماليك الجدد الذين يظنون أن مصر بثورة 25 يناير 2011 بعد مائتي عام من ذكرى التخلص من المماليك القدامى قد اصبحت دولة ضعيفة وتنتابها الفوضى وأن لهم الحق في إشاعة الفوضى وقطع الطرق ورفع شعارات طائفية انهم سيحققون ما يظنون أنه سهل المنال فهم واهمون، لأن مصر أقوى مما يتوقعوا ومن حلفائهم في الشرق والغرب.
قال اينشتاين: اثنان لا حدود لهما .. الكون الواسع .. والغباء الإنساني.
تمر علينا هذه الأيام الذكري المئتين لمذبحة المماليك الثالثة والأخيرة على يد الضابط محمد علي ( 1مارس – 22 ابريل ) من عام 1811، وأقول ذكرى ولا أقول احتفالا لأن مصر لا تحتفل بها أبدا رغم أنها كانت القنطرة الوحيدة للعبور إلى مصر الحديثة إذ يعتبر التاريخ أن محمد على أبو مصر الحديثة وصاحب شعار ( مصر للمصريين ).
يقول كارل كوستاف يونج، مؤسس علم النفس التحليلي ( 1875 – 1961 ) والذي ساعد مكتب الخدمات الاستراتيجية في تحليل شخصية الزعماء النازيين لصالح الولايات المتحدة ما مفاده أن الأمم العظيمة تستلهم في حاضرها أحداثاً بعينها من تاريخها حتى ليتراءى لنا أن التاريخ يعيد نفسه، فهل تستلهم مصر اليوم تاريخها منذ مائتي عام حينما تخلص محمد علي باشا من المماليك ( الثورة المضادة ) وتتخلص هي ايضا وشباب ثورة 25 يناير ( شباب التغيير ) من الثورة المضادة ( المماليك الجدد ) ودعاة تقسيم مصر وقادة مناهج الفتنة الذين يستقووا بالغرب وبأميركا وبعض دول الجوار ضد مصر وابناء شعبهم الواحد من المصريين حسب زعم " يونج " نقول ربما!
كان محمد علي (4 مارس 1769 - 2 أغسطس 1849) هو نائب رئيس الكتيبة الألبانية والتي كان قوامها ثلاثمائة جندي، حينما نزل إلي مصر لعقاب الخونة من جواسيس المماليك الذين فتحوا مصر لفرنسا عام 1798 ( كانت الحملة الفرنسية مكونة من 30 الف محارب ) ونجاحهم في ذلك الى حد ما، ولكنهم – أي المماليك – بعد انتصار محمد علي السريع في عدة مواقع، سلموا مصر مرة اخرى لأعدائها ولكن هذه المرة للإنجليز حيث كان أمين بك محافظاً على رشيد وسلمها بالكامل للكولونيل فريزر قائد الأسطول الانجليزي مقابل حماية الإنجليز للمماليك وأن يخلصهم من محمد على لتستمر الحرب بين الإنجليز والمصريين قرابة العامين وتنتهي بانتصار المصريين وحيث يشاهد محمد علي فيها وبأم عينه عظمة المقاتل المصري ضد اعدائه في الداخل والخارج وربما يبوح بذلك عن عمد للشيخ عبد الله الشرقاوي، الذي كان قد ترأس الديوان الاستشاري الذي اسسه نابليون حينما غزا مصر ليستميل أهلها وكان ذلك الديوان مؤلفاً من المشايخ والعلماء المسلمين ومكونا من11عالما.
كان الشيخ عبدالله الشرقاوي يشك قليلا في محمد علي، يخشى أن يضحك عليه كما ضحك نابليون على المصريين، ضحك على المشايخ والأئمة وعلى الشيخ عبدالله الشرقاوي نفسه، وزعم انه الشيخ علي بونابردي باشا الفرنساوي، وكان يتجوّل في شوارع القاهرة وهو يرتدي الملابس الشرقية والعمامة والجلباب، وكان يتردد إلى المساجد في أيام الجمع ويسهم بالشعائر الدينية التقليدية بالصلاة ويؤم المصلين، ويردد عليهم بعد صلاة العشاء في ليلة الجمعة أن الإسلام كالمسيحية تفسدهما السياسة ويلعب القائمون عليهما بالنار إذا تخطوا حدود أماكن العبادة لأنهم يتركون مملكة الله ويدخلون مملكة الشيطان‏ وكان دائما ما ينهي خطبته للمصلين بهذا الدعاء : ادام الله اجلال السلطان العثماني، ادام الله اجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك، واصلح حال الأمة المصرية" وقد اساء بونابرت التصرف ببشاعة وصلت لحد القتل والاغتيال مع المسيحيين المصريين بعد رفضهم التعاون معه في احتلال مصر مقابل تسليمهم مفاتيح مدينة القدس وكان يبرر اساءته للمسيحين في مصر بقوله حتى تقولوا لأمتكم أيها المسلمون ان الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون وإثبات ذلك ماثل للعيان وانهم قبل ذلك قد نزلوا في روما الكبرى وخرّبوا فيها كرسي البابا الذي كان دائماً يحّث النصارى على محاربة الإسلام، وهو ما كان يدفع المصريين لأن لا يصلوا ورائه ويتركوه مذعورين الى مساجد اخرى وهو ما دفعه – ربما - لتكوين ديوان استشاري ذلك الديوان الذي خدع به الناس وعلى رأسهم الشيخ عبد الله الشرقاوي بعد أن فشلت مساعيه الشخصية وبنفسه في فتنة شعب مصر.
ينظر الشيخ عبد الله الشرقاوي لمحمد علي، يتفحصه، يدرك أن محمد علي مثله الأعلى نابليون بونابرت، يقول له: لقد شنق بونابرت الشيخ محمد كريم أمام أعيننا في ميدان الرميلة بالقاهرة المحروسة، قتل المشايخ والقساوسة بجانب المماليك وانني لم اقبل رئاسة الديوان الذي أنشأه وأنا أعلم نواياه إلا للحفاظ على بقية الأئمة من القتل والاغتيال، ولكن هذا أيضا لم يشفع لي عند كثير من المصريين.
كان محمد علي يؤمن فعلا بنابليون بونابرت، يعشقه الى حد النخاع كرجل وقائد عسكري، ويردد مقولته الشهيرة: من يحكم مصر بإمكانه أن يغير التاريخ‏، وأن يحكم العالم، كان محمد علي لا يريد من الشيخ عبد الله الشرقاوي إلا أن يزكيه عند عمر مكرم كبير القاهرة، أو قل كبير الكبراء في القاهرة المحروسة، إن آمن به عمر بك مكرم فلا جدال أن يصبح محمد علي واليا على مصر لما لهذا الرجل من كلمة نافذة واحترام عند السلطان العثماني.
آمن شباب المصريين من ابناء الفلاحين بمحمد علي، كانوا يصورونه في حكاياتهم الشعبية أمام البيوت في القري كأنه رسول العدل من السماء، انه أرحم على الفلاحين من المماليك، بل وأخذ يضم بعض ابناء الفلاحين للأرناؤوط وعساكر الأرناؤوط الألبان رغم جهلهم بفنون القراءة والكتابة بل وفنون القتال أيضاً لكنهم كانوا مؤمنين بالتغيير ولديهم الروح والطموح والانتماء الذي يمكنهم من تحقيق هذه الغاية، إنها روح المقاتل الشريف، هذا ما آمن به محمد علي في أبناء الفلاحين وكان هذا الإيمان بمثابة كلمة السر التي فتحت له قلب واحترام عمر بك مكرم حتى قبل أن يزكيه الشيخ عبد الله الشرقاوي وليصير محمد علي بالفعل واليا على مصر عام 1805 وسط إجماع شعبي منقطع النظير لأنه اختيار شباب التغيير، اختيار الفلاحين الذين أقاموا أفراح شعبية في القرى والنجوع وشوارع القاهرة المحروسة استمرت أكثر من شهر تقريباً، كان يوزع فيها محمد علي الأطعمة بنفسه أحيانا على أهالي القاهرة، وهو ما أثار غيرة المماليك وحتى زملائه الضباط أيضاً الذين جاءوا معه من ألبانيا، وقامت عدة محاولات باغتياله فشلت جميعها بسبب تصدي المصريين ( أبناء الفلاحين ) لها.
لقد بدأت الثورة المضادة بالفعل، ووصلت بفساد قادتها للحد الذي جعلهم يدعون لتقسيم مصر إلى ولايات وإمارات وأن يستعينوا بالإنجليز على ذلك بل ويسهلوا لهم احتلال مصر ويسلم بالفعل أمين بك محافظ رشيد المدينة بالكامل للكولنيل الإنجليزي "فريزر" مقابل بقاءه واليا على الوجه البحري وكذلك التخلص من محمد علي بك وهو الأمر الذي دعا المصريين لأن يقاتلوا لمدة عامين ضد الإنجليز ومعهم كل قادة الثورة المضادة من المماليك والذين عاونوهم وساعدوهم على غزو الإنجليز لمصر مقابل مصالحهم الشخصية واعتلاء الحكم رغما عن المصريين أنفسهم، وقد قتل في هذه الحرب الى جانب عسكر الإنجليز اكثر من عشرة ألاف مملوك على ما اقترفت ايديهم في حق مصر واستعانتهم واستقوائهم بالأجانب ضد اهل البلد، ولكن هرب أمين بك للصعيد واحتمى برهبان الكنيسة الكاثوليكية التي انشأتها حملة نابليون في اسيوط وكذلك الأخرى الموجودة بجوار مسجد قنصوه الغوري في القاهرة المحروسة والتي كان الغرض من انشائهما القضاء على سلطة الكنيسة القبطية نهائيا.
لابد إذن من القضاء على الثورة المضادة الآن، وكانت مذبحة القلعة في 1 مارس عام 1811 بعد الانتصار على الانجليز ببضعة اشهر ومنذ مائتي عام بالضبط من الآن.
كانت مجزرة رهيبة قتل فيها ألف ومائتين من اعظم قادة المماليك، والمدهش أنه لم ينجو من هذه المذبحة إلا أمين بك الخائن الذي سلم مصر للإنجليز حيث قفز بحصانه من فوق سور القلعة وبدلا من أن يهرب للرهبان الكاثوليك في اسيوط هرب إلى دمشق عاصمة الشام، وظل الأرناؤوط لمدة أيام يجوسون فيها خلال الديار ويقتلوا اي مملوك يجدونه حتى ولو كان عمره عام واحد، وتخلص محمد علي من المماليك للأبد ومن قادة الثورة المضادة نهائياً.
كان أمام الأزهر والكنيسة القبطية ومدارس اليهود بالإسكندرية اختيار واحد من اثنين لا ثالث لهما، إما أن ينفتحوا على العلوم الدنيوية بما يخدم الإمبراطورية المصرية تحت قيادة محمد علي أو أن يشنق قادة هذه المنابر جميعا دون رحمة ويأتي بقوم غيرهم، حيث كانت تلك الأماكن هي حظيرة المثقفين الوحيدة في مصر وكان عدد المتعلمين في مصر لا يتعدى بضعة آلاف أو ربما مئات في الطوائف الثلاث، وكل منهم له لغته التي يقوم بتدريسها ولكل منهم أمته وقومه، فرفع شعار مصر للمصريين، وضم الثلاثة تحت لواء مصر وجعلهم يختاروا النوابغ من ابناء كل طائفة لأرسالهم في بعثات لأوروبا على أن يعودوا لخدمة مصر وتعليم أبناء مصر، فقوة الجيش الذي يحلم أن تتكون به أمبراطوريته لن تكون بجحافل من الجهلاء ( كالأمن المركزي حالياً ) فالجهل عين الهزيمة ورحم الاستعباد والذل، واستجاب قادة الطوائف الثلاث لتحقيق الحلم وفي عام 1815 تقريبا كانت مصر ولأول مرة منذ 500 عام دولة واحدة وأمة واحدة بأقباطها ومسلميها ويهودها، وكان يتعلم أبناء المصريين في أي دار علم شاءوا وتفوقت مدارس الكنيسة القبطية في تدريس مناهج المحاسبة و العقود وكل ما يخص أرشفة وبناء الدولة الحديثة وكانت أحيانا تخرج الكنيسة من مدارسها عددا من طلابها المسلمين يفوق عددهم عدد المسيحيين، وتفوق الأزهر في القانون واللغات وحتى تكون علومه للمصريين عامة كون المدارس المدنية التي كان على رأسها مدرسة الألسن للطهطاوي أحد مبعوثي محمد علي النابهين لفرنسا وكان طلابها من المصريين جميعا مسلمين وأقباط ويهود، عشق المصريون محمد علي إلى حد الثمالة.
انتهت الثورة المضادة إذن باستئصال شأفة قادتها ( بالعنف للأسف فلم يكن يجدي مع هؤلاء الأغبياء سوى العنف)، تم استئصال شأفة دعاة التقسيم، وقادة الفتنة، وكل من جعل ولاءه للمماليك أو للقوى الخارجية واستقوى بالإنجليز أو الفرنساوية على مصر تحت خدعة وكذبة خوفه على مصر، انتهت الثورة المضادة وضاع قادتها للأبد في مزبلة التاريخ، وحتى يضمن محمد علي بقاء أمبراطوريته واتساعها وقوتها كان عليه أن يجهز من شباب التغيير المؤمنين بحتمية التغيير ومن ابناء الفلاحين المتعلمين قاعدة جيشه، وللأسف يذكر مؤرخي ما بعد ثورة 1952 أن محمد علي استعان بالمماليك لتكوين نواة جيشه وهي مسألة عجيبة في تقديري الغرض منها تشويه صورة محمد على مقابل رجال ثورة 52 خاصة بعد التخلص من أخر ملوك اسرته الملك فاروق الأول وحتى لا يجعلوه صاحب جميل كونه أبو مصر الحديثة، إذ كيف تكون كل هذه العداوة بينه وبين المماليك ويكون جيشه من المماليك؟، مسألة عجيبة فعلاً، لقد كانت نواة الجيش الأولى من ابناء الفلاحين المصريين الذين يؤمن بهم محمد علي جداً، ويؤمن أنه بهم وبهم فقط سيحقق مقولة نابليون التي تتردد في آذانه ليل نهار: من يحكم مصر بإمكانه أن يغير التاريخ‏، وأن يحكم العالم، وفي عام 1819 كانت اسوان هي المقر لأول كلية دفاع في تاريخ مصر تحوي 100 جندي مصري من ابناء الفلاحين ويعلمهم فنون الحرب والدعم اللوجيستي علي مدي ثلاث سنوات العقيد سليمان باشا الفرنساوي أو العقيد أوكتاف جوزيف انتلم سف Joseph François Anthelme Sève أحد أهم قادة جيش نابليون بونابرت ضد روسيا، لينتصر شباب التغيير لدرجة أن يضعوا علم مصر فوق منابع النيل بأثيوبيا ويقولون لإمبراطورها في ذلك الوقت هكذا إذن صارت منابع النيل مصرية.
على قادة الثورة المضادة الآن في مصر أو المماليك الجدد الذين يظنون أن مصر بثورة 25 يناير 2011 بعد مائتي عام من ذكرى التخلص من المماليك القدامى قد اصبحت دولة ضعيفة وتنتابها الفوضى وأن لهم الحق في أن يدعوا بغباء انساني تقسيمها إلى ثلاث إمارات اسلامية وقبطية ونوبية، وان يصنعوا ميليشات لإشاعة الفوضى وقطع الطرق السريعة في القاهرة والمحور وسكك حديد قنا مع رفع شعارات طائفية انهم سيحققون ما يظنون أنه سهل المنال فهم واهمون، لأن مصر أقوى مما يتوقعوا أقوى منهم ومن حلفائهم في الشرق والغرب، ومصر تنظر أليهم الآن لتعرفهم واحدا واحداً وتثبت عليهم تهمة التآمر بألسنتهم، زكريا عزمي نفسه لم يدخل السجن ويتم التحقيق معه إلا بعد حوار تلفزيوني له مع أحد البرامج، وكما يقول المثل العربي " جنت على نفسها براقش" وهكذا يجني على أنفسهم بالنباح المماليك الجدد، لقد دعا شباب التغيير كل الذين استبعدوا من مصر خلال العهد السابق الفاسد والغارق في الفساد بكل مماليكه من رئيسهم المخلوع ووريثة وحتى أقل مملوك فيهم، دعا شباب التغيير كل المصريين الغرباء في المهجر القسري إلى أن يعودوا لمصر، فعاد منهم الآلاف بعد غياب دام لأكثر من ثلاثين عاما ولكن بعضهم عاد بالفتنة، عاد متصورا أنه يمكنه أن يعلن نفسه زعيما أو يقتسم غنيمة أو يصنع أتباع، أو يتولى أمارة أو جزء من أرض مصر يحكم فيه حلفائه واتباعه، وغرق هؤلاء التائهون الواهمون في غبائهم الإنساني وعرفتهم مصر بدءا من قادة معركة ( الظرايب ) بالظاء عمدا وليس الزاى من مماليك المهجر الأوروبي والأمريكي ، وانتهاء بمماليك امارة قنا الإسلامية مماليك مهجر افغانستان وشيشنيا، لقد شهدوا على انفسهم، وحين يستقر محمد علي الجديد، وبالمناسبة هو ليس شخص الرئيس القادم ولكن شخص النظام القادم الذي سيحكم من وراء الرئيس القادم ومن وراء برلمانه، حين يستقر هذا المحمد علي باشا الجديد، وتحت شعار مصر ابنة الجيش، الذي راح ضحيته حسني مبارك بسبب وريثه المدني، سيتم التخلص من كل المماليك الجدد، وحلفائهم وأبواق اعلامهم وتلفزيوناتهم حتى تكتظ بهم مزرعة طرة ومن حولها مع قادتهم القابعين فيها الآن على ذمة التحقيق وعلى رأسهم الرئيس المخلوع وحاشية قصره وورثة فساده، مصر قوية بجيشها، مصر قوية بشباب التغيير الذي قدم حياته لبناء مصر الحديثة، مصر لن تتراجع حتى عن عقاب من يحاولوا طمس ملامح نورها الجديد وفجرها الجديد وحريتها الجديدة بعد ثلاثين عاماً من قهر جبابرة العصر الحديث وقائدهم مبارك.
في الذكرى المائتين لمذبحة المماليك القدامى في القلعة عام 1811 في مثل هذا التاريخ ومثل هذا الشهر، نقول للمماليك الجدد قادة الثورة المضادة في مصر اليوم وقادة التقسيم والفتنة كما قال كارل كوستاف يونج، مؤسس علم النفس التحليلي أن مصر ربما تكون الآن في حالة استلهام لأحداث الماضي من تاريخها وربما يعيد التاريخ نفسه فأحذروه واحذروا بطشة المصريين إذا غضبوا. 

الثورة المضادة في مصر والمماليك الجدد

بقلم: محيي الدين إبراهيم
على قادة الثورة المضادة الآن في مصر أو المماليك الجدد الذين يظنون أن مصر بثورة 25 يناير 2011 بعد مائتي عام من ذكرى التخلص من المماليك القدامى قد اصبحت دولة ضعيفة وتنتابها الفوضى وأن لهم الحق في إشاعة الفوضى وقطع الطرق ورفع شعارات طائفية انهم سيحققون ما يظنون أنه سهل المنال فهم واهمون، لأن مصر أقوى مما يتوقعوا ومن حلفائهم في الشرق والغرب.
قال اينشتاين: اثنان لا حدود لهما .. الكون الواسع .. والغباء الإنساني.
تمر علينا هذه الأيام الذكري المئتين لمذبحة المماليك الثالثة والأخيرة على يد الضابط محمد علي ( 1مارس – 22 ابريل ) من عام 1811، وأقول ذكرى ولا أقول احتفالا لأن مصر لا تحتفل بها أبدا رغم أنها كانت القنطرة الوحيدة للعبور إلى مصر الحديثة إذ يعتبر التاريخ أن محمد على أبو مصر الحديثة وصاحب شعار ( مصر للمصريين ).
يقول كارل كوستاف يونج، مؤسس علم النفس التحليلي ( 1875 – 1961 ) والذي ساعد مكتب الخدمات الاستراتيجية في تحليل شخصية الزعماء النازيين لصالح الولايات المتحدة ما مفاده أن الأمم العظيمة تستلهم في حاضرها أحداثاً بعينها من تاريخها حتى ليتراءى لنا أن التاريخ يعيد نفسه، فهل تستلهم مصر اليوم تاريخها منذ مائتي عام حينما تخلص محمد علي باشا من المماليك ( الثورة المضادة ) وتتخلص هي ايضا وشباب ثورة 25 يناير ( شباب التغيير ) من الثورة المضادة ( المماليك الجدد ) ودعاة تقسيم مصر وقادة مناهج الفتنة الذين يستقووا بالغرب وبأميركا وبعض دول الجوار ضد مصر وابناء شعبهم الواحد من المصريين حسب زعم " يونج " نقول ربما!
كان محمد علي (4 مارس 1769 - 2 أغسطس 1849) هو نائب رئيس الكتيبة الألبانية والتي كان قوامها ثلاثمائة جندي، حينما نزل إلي مصر لعقاب الخونة من جواسيس المماليك الذين فتحوا مصر لفرنسا عام 1798 ( كانت الحملة الفرنسية مكونة من 30 الف محارب ) ونجاحهم في ذلك الى حد ما، ولكنهم – أي المماليك – بعد انتصار محمد علي السريع في عدة مواقع، سلموا مصر مرة اخرى لأعدائها ولكن هذه المرة للإنجليز حيث كان أمين بك محافظاً على رشيد وسلمها بالكامل للكولونيل فريزر قائد الأسطول الانجليزي مقابل حماية الإنجليز للمماليك وأن يخلصهم من محمد على لتستمر الحرب بين الإنجليز والمصريين قرابة العامين وتنتهي بانتصار المصريين وحيث يشاهد محمد علي فيها وبأم عينه عظمة المقاتل المصري ضد اعدائه في الداخل والخارج وربما يبوح بذلك عن عمد للشيخ عبد الله الشرقاوي، الذي كان قد ترأس الديوان الاستشاري الذي اسسه نابليون حينما غزا مصر ليستميل أهلها وكان ذلك الديوان مؤلفاً من المشايخ والعلماء المسلمين ومكونا من11عالما.
كان الشيخ عبدالله الشرقاوي يشك قليلا في محمد علي، يخشى أن يضحك عليه كما ضحك نابليون على المصريين، ضحك على المشايخ والأئمة وعلى الشيخ عبدالله الشرقاوي نفسه، وزعم انه الشيخ علي بونابردي باشا الفرنساوي، وكان يتجوّل في شوارع القاهرة وهو يرتدي الملابس الشرقية والعمامة والجلباب، وكان يتردد إلى المساجد في أيام الجمع ويسهم بالشعائر الدينية التقليدية بالصلاة ويؤم المصلين، ويردد عليهم بعد صلاة العشاء في ليلة الجمعة أن الإسلام كالمسيحية تفسدهما السياسة ويلعب القائمون عليهما بالنار إذا تخطوا حدود أماكن العبادة لأنهم يتركون مملكة الله ويدخلون مملكة الشيطان‏ وكان دائما ما ينهي خطبته للمصلين بهذا الدعاء : ادام الله اجلال السلطان العثماني، ادام الله اجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك، واصلح حال الأمة المصرية" وقد اساء بونابرت التصرف ببشاعة وصلت لحد القتل والاغتيال مع المسيحيين المصريين بعد رفضهم التعاون معه في احتلال مصر مقابل تسليمهم مفاتيح مدينة القدس وكان يبرر اساءته للمسيحين في مصر بقوله حتى تقولوا لأمتكم أيها المسلمون ان الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون وإثبات ذلك ماثل للعيان وانهم قبل ذلك قد نزلوا في روما الكبرى وخرّبوا فيها كرسي البابا الذي كان دائماً يحّث النصارى على محاربة الإسلام، وهو ما كان يدفع المصريين لأن لا يصلوا ورائه ويتركوه مذعورين الى مساجد اخرى وهو ما دفعه – ربما - لتكوين ديوان استشاري ذلك الديوان الذي خدع به الناس وعلى رأسهم الشيخ عبد الله الشرقاوي بعد أن فشلت مساعيه الشخصية وبنفسه في فتنة شعب مصر.
ينظر الشيخ عبد الله الشرقاوي لمحمد علي، يتفحصه، يدرك أن محمد علي مثله الأعلى نابليون بونابرت، يقول له: لقد شنق بونابرت الشيخ محمد كريم أمام أعيننا في ميدان الرميلة بالقاهرة المحروسة، قتل المشايخ والقساوسة بجانب المماليك وانني لم اقبل رئاسة الديوان الذي أنشأه وأنا أعلم نواياه إلا للحفاظ على بقية الأئمة من القتل والاغتيال، ولكن هذا أيضا لم يشفع لي عند كثير من المصريين.
كان محمد علي يؤمن فعلا بنابليون بونابرت، يعشقه الى حد النخاع كرجل وقائد عسكري، ويردد مقولته الشهيرة: من يحكم مصر بإمكانه أن يغير التاريخ‏، وأن يحكم العالم، كان محمد علي لا يريد من الشيخ عبد الله الشرقاوي إلا أن يزكيه عند عمر مكرم كبير القاهرة، أو قل كبير الكبراء في القاهرة المحروسة، إن آمن به عمر بك مكرم فلا جدال أن يصبح محمد علي واليا على مصر لما لهذا الرجل من كلمة نافذة واحترام عند السلطان العثماني.
آمن شباب المصريين من ابناء الفلاحين بمحمد علي، كانوا يصورونه في حكاياتهم الشعبية أمام البيوت في القري كأنه رسول العدل من السماء، انه أرحم على الفلاحين من المماليك، بل وأخذ يضم بعض ابناء الفلاحين للأرناؤوط وعساكر الأرناؤوط الألبان رغم جهلهم بفنون القراءة والكتابة بل وفنون القتال أيضاً لكنهم كانوا مؤمنين بالتغيير ولديهم الروح والطموح والانتماء الذي يمكنهم من تحقيق هذه الغاية، إنها روح المقاتل الشريف، هذا ما آمن به محمد علي في أبناء الفلاحين وكان هذا الإيمان بمثابة كلمة السر التي فتحت له قلب واحترام عمر بك مكرم حتى قبل أن يزكيه الشيخ عبد الله الشرقاوي وليصير محمد علي بالفعل واليا على مصر عام 1805 وسط إجماع شعبي منقطع النظير لأنه اختيار شباب التغيير، اختيار الفلاحين الذين أقاموا أفراح شعبية في القرى والنجوع وشوارع القاهرة المحروسة استمرت أكثر من شهر تقريباً، كان يوزع فيها محمد علي الأطعمة بنفسه أحيانا على أهالي القاهرة، وهو ما أثار غيرة المماليك وحتى زملائه الضباط أيضاً الذين جاءوا معه من ألبانيا، وقامت عدة محاولات باغتياله فشلت جميعها بسبب تصدي المصريين ( أبناء الفلاحين ) لها.
لقد بدأت الثورة المضادة بالفعل، ووصلت بفساد قادتها للحد الذي جعلهم يدعون لتقسيم مصر إلى ولايات وإمارات وأن يستعينوا بالإنجليز على ذلك بل ويسهلوا لهم احتلال مصر ويسلم بالفعل أمين بك محافظ رشيد المدينة بالكامل للكولنيل الإنجليزي "فريزر" مقابل بقاءه واليا على الوجه البحري وكذلك التخلص من محمد علي بك وهو الأمر الذي دعا المصريين لأن يقاتلوا لمدة عامين ضد الإنجليز ومعهم كل قادة الثورة المضادة من المماليك والذين عاونوهم وساعدوهم على غزو الإنجليز لمصر مقابل مصالحهم الشخصية واعتلاء الحكم رغما عن المصريين أنفسهم، وقد قتل في هذه الحرب الى جانب عسكر الإنجليز اكثر من عشرة ألاف مملوك على ما اقترفت ايديهم في حق مصر واستعانتهم واستقوائهم بالأجانب ضد اهل البلد، ولكن هرب أمين بك للصعيد واحتمى برهبان الكنيسة الكاثوليكية التي انشأتها حملة نابليون في اسيوط وكذلك الأخرى الموجودة بجوار مسجد قنصوه الغوري في القاهرة المحروسة والتي كان الغرض من انشائهما القضاء على سلطة الكنيسة القبطية نهائيا.
لابد إذن من القضاء على الثورة المضادة الآن، وكانت مذبحة القلعة في 1 مارس عام 1811 بعد الانتصار على الانجليز ببضعة اشهر ومنذ مائتي عام بالضبط من الآن.
كانت مجزرة رهيبة قتل فيها ألف ومائتين من اعظم قادة المماليك، والمدهش أنه لم ينجو من هذه المذبحة إلا أمين بك الخائن الذي سلم مصر للإنجليز حيث قفز بحصانه من فوق سور القلعة وبدلا من أن يهرب للرهبان الكاثوليك في اسيوط هرب إلى دمشق عاصمة الشام، وظل الأرناؤوط لمدة أيام يجوسون فيها خلال الديار ويقتلوا اي مملوك يجدونه حتى ولو كان عمره عام واحد، وتخلص محمد علي من المماليك للأبد ومن قادة الثورة المضادة نهائياً.
كان أمام الأزهر والكنيسة القبطية ومدارس اليهود بالإسكندرية اختيار واحد من اثنين لا ثالث لهما، إما أن ينفتحوا على العلوم الدنيوية بما يخدم الإمبراطورية المصرية تحت قيادة محمد علي أو أن يشنق قادة هذه المنابر جميعا دون رحمة ويأتي بقوم غيرهم، حيث كانت تلك الأماكن هي حظيرة المثقفين الوحيدة في مصر وكان عدد المتعلمين في مصر لا يتعدى بضعة آلاف أو ربما مئات في الطوائف الثلاث، وكل منهم له لغته التي يقوم بتدريسها ولكل منهم أمته وقومه، فرفع شعار مصر للمصريين، وضم الثلاثة تحت لواء مصر وجعلهم يختاروا النوابغ من ابناء كل طائفة لأرسالهم في بعثات لأوروبا على أن يعودوا لخدمة مصر وتعليم أبناء مصر، فقوة الجيش الذي يحلم أن تتكون به أمبراطوريته لن تكون بجحافل من الجهلاء ( كالأمن المركزي حالياً ) فالجهل عين الهزيمة ورحم الاستعباد والذل، واستجاب قادة الطوائف الثلاث لتحقيق الحلم وفي عام 1815 تقريبا كانت مصر ولأول مرة منذ 500 عام دولة واحدة وأمة واحدة بأقباطها ومسلميها ويهودها، وكان يتعلم أبناء المصريين في أي دار علم شاءوا وتفوقت مدارس الكنيسة القبطية في تدريس مناهج المحاسبة و العقود وكل ما يخص أرشفة وبناء الدولة الحديثة وكانت أحيانا تخرج الكنيسة من مدارسها عددا من طلابها المسلمين يفوق عددهم عدد المسيحيين، وتفوق الأزهر في القانون واللغات وحتى تكون علومه للمصريين عامة كون المدارس المدنية التي كان على رأسها مدرسة الألسن للطهطاوي أحد مبعوثي محمد علي النابهين لفرنسا وكان طلابها من المصريين جميعا مسلمين وأقباط ويهود، عشق المصريون محمد علي إلى حد الثمالة.
انتهت الثورة المضادة إذن باستئصال شأفة قادتها ( بالعنف للأسف فلم يكن يجدي مع هؤلاء الأغبياء سوى العنف)، تم استئصال شأفة دعاة التقسيم، وقادة الفتنة، وكل من جعل ولاءه للمماليك أو للقوى الخارجية واستقوى بالإنجليز أو الفرنساوية على مصر تحت خدعة وكذبة خوفه على مصر، انتهت الثورة المضادة وضاع قادتها للأبد في مزبلة التاريخ، وحتى يضمن محمد علي بقاء أمبراطوريته واتساعها وقوتها كان عليه أن يجهز من شباب التغيير المؤمنين بحتمية التغيير ومن ابناء الفلاحين المتعلمين قاعدة جيشه، وللأسف يذكر مؤرخي ما بعد ثورة 1952 أن محمد علي استعان بالمماليك لتكوين نواة جيشه وهي مسألة عجيبة في تقديري الغرض منها تشويه صورة محمد على مقابل رجال ثورة 52 خاصة بعد التخلص من أخر ملوك اسرته الملك فاروق الأول وحتى لا يجعلوه صاحب جميل كونه أبو مصر الحديثة، إذ كيف تكون كل هذه العداوة بينه وبين المماليك ويكون جيشه من المماليك؟، مسألة عجيبة فعلاً، لقد كانت نواة الجيش الأولى من ابناء الفلاحين المصريين الذين يؤمن بهم محمد علي جداً، ويؤمن أنه بهم وبهم فقط سيحقق مقولة نابليون التي تتردد في آذانه ليل نهار: من يحكم مصر بإمكانه أن يغير التاريخ‏، وأن يحكم العالم، وفي عام 1819 كانت اسوان هي المقر لأول كلية دفاع في تاريخ مصر تحوي 100 جندي مصري من ابناء الفلاحين ويعلمهم فنون الحرب والدعم اللوجيستي علي مدي ثلاث سنوات العقيد سليمان باشا الفرنساوي أو العقيد أوكتاف جوزيف انتلم سف Joseph François Anthelme Sève أحد أهم قادة جيش نابليون بونابرت ضد روسيا، لينتصر شباب التغيير لدرجة أن يضعوا علم مصر فوق منابع النيل بأثيوبيا ويقولون لإمبراطورها في ذلك الوقت هكذا إذن صارت منابع النيل مصرية.
على قادة الثورة المضادة الآن في مصر أو المماليك الجدد الذين يظنون أن مصر بثورة 25 يناير 2011 بعد مائتي عام من ذكرى التخلص من المماليك القدامى قد اصبحت دولة ضعيفة وتنتابها الفوضى وأن لهم الحق في أن يدعوا بغباء انساني تقسيمها إلى ثلاث إمارات اسلامية وقبطية ونوبية، وان يصنعوا ميليشات لإشاعة الفوضى وقطع الطرق السريعة في القاهرة والمحور وسكك حديد قنا مع رفع شعارات طائفية انهم سيحققون ما يظنون أنه سهل المنال فهم واهمون، لأن مصر أقوى مما يتوقعوا أقوى منهم ومن حلفائهم في الشرق والغرب، ومصر تنظر أليهم الآن لتعرفهم واحدا واحداً وتثبت عليهم تهمة التآمر بألسنتهم، زكريا عزمي نفسه لم يدخل السجن ويتم التحقيق معه إلا بعد حوار تلفزيوني له مع أحد البرامج، وكما يقول المثل العربي " جنت على نفسها براقش" وهكذا يجني على أنفسهم بالنباح المماليك الجدد، لقد دعا شباب التغيير كل الذين استبعدوا من مصر خلال العهد السابق الفاسد والغارق في الفساد بكل مماليكه من رئيسهم المخلوع ووريثة وحتى أقل مملوك فيهم، دعا شباب التغيير كل المصريين الغرباء في المهجر القسري إلى أن يعودوا لمصر، فعاد منهم الآلاف بعد غياب دام لأكثر من ثلاثين عاما ولكن بعضهم عاد بالفتنة، عاد متصورا أنه يمكنه أن يعلن نفسه زعيما أو يقتسم غنيمة أو يصنع أتباع، أو يتولى أمارة أو جزء من أرض مصر يحكم فيه حلفائه واتباعه، وغرق هؤلاء التائهون الواهمون في غبائهم الإنساني وعرفتهم مصر بدءا من قادة معركة ( الظرايب ) بالظاء عمدا وليس الزاى من مماليك المهجر الأوروبي والأمريكي ، وانتهاء بمماليك امارة قنا الإسلامية مماليك مهجر افغانستان وشيشنيا، لقد شهدوا على انفسهم، وحين يستقر محمد علي الجديد، وبالمناسبة هو ليس شخص الرئيس القادم ولكن شخص النظام القادم الذي سيحكم من وراء الرئيس القادم ومن وراء برلمانه، حين يستقر هذا المحمد علي باشا الجديد، وتحت شعار مصر ابنة الجيش، الذي راح ضحيته حسني مبارك بسبب وريثه المدني، سيتم التخلص من كل المماليك الجدد، وحلفائهم وأبواق اعلامهم وتلفزيوناتهم حتى تكتظ بهم مزرعة طرة ومن حولها مع قادتهم القابعين فيها الآن على ذمة التحقيق وعلى رأسهم الرئيس المخلوع وحاشية قصره وورثة فساده، مصر قوية بجيشها، مصر قوية بشباب التغيير الذي قدم حياته لبناء مصر الحديثة، مصر لن تتراجع حتى عن عقاب من يحاولوا طمس ملامح نورها الجديد وفجرها الجديد وحريتها الجديدة بعد ثلاثين عاماً من قهر جبابرة العصر الحديث وقائدهم مبارك.
في الذكرى المائتين لمذبحة المماليك القدامى في القلعة عام 1811 في مثل هذا التاريخ ومثل هذا الشهر، نقول للمماليك الجدد قادة الثورة المضادة في مصر اليوم وقادة التقسيم والفتنة كما قال كارل كوستاف يونج، مؤسس علم النفس التحليلي أن مصر ربما تكون الآن في حالة استلهام لأحداث الماضي من تاريخها وربما يعيد التاريخ نفسه فأحذروه واحذروا بطشة المصريين إذا غضبوا. 

الأحد، 27 مارس 2011

ديكتاتورية الحاكم هي المتسبب الرئيس في انتفاضة الشعوب

mohi_ibraheem
بقلم: محيي الدين إبراهيم

تنمي الفتن الطائفية والصراعات الأهلية عند المتصارعين والضحايا على حد سواء مشاعر الشجاعة وعدم الشعور بالخوف ومواجهة الصراع وكلها أمور تمهد السبيل المعنوي عند المضطهدين – مستقبلاً – في قبول الصراع والموت وتحدي النظام بثورة شعبية كحل وحيد وحتمي للحرية والعدالة والمساواة.
حكامنا لا يقرأون، وإذا قرأوا أقاموا علينا الحد!!

حكامنا لا يسمعون، وإذا سمعوا أقاموا علينا الحد!!
حكامنا لا ينظرون، وإذا نظروا أقاموا علينا الحد!!
ومن ثم فمن الطبيعي أن تثور الشعوب، أن تدمر قادتها الذين لا يقرأون شعوبهم ولا يسمعون ولا يسدوا رمق أحلام  البسطاء ببصيص من نور أو بقليل من حياة أفضل.
من الطبيعي أن تثور الشعوب، أن تدق أعناق جلاديها التي تراهم عبئا حضاريا عليها وعلى وجودها الإنساني كأمة ذات ضمير وكبرياء وكرامة.
– في عالمنا الثالث – الديكتاتور هو صاحب التغيير، ووحده صاحب الثورة، ووحده صاحب السلطة، ووحده مالك الدستور وحاكم الشعب. 
يحكم بانقلاب دموي أو سلمي ثم يعد الناس بدولة العدل والمساواة ثم في أقل من عام يتحول الوطن إلى مزرعة خاصة له ولعائلته، ومن كان يتغنى الأمس بالحرية، نراه يعتقل الناس اليوم في زنازين اليأس والبطالة والكبت والاغتيالات ليتسنى له " حَلب " الوطن تحت حماية وزراء داخليته الغلاظ والذين يختارهم بعناية، ومظلة تهميش الجيش بعدما يترأس هو قمته العليا رغم أنف الجيش نفسه.
الناس في بلادنا قد تصبر على الظلم، قد تصبر على الطغيان، الجوع، الحبس، القتل العشوائي، ، الفتنة، لكنها حين تغضب فلا عاصم لغضبتهم ولا نجاة من ثأرهم قبل ثورتهم، وان كانت تظن الديكتاتوريات أنها بمنأى من غضبة الناس وثورتهم وغليانهم فهذا وهم عاشه كل ديكتاتور سابق لإيمانه بما يأتيه من تقارير مفادها تفيد أن الجميع يسبحون بحمده وأن الكل ربما يتوجه إليه بالدعاء من دون الله - حاشا لله - والغريب أنه يصدق والتصديق هنا مرحلة من مراحل اللعنة حتى تحيط به خطيئته فيغتاله شعبه .
لم ينجو ديكتاتور واحد من شعبه، ولا ديكتاتور واحد نجا، بل أن نهاية كل واحد فيهم كانت من أقبح وأشنع النهايات التي يلقاها فاسد على وجه الأرض.
وربما يحضرني قول غسان المفلح وهو ناشط سوري يعيش في سويسرا "عندما يرغب ديكتاتورٌ أو حالمٌ بتنصيب نفسه ديكتاتوراً، يسارياً كان أو يمينياً، في أي مكان من العالم، وفي أي وقت كان، عندما يرغب في ذلك فهو يعزل المجتمع عن العالم أو يلجأ إلى القسوة ضد الحراك الديمقراطي وحيث يتبع برنامجاً محدداً بعشرة خطوات تقليدية، وهي (1)الإدعاء بوجود مؤامرة، وفتن طائفية وقبلية(2)تأسيس معتقلات سرية، (3) توظيف واستخدام ميليشيات مدنية مسلحة رديف له، (4) تأسيس جهاز مراقبة وتجسس، (5) اعتقال مواطنين بأسلوب تعسفي، (6) اختراق التجمعات/المنظمات الأهلية، (7) استهداف شخصيات هامة، (8) ملاحقة الصحفيين، (9) وصف كل انتقاد بأنه "خيانة" و (10) تدمير دولة القانون."
أما شاكر النابلسي وهو كاتب وباحث أردني فيقول في مبحث رائع له تحت اسم "العرب من حكم الخلافة المطلق إلى الديكتاتورية الطاغية": ما الفرق بين الخليفة الكلاسيكي والخليفة المعاصر؟ الخليفة الكلاسيكي كان يمسك بالسلطات الثلاث : التشريعية والتنفيذية والقضائية. ومن هنا جاء الاستبداد والظلم الذي كان يقويه السلطان والمال في الوقت نفسه. وكان الخليفة هو ”ظل اللـه على الأرض“ كما قال الخليفة المنصور، وهو الأمين على بيت المال الذي هو مال اللـه، باعتباره ظل اللـه وخليفة رسول اللـه، كما قال معاوية بن أبي سفيان. أما الخليفة المعاصر، فهو الآن يفعل الشيء ذاته. بيده نفس السلطات الثلاث، وإن بدت هذه السلطات - ظاهريا - مستقلة ومنفصلة عن الخليفة، إلا أنها في حقيقة الأمر ليست كذلك، وإنما كلها بيد الخليفة المعاصر. وما انتشار الاستبداد الحالي في العالم العربي إلا نتيجة لذلك. ويستشهد شاكر النابلسي بما قاله السيد العلوي عن الخلافة المعاصرة في كتابه ( أضرار الحكم القبلي في دول الخليج العربية، 2003 ) بالقول: ”لقد اعتمدت الديكتاتوريات على مر التاريخ على فلسفات واهية لتبرير احتكارها للسلطة وحرمان الآخرين، كالحق الإلهي في الحكم، وكحق الأسرة والسلالة في القرون الغابرة، والقرون المتأخرة حيث تنامت فلسفة المجموعة الطليعية والريادية التي تقود الأمة ولو بالقهر إلى تطورها المأمول على مختلف الأصعدة. ونشأت على ضوئها الدول الشمولية، وتحورت في شكل سياسي عبرت عنه بوضوح دول الحزب الواحد. وقد حاولت مختلف هذه الصور التلبس بالدين عندما ترى احتياجا لذلك، فتوظيف الأحاديث والمفاهيم الدينية من أجل تبرير وصولها إلى اعتلاء السلطة واحتكارها لها. إلا أن أقبح الفلسفات في نظري هي فلسفة الحق الإلهي في الحكم المنحصر في شخص بعينه أو أسرة بعينها اعتمادا على جدلية كاذبة، تتمحور حول ادعاء أن اللـه تعالى خص هذه الأسرة بالحكم والسيطرة على القرار، وأن باقي الأسر أو التشكيلات أو الأمة بأسرها عليها التسليم والرضي بذلك، ويحدد الكاتب على ألشمري في مجـــلـــــــة النبـــــــــأ - العــــــدد55 - مارس 2001م، مساوئ الديكتاتورية التي يصنعها الديكتاتور دون أن يدري - لكونه ديكتاتوراً - فلا يراها ولا يستشعرها وتكون هي وقود الشعوب والشرارة الأولى دائما في الثورة والإطاحة به في عدة نقاط أهمها أن الديكتاتورية تمثل بذرة الاستبداد الذي يقدم للمجتمع مُثلاً،محدودة و مكررة، وهذه المثل غير قادرة على مد المجتمع بالطاقة الكافية لبدء مسيرة البناء الحضاري ومواصلتها، ومن ثم فلابد أن يرتكس المجتمع في براثن التخلف الحضاري، والتمزق المجتمعي، لان من طبيعة النظام المستبد أو الفرعوني - بالمصطلح القرآني - أن يقسّم الناس إلى طبقات وفئات بحسب قربهم أو بعدهم من النظام، وبحسب موقفهم منه، وهو ما يعد جزءاً من آلية السيطرة على المجتمع والتحكم فيه مما يحمل أبناء المجتمع الرافضين له على التفكير بأساليب عنيفة في مواجهته، وهذا يفتح الباب أمام العنف والعمل المسلح لحل المشكلة السياسية المتمثلة بوجود السلطة الإرهابية التي كان لها السبق في استخدام العنف في التعامل مع الناس، ومجتمع يعيش دوامة العنف والتوتر الداخلي لا يمكنه أن يسلك الطريق المؤدي إلى النهوض الحضاري
.وهذا ربما ما أراه أنا أيضا في كونه الدافع الحقيقي وربما الوحيد وراء مايسمى بالفتن الطائفية والصراعات الأهلية التي دائما ما تكون بداية سيناريو الإطاحة بالنظام الحاكم، إذ تنمي الفتن الطائفية والصراعات الأهلية عند المتصارعين والضحايا على حد سواء مشاعر الشجاعة وعدم الشعور بالخوف ومواجهة الصراع وكلها أمور تمهد السبيل المعنوي عند المضطهدين – مستقبلاً – في قبول الصراع والموت وتحدي النظام بثورة شعبية كحل وحيد وحتمي للحرية والعدالة والمساواة.
ولعل من أدق ما قرأته في وصف الديكتاتورية كواقع معاش ذلك الذي نقله لنا الكاتب والناقد والأكاديمي المصري رشيد العناني من وصف "هرِتا مُولر" Herta Muller الروائية الألمانية الرومانية، الفائزة بجائزة نوبل في الأدب لعام 2009، في أشهر رواياتها، "حيوان القلب"، التي نُشرت لأول مرة في ألمانيا سنة 1993 بعد سقوط شاوشيسكو ونظامه، وقبل أن تترجم إلى الإنجليزية بعنوان «أرض البرقوق الأخضر» سنة 1996، حيث تصف حال العيش في ظل حكم الديكتاتور الروماني نيقولاى شاوشيسكو 1918 ــ 1989 قبل سقوط نظامه وإعدامه مع زوجته، فتقول: بإمكانك أن تحس بهم متربصين، يوزّعون الخوف». (ص 48 من الترجمة الإنجليزية).هكذا تصف وتسترسل بالقول: العيش في ظل دولة شمولية، في ظل القمع الأمني، تحت المراقبة المستمرة، في خطر دائم من الملاحقة والاعتقال لسبب أو لغير ما سبب، في خطر الطرد من الوظيفة، في خطر الأخذ بالشبهات، في خطر امتهان الكرامة والإذلال، مثل هذا العيش لا يترك في نفس المواطن، إن عجز عن المقاومة، سوى الرغبة في الهرب، في الخروج إلى بلد آخر. فقط الطبقة الحاكمة يطيب لها العيش في ظل نظامها، "كان كل فرد يعيش على أمل الهروب. كانوا يفكرون في السباحة عبر نهر «الدانوب» إلى أن تصبح المياه بلدا آخر، في الجري خلال حقول الذرة إلى أن تصبح التربة بلدا آخر. كان بإمكانك أن ترى في عيونهم أنهم لن يلبثوا أن يصرفوا كل قرش في جيوبهم من أجل الحصول على خرائط تفصيلية (...) الوحيدون الذين لم يكونوا يريدون الهرب هم الديكتاتور وحراسه. كنت تستطيع أن ترى ذلك في عيونهم، وأيديهم، وشفاههم. اليوم وغدا وبعد غد سوف يصنعون المقابر بكلابهم، وبرصاصهم (...) بإمكانك أن تحس بالديكتاتور وحراسه يحومون حول كل خطط الهروب السرية" ، إن اليأس يبلغ حدا يصبح الكره معه خدمة تُوظف لمصلحة النظام إذ لم أكن أعرف أن الحراس يحتاجون تلك الكراهية لكي يمارسوا عملهم الدموي بدقة يومية، أنهم يحتاجونها لكي يتصرفوا في المصائر لقاء رواتبهم، وأنهم لا يمكنهم أن يصدروا الأحكام إلا ضد أعدائهم. إنما يثبت الحراس جدارتهم بقدر ما يكون لهم من أعداء".
وصف دقيق لكل ما تعانيه أي امة تحت حكم ديكتاتور، ممارسة العمل الدموي اليومي لحرس الديكتاتور بكل دقة لقاء رواتبهم!!.
ولعل ذلك الوصف ينحت لنا بعناية ملامح ديكتاتور اسبانيا فرانشيسكو فرانكو بهاموند وهو صورة بالكربون من كل الديكتاتوريات السابقة والمعاصرة، ذلك الديكتاتور الذي حكم أسبانيا حكما مستبدا، حتى انه كان يعين كل أعضاء البرلمان الاسباني ‘الكارتز’ بمعرفته عن طريق حرسه الخاص إذ انشأ البرلمان فقط كديكور ليقال عنه انه يمارس الديمقراطية في بلاده رغم انه كمم فيها الأفواه، وملأ السجون بالمعتقلين وكان لا يطيق أن يسمع من احد كلمة ‘لا‘.
كانت الأحكام العرفية هي السائدة طوال فترة حكمه.. أما المحاكمات فكان أغلبها يقام أمام محاكم عسكرية! وهنا يقول الدكتور محمود متولي: ‘لقد قام فرانكو خلال فترة حكمه بنفي أكثر من نصف مليون مواطن بعيدا عن الوطن الأم، واستمر الناس في موات.. وامتلأت السجون بالأحرار، وقيل إن حكم فرانكو قام بإعدام أكثر من 250 ألف مواطن‘!، أن فرانكو ككل طاغية في التاريخ عاش معزولا عن شعبه، يحكم من خلال البندقية ويظن انه مبعوث العناية الإلهية.. ولولا المعونات الأمريكية لكانت اسبانيا تعاني مجاعات متكررة..و بدلا من أن يحمي الشعب كان هو عذابا للشعب.
لقد فعلها التوانسة إذن حيث لم يختلف زين العابدين بن علي كثيرا عن فرانكو أو أي ديكتاتور آخر سابق أو معاصر، فعلها التوانسة بعدما داهمهم اليأس وقتل الحريات وانهيار الأحلام على عتبات محاسيب السلطة والسلطان وحيث لا قانون ولا عدل ولا رموز وطنية وأصبح الكل أشبه بدوائر صغيرة عنصرية منغلقة على نفسها يضغط بعضها على بعض ويفتت بعضها بعضا في أحلك فترات شعوبنا العربية سواداً وظلمة.
إن ماحدث في تونس من غليان شعبي أطاح برئيس الجمهورية هو رد فعل طبيعي للشعوب التي لديها بصيص من كبرياء وبصيص من كرامة.
إن ما حدث في تونس دعوة للجميع أن يقرأوا ولا يقيموا علينا الحد وأن يسمعوا دون أن يقيموا علينا الحد وأن ينظروا حتى يقيموا بنا ولنا دولة العدل والحرية والمساواة، فنحن شعوب تملك كل مقومات المشاركة الحضارية في ذلك العالم الذي نحياه، وقد فعلتها تونس، فعلها شعب يأبى إلا أن يكون سيداً في وطنه.

الجمعة، 18 مارس 2011

سيد درويش في ذكراه زعيم ثورة مصر يناير 2011

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
ولأن الأبطال لا تلدهم الأمهات‏..‏ وإنما تلدهم الأمم‏، فإن سيد درويش يولد ولم يأت إلهامه الثوري من فراغ وإنما من رحم الأمة، من رحم مصر، فقد عاش صباه في ظرف سياسي غاية في التعقيد، فملأ في ضميره مخزونا عظيماً من النور والانتماء كما هو دوما عند أصحاب الضمائر الوطنية.

ليس هناك صراع بين حق وحق، بل بين حقٍ وباطلٍ وينتصر فيه الحقُ دوما حتى وإن طال أمد الصراع، وهناك صراع بين باطل وباطل وهذا الأخير هو أقساها وأكثرها فتنة وخراباً ولا انتصار فيه.
يقول سيد درويش على لسان بديع خيري حينما أدرك بحسه الوطني النقي أن هناك صراعا بين الحق ( المصري ) وبين باطل ( الاستعمار ) الانجليزي: 



مصر يا أم العجايب
شعبك أصيل والخصم عايب
خللي بالك من الحبايب
هما دول أنصار القضية
آهو ده اللي صار وآدي اللي كان
مالكش حق تلوم عليا. 
لم يختار سيد درويش ممارسة الصراع حتى ولو كان بين حق وباطل حتى رغم إدراكه ويقينه بما لا يدع مجالا لشك أنه في جانب الحق، فهو ابن البلد صاحب الأرض وذاك هو المستعمر الذي لاحق له فيها، ومن هنا اختار سيد درويش كمبدع مصري ملهم أن يمارس التنوير، أن يمارس نور الإيمان بقضاياه الوطنية وينشر أشعته قدر الاستطاعة في ضمائر الأمة جميعا فصار بنقطة النور هذه زعيماً تستلهم من ضميره النقي كل ثورات الحق من بعده أضواء النصر والحرية، حتى صار سيد درويش رغم مرور أكثر من 119 عاما على ميلاده 17 مارس عام 1892 زعيماً للتنوير الثوري لكل الباحثين عن دولة الحق والعدل والمساواة حتى يومنا هذا بل أن روحه الثورية استلهمها ثوار الشباب في ميدان التحرير لينالوا بها ما أرادوه لهم ولمصر من حقوق وطموح في 25 يناير 2011 وهم يرددون أغانيه ويقذفوا بها في وجه الطاغي وجنوده المدججين بأحدث أنواع الأسلحة الفتاكة والغازات السامة لقتلهم وإبادتهم ووأد روح الثورة فيهم لينتصروا وينتصر معهم سيد درويش.
ربما من أهم ما تخلص إليه روح سيد درويش الثورية ( المستمرة ليومنا هذا ) رائعته الموجعة " قوم يا مصري مصر دايما بتناديك"، إنها أقرب للعملية الجراحية للمجتمع المصري بدون بنج، يصرخ المريض من ألم الاستئصال لكنه يعيش معافاً بعد الألم حيث لا ألم ولا استئصال، رائعة موجعة كأنه يصدح بها اليوم مع الثوار في ميدان التحرير بالقاهرة ويسخر فيها من كل خلل اجتماعي من شأنه التفريق والحؤول بين المصريين وبعضهم البعض وأمور لا طائل منها ولا قيمة فيها سوى الفتن وصراع الباطل مع الباطل الذي لا يصب إلا في صالح العدو والمتربص في أحوج الظروف الوطنية احتياجاً لتلاحم المصريين وتآلفهم، وقد غناها في ظروف تتشابه مع ظروف ما نحياه الآن، وهي البحث عن الحرية، في فترة تم فيها الغدر بمصر ونفي سعد زغلول ورفاقه خارجها لحرمانها من أبنائها الانقياء الأوفياء والمؤمنين بالتغيير، وحيث لم يدع سيد درويش حينئذ لواء الثورة أن يسّاقط بنفي هؤلاء الوطنيين بل رفعه قبل السقوط وحث الناس ( بالتنوير ) وهو يلوح به من خلال أغانيه التي تحث على الثورة والوجود داعيا المصريين بالتمسك بالأرض والتآخي والنهضة حتى وإن اختلفت مللهم ونحلهم وعقائدهم فيقول:
ليه يا مصري كل أحوالك عجب
تشكى فقرك و أنت ماشى فوق دهب
حب جارك قبل ما تحب الوجود
إيه نصارى و مسلمين قال إيه ويهود
دى العبارة نسل واحد م الجدود
قوم يا مصري مصر دايما بتناديك
خد بنصري نصري دين واجب عليك
إذن وبهذه الثورية كيف لا يكون سيد درويش زعيم الأمة؟!.
ولأن الأبطال لا تلدهم الأمهات‏..‏ وإنما تلدهم الأمم‏، فإن سيد درويش يولد ولم يأت إلهامه الثوري من فراغ وإنما من رحم الأمة، من رحم مصر، فهو قد عاش صباه وبواكير شبابه في ظرف سياسي غاية في الظلمة والتعقيد، ظرف ملأ في ضمير سيد درويش مخزونا عظيماً من النور والحكمة والانتماء كما هو دوما عند أصحاب الضمائر الوطنية، فحينما كان يبلغ من العمر أربعة عشرة عاما تقريباً قامت مذبحة دنشواي، تفتح ضميره الثوري على أقسى ما يمكن أن تتفتح عليه ضمائر الثوريين في العالم، مذابح الناس بقرية صغيره بمحافظة المنوفية في الثالث عشر من يونيو من عام‏1906‏ ، كان وقتها يعيش في الإسكندرية التي لا تبعد سوى خمسين ميلا على أقصى تقدير من المنوفية، تفتحت مداركه على غدر الانجليز وبطولة الفتى المصري الطيب زهران الذي شنقته العساكر الانجليز بتهمة انه مصري هو وزملائه الثلاثة، وشجاعة الفتى مصطفى كامل الذي أجبر أكبر طاغية حكم مصر من وراء الستار على الرحيل بلا رجعة وهو اللورد كرومر، أدت المذبحة لهروب الصفاء من كل القلوب المحبة لتراب مصر لتحل مكانه المرارة ‏..‏ أياما سوداء‏ لا شك يحياها الكل ويبحثون من خلال السواد عن نقطة الخلاص، عن حورس المصري الذي يجب أن يظهر ليحول عار موت أبيه إلى نصر ينغرس في قلوب المطحونين والبسطاء من شعب مصر فينقلب وهن قلوبهم إلى قوة، ومن قوة قلوبهم تستمد الثورة وقودها للحرية.
كان الناس يعلمون مدى عداء كرومر والانجليز للخديوي عباس الذي حكم مصر في الفترة ( 1892 – 1914 ) والذين كانوا يعتبرونه ( حورس المصري ) ويعلمون مدى قربه ومحبته لزعيم الثوار الفتى مصطفى كامل الذي نجح في خلق رأى عام ضد سياسة كرومر في مصر، مما دفع بالحكومة البريطانية ومجلس النواب وخاصة بعد هجوم الأديب الأيرلندي جورج برنارد شو وقتها على الاحتلال الانجليزي لمصر واعتبره عارا على تاج المملكة العظمى الأمر الذي أدى إلى عزل كرومر من منصبة في مصر 12 أبريل 1907بعد كلمة برنارد شو الشهيرة التي كان يقصد بها كرومر وقتذاك : "السلطة لا تفسد الرجال، إنما الأغبياء إن وضعوا في السلطة فإنهم يفسدونها".
كان يستمع سيد درويش لغناء شقيقاته فريدة وستونة وزينب وهم يرددون أهازيج شعبية تضخ الوطنية في القلوب رغم أنهن كانوا يغنونها في الأفراح الخاصة بهم وبعشيرتهم داخل الحي الذي يسكنونه كنوع من المجاملة وكذلك كنوع من المرح في ساعات السمر البريئة بأحضان ليالي صيف الإسكندرية حيث كان حي كوم الدكة أشبه بقرية صغيرة على الأطراف القريبة جداً من عاصمة العالم الخفية ( بندر إسكندرية ) التي تكتظ ويسكنها خليط كثيف من شعوب العالم اجمع بثقافاته وأيديولوجياته ومسارحه ومدارسه ودور عباداته في خليط مدهش لا تجده إلا في مصر ( وقتذاك ) وربما هو سر عبقرية مصر، وسر كونها "أم الدنيا".
كان ينصت لكل شئ ويحفظ كل شئ وربما من أشهر تلك الأهازيج الشعبية والمواويل الحسية التي حفظها موال "يا عزيز عيني وأنا نفسي أروح بلدي"، ذلك الموال أو " البكائية" التي تأثر بها سيد درويش جدا ونالت من أعماقه لدرجة أن خصص لها دورا كاملا من ألحانه وسماه بذات اسمها " يا عزيز عيني"، وكذلك موال الفتى زهران فارس دنشواي الذي كان يكرر على أخته " فريدة " أن تسمعه إياه وتنشده له بصوتها حيث كان يطمئن دوماً لحلاوة صوتها خاصة وأنها تحفظ الكثير من المواويل التي تأتي على هواه، وحيث كانا يذهبان بصحبة أقرانهم وأبناء الحي بنات وبنين فوق سطوح المنزل ليستمعوا لفريدة وهي تغني عن الفتى زهران:
من بعد حكم المحاكم والشاويش والباش
غلايين ( وساقها ) كرومر مخرب
والانجليز فرعنوا بعد ما كانوا أوباش
نزلوا على دنشواي ماخلو نفر ولا أخوه
اللى ( أتشنق ) مات واللى فضل جلدوه
واللى فضل من الجلد جوا سجنهم ورموه
يوم (شنق) زهران كانت صعب (وقفاته)
أمه بتبكى عليه فوق السطح وأخواته
لوكان له أب ساعة (الشنق) لم فاته
صبرك علينا يا ظالم بكرة راح تندم.
كان يستمع لأخته ثم يذهب ليكمل شحن ضميره وحسه الوطني من حكاوي المصريين الحماسية في المقاهي الواقعة في حي العطارين بالإسكندرية والتي تحكي عن مآثر عباس الثاني ومصطفى كامل وكرههما للانجليز وكرومر وحبهما لمصر وللفلاحين لدرجة أغضبت كرومر وجعلته يكره مصر والمصريين وعباس ومصطفى كامل ويحث حكومة انجلترا على إرسال لورد كتشنر ليباشر مهام المملكة في مصر بدلا من كرومر، بل وينتقم ممن طردوه فيوحي لكتشنر بقتل مصطفى كامل عام 1908 وبالفعل ينجح برجاله في أن يدسوا له السم ليموت وهو في زيارة الآستانة، بل ومن شدة كره كرومر لمصر وثوار مصر أوحى للورد كتشنر أن ينشئ جهازاً سئ السمعة لقمع الأحرار في مصر واغتيالهم لصالح انجلترا وهو جهاز أمن الدولة ذلك الاختراع الإنجليزي في مصر والذي اخترعوه الانجليز في مصر عام 1913 تحت اسم القلم السياسي وكانت أول عمليات الاغتيال التي قام بها هذا الجهاز البوليسي هي عملية اغتيال الخديوي عباس في 25 مايو 1914على يد احد ضباط القلم السياسي ( أمن الدولة ) ويدعى "محمود مظهر" حيث قام بإطلاق الرصاص عليه بينما كان خارجاً من الباب العالي في استانبول بتركيا ولكنها محاولة باءت بالفشل الأمر الذي دعا انجلترا في ديسمبر 1914 أن تأتي بفؤاد الأول من ايطاليا وكان ضابطا في الجيش الإيطالي وقتها لتقيمه ملكا على مصر وتمنع عباس من العودة لمصر بحجة نشوب الحرب العالمية الأمر الذي أعتبره المصريون خلع لخديوي مصر المحبوب بالقوة وعلى غير إرادة المصريين وهو ربما ما جعلهم يكرهون فؤاد الأول على ذلك حتى مات رغم إصلاحاته، وربما يدفعني الموقف لأن اسرد قصة نفي بيرم التونسي لكونها ترتبط بهذه الحادثة ( اعتلاء فؤاد الأول عرش مصر وقبوله خلع الخديوي عباس ) الأمر الذي دفع المصريين لكره الملك وجعل بيرم ينشد:
ولما خلصت في مصر الملوك
جابوك لانجليز يافؤاد قعدوك
وكان بيت الشعر هذا هو بيت القصيد الذي تم نفي صاحبه خارج مصر سنينا طوالا عقابا له على طول لسانه في الذات الملكية!.
وفاه مصطفى كامل ونفي محمد فريد واغتياله وخلع عباس بعد محاولة اغتياله وقيام الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، تتسارع الأحداث ليجد المصري نفسه بين المطرقة والسندان .. مطرقة الاحتلال وسندان القصر فيلجأ المغنى الشعبي لموال شفيقة ومتولي والذي كان يسقط فيه الفنان الشعبي إسقاطات على واقع احتلال مصر من الانجليز وتحويلها من بلد حر إلى مستعمرة لإمتاع انجلترا في غيبة الثوار والوطنيين تماما مثل "شفيقة" ( 1870 م ) التي حولها القصر إلى ( مومس ) في غياب أخيها "متولي" الجدع الثوري الذي كان في خدمة الجيش والوطن ليفاجأ بأن القصر غدر به وانتهك حرمة شفيقة أو انتهك حرمة مصر كما يحاول أن يدفع بها الفنان الشعبي للناس ليثير حماسهم ضد الإنجليز في المقهى الكبير بحي العطارين والذي ينصت إليه سيد درويش وكأنه في حالة غيبوبة وهو موال طويل تترنح من سماعه الناس حينما يردد المنشد:
نادى القاضي 
ووقف قدامو قالو بتموت شفيقة لية يا متولى 
قالو يا بية انا دمى فار زى العمال 
ومع اسود عمل الفار عمل 
وحدانا شجرة وفيها فرع مال 
مفيش غيرى لاعم ولا خال لية 
اشرب المرار دة والخل لية 
اقطعو يا بية ولا اخلية 
كان القاضى اسمو حسن 
راجل عندو فضل وأحسان 
قالو صراحة قطعو احسن 
يا متولى يا جرجاوى يا جرجاوى يا متولى.
هكذا إذن رحم الأمة الذي يخرج منه أصحاب الأرض الحقيقيين ورموز ثورتها الكبار الذين لا يدانيهم شك في مدى وطنيتهم وانتمائهم، ورغم أن الظروف الصعبة التي مر بها سيد درويش وفقر أسرته اضطرته إلى العمل مبكرا من أجل الأسرة وهو لم يكمل تعليمه بعد إلا أنه – وهو الملهم الثوري - أخذ يبحث عن وسيلة للتعبير عما يجيش في نفسه من ضغوط وعن أحلامه في الحياة ، فلم يجد أفضل من الموسيقى ، وانجذب بحسه العالي إلى ما سمعه في الإسكندرية من ألحان وأغاني على اختلاف ألوانها المحلية الوطنية والأجنبية الوافدة التي كانت تصدح بها الجاليات الأجنبية وخاصة جاليات اليونان وايطاليا في مسارحها الخاصة في إسكندرية، ثم بدأ يردد ما حفظه على أسماع أصدقائه الذين وجدوا فيه موهبة تستحق فدعوه لإحياء حفلاتهم العائلية وأفراحهم، وسرعان ما انتشر الأمر فطلبه آخرون وعرضوا عليه أجرا مقابل الغناء فقبل، حتى تدخل القدر في عام 1909 بعد رحلة شاقة له في أعمال منحطة شغلها، منها على سبيل المثال عامل بناء وصب اسمنت، ليعول بأجر هذه الأعمال المنحطة التي قبلها رغما عنه أسرته الفقيرة وحيث استمع ذات يوم لغنائه رجلان من الشوام كانا يجلسان مصادفة على مقهى بجانب العمارة التي يعمل بها سيد درويش ( عامل بناء) وكان هذين الرجلين هما أمين وسليم عطا الله أصحاب فرقة مسرحية تعمل بالشام ، فعرضا عليه العمل بفرقتهما فقبل وليبدأ من ذلك التاريخ بزوغ نجمه وأول خيوط حياته الفنية وكان عمره حينئذ 17 عاما.
سافر معهما سيد درويش إلى الشام واستطاع أن يجمع تراثا موسيقيا قيما خاصة بعد لقائه هناك بالموسيقى المخضرم عثمان الموصلي في عام 1912، وفى عام 1914 عاد سيد درويش لمقاهي الإسكندرية ولكنه عاد بالجديد فلم يعد يكتفي بتقديم ما حفظه عن الشيخ سلامة حجازي وكبار الموسيقيين مثل إبراهيم القباني، داود حسني وترديد أدوارهم الشهيرة، مثل "المحاسن واللطافة، يامنت واحشني، بأفتكارك ايه يفيدك"، ولكنه بدأ يبدع ألحانه الخاصة فقدم أول أدواره يا فؤادي، كما ظهرت أغانيه القصيرة السريعة إلى الوجود وغناها بنفسه كما غناها غيره من المطربين ، وبدأ نجمه يعلو في المدينة حتى سمع عنه الشيخ سلامة حجازي وقرر أن يذهب لسماعه بنفسه، ما أن سمعه الشيخ الكبير حتى حدث مثلما حدث مع أمين وسليم عطا الله ، عرض عليه العمل بفرقته بالقاهرة فقبل الشيخ سيد.
كانت الحرب العالمية الأولى قد غيرت كل شئ حتى أذواق الناس، كان الناس يعيشون حالة من الإحباط الوطني، حالة من اليأس القومي والأممي خاصة بعد سقوط دولة آل عثمان في تركيا جعلتهم يستسلمون للاحتلال وهذا ما رفضه سيد درويش في فرقة سلامة حجازي بالقاهرة وأصيب من جراءه بإحباط كبير جعلته يعود إلى مدينته الإسكندرية في اليوم التالي على أن لا يعود للقاهرة مرة أخرى ابداً، وان يظل ينشد أغانيه الحماسية والعاطفية وما يؤمن به على المقاهي وفي الأفراح أعظم له وأكرم ألف مرةٍ من أن يقدم المبتذل والساقط على أكبر مسارح القاهرة تحت مسمى "الجمهور عاوز كده".
في عام 1917، بعد ثلاث سنوات من اللقاء الأول ومن بداية الحرب العالمية، عاد الشيخ سلامة حجازي للإسكندرية ليبحث عن سيد درويش، بحث عنه في إسكندرية كلها حتى علم أنه يحيي فرحاً في قرية " أبيس" الواقعة على مدخل مدينة إسكندرية، وذهب له هناك الشيخ سلامة حجازي، وأصر أن يعود معه بالحنطور إلى الإسكندرية، وفي الحنطور عرض عليه الشيخ سلامة حجازي عرضا أقوى، التلحين لفرقة جورج أبيض تلحين رواية كاملة هي "فيــروز شاه" تلك الرواية التي لم تجذب الجمهور لكنها جعلته ينتبه لمنهج جديد في الموسيقى يولد من ضمير مصري نقي اسمه سيد درويش و تناثرت الأخبار إلى الفرق الأخرى فتسابقت لاكتساب سيد درويش إلى جانبها وأغدقت عليه لاجتذابه ليصبح سيد درويش ملحناً لجميع الفرق المسرحية بالقاهرة في وقت واحد ولتنضم لجذبه فرق الفطاحل أمثال نجيب الريحاني ، على الكسار ، منيرة المهدية.
وبعد انفجار ثورة 1919 تحول سيد درويش إلى فنان الشعب وصوت الأمة الذي يصرخ بطموحاتها وآمالها وقد أكد ذلك في أغنياته على وحدة وادي النيل التي تقول :
جالت لى خالتى أم أحمد
كلمايه فى متلايا
سرجوا الصندوق يا محمد
لكن مفتاحه معايا
بحر النيل راسه فى ناحيه
رجليه فى الناحية التانى
فوقانى يروحوا فى داهية
إذا كان سيبو التحتانى
وقد ساهم سيد درويش بالاشتراك مع بديع خيري ومحمد تيمور وببرم التونسي ومحمود مراد في عملية ميلاد ما يسمى بالمسرح الوطني الذي مهد بشكل فاعل في أحداث الثورة ( ثورة 1919 ) وزيادة لهيبها وبث القوة في ضمائر وقلوب أبناء مصر جميعا لصالح إنجاحها خاصة بعد نفي سعد زغلول ورفاقه، وفي عمر ثلاثة وثلاثين عاماً يخطف القدر عمر هذا الفنان الملهم الوطني وهو ينشد نشيد الوطن ليستقبل به سعد زغلول ورفاقه أثناء عودتهم من المنفى ، ولكن لم يحالفه القدر بلقاء سعد باشا ليغني له النشيد بنفسه إذ لم يكن يعرف أن انجلترا ستتخلص منه بالاغتيال أيضاً كما تخلصت من الخديوي عباس ومن مصطفى كامل ومن محمد فريد وغيرهم من خيرة ثوار مصر، واغتيل سيد درويش بجسده لكن ألحانه الثورية رددتها الملايين من بعده لسعد زغلول زعيم الوفد وثورة 1919 في ميدان المنشية، وأخذت ترددها حتى ثورة 25 يناير 2011 في ميدان التحرير.
بلادي بلادي بلادي
لك حبي وفؤادي
مصر يا أم البلاد
أنت غايتي والمراد
وعلى كل العباد
كم لنيلك من أيادي

سيد درويش في ذكراه زعيم ثورة مصر يناير 2011

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com
ولأن الأبطال لا تلدهم الأمهات‏..‏ وإنما تلدهم الأمم‏، فإن سيد درويش يولد ولم يأت إلهامه الثوري من فراغ وإنما من رحم الأمة، من رحم مصر، فقد عاش صباه في ظرف سياسي غاية في التعقيد، فملأ في ضميره مخزونا عظيماً من النور والانتماء كما هو دوما عند أصحاب الضمائر الوطنية.

ليس هناك صراع بين حق وحق، بل بين حقٍ وباطلٍ وينتصر فيه الحقُ دوما حتى وإن طال أمد الصراع، وهناك صراع بين باطل وباطل وهذا الأخير هو أقساها وأكثرها فتنة وخراباً ولا انتصار فيه.
يقول سيد درويش على لسان بديع خيري حينما أدرك بحسه الوطني النقي أن هناك صراعا بين الحق ( المصري ) وبين باطل ( الاستعمار ) الانجليزي: 



مصر يا أم العجايب
شعبك أصيل والخصم عايب
خللي بالك من الحبايب
هما دول أنصار القضية
آهو ده اللي صار وآدي اللي كان
مالكش حق تلوم عليا. 
لم يختار سيد درويش ممارسة الصراع حتى ولو كان بين حق وباطل حتى رغم إدراكه ويقينه بما لا يدع مجالا لشك أنه في جانب الحق، فهو ابن البلد صاحب الأرض وذاك هو المستعمر الذي لاحق له فيها، ومن هنا اختار سيد درويش كمبدع مصري ملهم أن يمارس التنوير، أن يمارس نور الإيمان بقضاياه الوطنية وينشر أشعته قدر الاستطاعة في ضمائر الأمة جميعا فصار بنقطة النور هذه زعيماً تستلهم من ضميره النقي كل ثورات الحق من بعده أضواء النصر والحرية، حتى صار سيد درويش رغم مرور أكثر من 119 عاما على ميلاده 17 مارس عام 1892 زعيماً للتنوير الثوري لكل الباحثين عن دولة الحق والعدل والمساواة حتى يومنا هذا بل أن روحه الثورية استلهمها ثوار الشباب في ميدان التحرير لينالوا بها ما أرادوه لهم ولمصر من حقوق وطموح في 25 يناير 2011 وهم يرددون أغانيه ويقذفوا بها في وجه الطاغي وجنوده المدججين بأحدث أنواع الأسلحة الفتاكة والغازات السامة لقتلهم وإبادتهم ووأد روح الثورة فيهم لينتصروا وينتصر معهم سيد درويش.
ربما من أهم ما تخلص إليه روح سيد درويش الثورية ( المستمرة ليومنا هذا ) رائعته الموجعة " قوم يا مصري مصر دايما بتناديك"، إنها أقرب للعملية الجراحية للمجتمع المصري بدون بنج، يصرخ المريض من ألم الاستئصال لكنه يعيش معافاً بعد الألم حيث لا ألم ولا استئصال، رائعة موجعة كأنه يصدح بها اليوم مع الثوار في ميدان التحرير بالقاهرة ويسخر فيها من كل خلل اجتماعي من شأنه التفريق والحؤول بين المصريين وبعضهم البعض وأمور لا طائل منها ولا قيمة فيها سوى الفتن وصراع الباطل مع الباطل الذي لا يصب إلا في صالح العدو والمتربص في أحوج الظروف الوطنية احتياجاً لتلاحم المصريين وتآلفهم، وقد غناها في ظروف تتشابه مع ظروف ما نحياه الآن، وهي البحث عن الحرية، في فترة تم فيها الغدر بمصر ونفي سعد زغلول ورفاقه خارجها لحرمانها من أبنائها الانقياء الأوفياء والمؤمنين بالتغيير، وحيث لم يدع سيد درويش حينئذ لواء الثورة أن يسّاقط بنفي هؤلاء الوطنيين بل رفعه قبل السقوط وحث الناس ( بالتنوير ) وهو يلوح به من خلال أغانيه التي تحث على الثورة والوجود داعيا المصريين بالتمسك بالأرض والتآخي والنهضة حتى وإن اختلفت مللهم ونحلهم وعقائدهم فيقول:
ليه يا مصري كل أحوالك عجب
تشكى فقرك و أنت ماشى فوق دهب
حب جارك قبل ما تحب الوجود
إيه نصارى و مسلمين قال إيه ويهود
دى العبارة نسل واحد م الجدود
قوم يا مصري مصر دايما بتناديك
خد بنصري نصري دين واجب عليك
إذن وبهذه الثورية كيف لا يكون سيد درويش زعيم الأمة؟!.
ولأن الأبطال لا تلدهم الأمهات‏..‏ وإنما تلدهم الأمم‏، فإن سيد درويش يولد ولم يأت إلهامه الثوري من فراغ وإنما من رحم الأمة، من رحم مصر، فهو قد عاش صباه وبواكير شبابه في ظرف سياسي غاية في الظلمة والتعقيد، ظرف ملأ في ضمير سيد درويش مخزونا عظيماً من النور والحكمة والانتماء كما هو دوما عند أصحاب الضمائر الوطنية، فحينما كان يبلغ من العمر أربعة عشرة عاما تقريباً قامت مذبحة دنشواي، تفتح ضميره الثوري على أقسى ما يمكن أن تتفتح عليه ضمائر الثوريين في العالم، مذابح الناس بقرية صغيره بمحافظة المنوفية في الثالث عشر من يونيو من عام‏1906‏ ، كان وقتها يعيش في الإسكندرية التي لا تبعد سوى خمسين ميلا على أقصى تقدير من المنوفية، تفتحت مداركه على غدر الانجليز وبطولة الفتى المصري الطيب زهران الذي شنقته العساكر الانجليز بتهمة انه مصري هو وزملائه الثلاثة، وشجاعة الفتى مصطفى كامل الذي أجبر أكبر طاغية حكم مصر من وراء الستار على الرحيل بلا رجعة وهو اللورد كرومر، أدت المذبحة لهروب الصفاء من كل القلوب المحبة لتراب مصر لتحل مكانه المرارة ‏..‏ أياما سوداء‏ لا شك يحياها الكل ويبحثون من خلال السواد عن نقطة الخلاص، عن حورس المصري الذي يجب أن يظهر ليحول عار موت أبيه إلى نصر ينغرس في قلوب المطحونين والبسطاء من شعب مصر فينقلب وهن قلوبهم إلى قوة، ومن قوة قلوبهم تستمد الثورة وقودها للحرية.
كان الناس يعلمون مدى عداء كرومر والانجليز للخديوي عباس الذي حكم مصر في الفترة ( 1892 – 1914 ) والذين كانوا يعتبرونه ( حورس المصري ) ويعلمون مدى قربه ومحبته لزعيم الثوار الفتى مصطفى كامل الذي نجح في خلق رأى عام ضد سياسة كرومر في مصر، مما دفع بالحكومة البريطانية ومجلس النواب وخاصة بعد هجوم الأديب الأيرلندي جورج برنارد شو وقتها على الاحتلال الانجليزي لمصر واعتبره عارا على تاج المملكة العظمى الأمر الذي أدى إلى عزل كرومر من منصبة في مصر 12 أبريل 1907بعد كلمة برنارد شو الشهيرة التي كان يقصد بها كرومر وقتذاك : "السلطة لا تفسد الرجال، إنما الأغبياء إن وضعوا في السلطة فإنهم يفسدونها".
كان يستمع سيد درويش لغناء شقيقاته فريدة وستونة وزينب وهم يرددون أهازيج شعبية تضخ الوطنية في القلوب رغم أنهن كانوا يغنونها في الأفراح الخاصة بهم وبعشيرتهم داخل الحي الذي يسكنونه كنوع من المجاملة وكذلك كنوع من المرح في ساعات السمر البريئة بأحضان ليالي صيف الإسكندرية حيث كان حي كوم الدكة أشبه بقرية صغيرة على الأطراف القريبة جداً من عاصمة العالم الخفية ( بندر إسكندرية ) التي تكتظ ويسكنها خليط كثيف من شعوب العالم اجمع بثقافاته وأيديولوجياته ومسارحه ومدارسه ودور عباداته في خليط مدهش لا تجده إلا في مصر ( وقتذاك ) وربما هو سر عبقرية مصر، وسر كونها "أم الدنيا".
كان ينصت لكل شئ ويحفظ كل شئ وربما من أشهر تلك الأهازيج الشعبية والمواويل الحسية التي حفظها موال "يا عزيز عيني وأنا نفسي أروح بلدي"، ذلك الموال أو " البكائية" التي تأثر بها سيد درويش جدا ونالت من أعماقه لدرجة أن خصص لها دورا كاملا من ألحانه وسماه بذات اسمها " يا عزيز عيني"، وكذلك موال الفتى زهران فارس دنشواي الذي كان يكرر على أخته " فريدة " أن تسمعه إياه وتنشده له بصوتها حيث كان يطمئن دوماً لحلاوة صوتها خاصة وأنها تحفظ الكثير من المواويل التي تأتي على هواه، وحيث كانا يذهبان بصحبة أقرانهم وأبناء الحي بنات وبنين فوق سطوح المنزل ليستمعوا لفريدة وهي تغني عن الفتى زهران:
من بعد حكم المحاكم والشاويش والباش
غلايين ( وساقها ) كرومر مخرب
والانجليز فرعنوا بعد ما كانوا أوباش
نزلوا على دنشواي ماخلو نفر ولا أخوه
اللى ( أتشنق ) مات واللى فضل جلدوه
واللى فضل من الجلد جوا سجنهم ورموه
يوم (شنق) زهران كانت صعب (وقفاته)
أمه بتبكى عليه فوق السطح وأخواته
لوكان له أب ساعة (الشنق) لم فاته
صبرك علينا يا ظالم بكرة راح تندم.
كان يستمع لأخته ثم يذهب ليكمل شحن ضميره وحسه الوطني من حكاوي المصريين الحماسية في المقاهي الواقعة في حي العطارين بالإسكندرية والتي تحكي عن مآثر عباس الثاني ومصطفى كامل وكرههما للانجليز وكرومر وحبهما لمصر وللفلاحين لدرجة أغضبت كرومر وجعلته يكره مصر والمصريين وعباس ومصطفى كامل ويحث حكومة انجلترا على إرسال لورد كتشنر ليباشر مهام المملكة في مصر بدلا من كرومر، بل وينتقم ممن طردوه فيوحي لكتشنر بقتل مصطفى كامل عام 1908 وبالفعل ينجح برجاله في أن يدسوا له السم ليموت وهو في زيارة الآستانة، بل ومن شدة كره كرومر لمصر وثوار مصر أوحى للورد كتشنر أن ينشئ جهازاً سئ السمعة لقمع الأحرار في مصر واغتيالهم لصالح انجلترا وهو جهاز أمن الدولة ذلك الاختراع الإنجليزي في مصر والذي اخترعوه الانجليز في مصر عام 1913 تحت اسم القلم السياسي وكانت أول عمليات الاغتيال التي قام بها هذا الجهاز البوليسي هي عملية اغتيال الخديوي عباس في 25 مايو 1914على يد احد ضباط القلم السياسي ( أمن الدولة ) ويدعى "محمود مظهر" حيث قام بإطلاق الرصاص عليه بينما كان خارجاً من الباب العالي في استانبول بتركيا ولكنها محاولة باءت بالفشل الأمر الذي دعا انجلترا في ديسمبر 1914 أن تأتي بفؤاد الأول من ايطاليا وكان ضابطا في الجيش الإيطالي وقتها لتقيمه ملكا على مصر وتمنع عباس من العودة لمصر بحجة نشوب الحرب العالمية الأمر الذي أعتبره المصريون خلع لخديوي مصر المحبوب بالقوة وعلى غير إرادة المصريين وهو ربما ما جعلهم يكرهون فؤاد الأول على ذلك حتى مات رغم إصلاحاته، وربما يدفعني الموقف لأن اسرد قصة نفي بيرم التونسي لكونها ترتبط بهذه الحادثة ( اعتلاء فؤاد الأول عرش مصر وقبوله خلع الخديوي عباس ) الأمر الذي دفع المصريين لكره الملك وجعل بيرم ينشد:
ولما خلصت في مصر الملوك
جابوك لانجليز يافؤاد قعدوك
وكان بيت الشعر هذا هو بيت القصيد الذي تم نفي صاحبه خارج مصر سنينا طوالا عقابا له على طول لسانه في الذات الملكية!.
وفاه مصطفى كامل ونفي محمد فريد واغتياله وخلع عباس بعد محاولة اغتياله وقيام الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، تتسارع الأحداث ليجد المصري نفسه بين المطرقة والسندان .. مطرقة الاحتلال وسندان القصر فيلجأ المغنى الشعبي لموال شفيقة ومتولي والذي كان يسقط فيه الفنان الشعبي إسقاطات على واقع احتلال مصر من الانجليز وتحويلها من بلد حر إلى مستعمرة لإمتاع انجلترا في غيبة الثوار والوطنيين تماما مثل "شفيقة" ( 1870 م ) التي حولها القصر إلى ( مومس ) في غياب أخيها "متولي" الجدع الثوري الذي كان في خدمة الجيش والوطن ليفاجأ بأن القصر غدر به وانتهك حرمة شفيقة أو انتهك حرمة مصر كما يحاول أن يدفع بها الفنان الشعبي للناس ليثير حماسهم ضد الإنجليز في المقهى الكبير بحي العطارين والذي ينصت إليه سيد درويش وكأنه في حالة غيبوبة وهو موال طويل تترنح من سماعه الناس حينما يردد المنشد:
نادى القاضي 
ووقف قدامو قالو بتموت شفيقة لية يا متولى 
قالو يا بية انا دمى فار زى العمال 
ومع اسود عمل الفار عمل 
وحدانا شجرة وفيها فرع مال 
مفيش غيرى لاعم ولا خال لية 
اشرب المرار دة والخل لية 
اقطعو يا بية ولا اخلية 
كان القاضى اسمو حسن 
راجل عندو فضل وأحسان 
قالو صراحة قطعو احسن 
يا متولى يا جرجاوى يا جرجاوى يا متولى.
هكذا إذن رحم الأمة الذي يخرج منه أصحاب الأرض الحقيقيين ورموز ثورتها الكبار الذين لا يدانيهم شك في مدى وطنيتهم وانتمائهم، ورغم أن الظروف الصعبة التي مر بها سيد درويش وفقر أسرته اضطرته إلى العمل مبكرا من أجل الأسرة وهو لم يكمل تعليمه بعد إلا أنه – وهو الملهم الثوري - أخذ يبحث عن وسيلة للتعبير عما يجيش في نفسه من ضغوط وعن أحلامه في الحياة ، فلم يجد أفضل من الموسيقى ، وانجذب بحسه العالي إلى ما سمعه في الإسكندرية من ألحان وأغاني على اختلاف ألوانها المحلية الوطنية والأجنبية الوافدة التي كانت تصدح بها الجاليات الأجنبية وخاصة جاليات اليونان وايطاليا في مسارحها الخاصة في إسكندرية، ثم بدأ يردد ما حفظه على أسماع أصدقائه الذين وجدوا فيه موهبة تستحق فدعوه لإحياء حفلاتهم العائلية وأفراحهم، وسرعان ما انتشر الأمر فطلبه آخرون وعرضوا عليه أجرا مقابل الغناء فقبل، حتى تدخل القدر في عام 1909 بعد رحلة شاقة له في أعمال منحطة شغلها، منها على سبيل المثال عامل بناء وصب اسمنت، ليعول بأجر هذه الأعمال المنحطة التي قبلها رغما عنه أسرته الفقيرة وحيث استمع ذات يوم لغنائه رجلان من الشوام كانا يجلسان مصادفة على مقهى بجانب العمارة التي يعمل بها سيد درويش ( عامل بناء) وكان هذين الرجلين هما أمين وسليم عطا الله أصحاب فرقة مسرحية تعمل بالشام ، فعرضا عليه العمل بفرقتهما فقبل وليبدأ من ذلك التاريخ بزوغ نجمه وأول خيوط حياته الفنية وكان عمره حينئذ 17 عاما.
سافر معهما سيد درويش إلى الشام واستطاع أن يجمع تراثا موسيقيا قيما خاصة بعد لقائه هناك بالموسيقى المخضرم عثمان الموصلي في عام 1912، وفى عام 1914 عاد سيد درويش لمقاهي الإسكندرية ولكنه عاد بالجديد فلم يعد يكتفي بتقديم ما حفظه عن الشيخ سلامة حجازي وكبار الموسيقيين مثل إبراهيم القباني، داود حسني وترديد أدوارهم الشهيرة، مثل "المحاسن واللطافة، يامنت واحشني، بأفتكارك ايه يفيدك"، ولكنه بدأ يبدع ألحانه الخاصة فقدم أول أدواره يا فؤادي، كما ظهرت أغانيه القصيرة السريعة إلى الوجود وغناها بنفسه كما غناها غيره من المطربين ، وبدأ نجمه يعلو في المدينة حتى سمع عنه الشيخ سلامة حجازي وقرر أن يذهب لسماعه بنفسه، ما أن سمعه الشيخ الكبير حتى حدث مثلما حدث مع أمين وسليم عطا الله ، عرض عليه العمل بفرقته بالقاهرة فقبل الشيخ سيد.
كانت الحرب العالمية الأولى قد غيرت كل شئ حتى أذواق الناس، كان الناس يعيشون حالة من الإحباط الوطني، حالة من اليأس القومي والأممي خاصة بعد سقوط دولة آل عثمان في تركيا جعلتهم يستسلمون للاحتلال وهذا ما رفضه سيد درويش في فرقة سلامة حجازي بالقاهرة وأصيب من جراءه بإحباط كبير جعلته يعود إلى مدينته الإسكندرية في اليوم التالي على أن لا يعود للقاهرة مرة أخرى ابداً، وان يظل ينشد أغانيه الحماسية والعاطفية وما يؤمن به على المقاهي وفي الأفراح أعظم له وأكرم ألف مرةٍ من أن يقدم المبتذل والساقط على أكبر مسارح القاهرة تحت مسمى "الجمهور عاوز كده".
في عام 1917، بعد ثلاث سنوات من اللقاء الأول ومن بداية الحرب العالمية، عاد الشيخ سلامة حجازي للإسكندرية ليبحث عن سيد درويش، بحث عنه في إسكندرية كلها حتى علم أنه يحيي فرحاً في قرية " أبيس" الواقعة على مدخل مدينة إسكندرية، وذهب له هناك الشيخ سلامة حجازي، وأصر أن يعود معه بالحنطور إلى الإسكندرية، وفي الحنطور عرض عليه الشيخ سلامة حجازي عرضا أقوى، التلحين لفرقة جورج أبيض تلحين رواية كاملة هي "فيــروز شاه" تلك الرواية التي لم تجذب الجمهور لكنها جعلته ينتبه لمنهج جديد في الموسيقى يولد من ضمير مصري نقي اسمه سيد درويش و تناثرت الأخبار إلى الفرق الأخرى فتسابقت لاكتساب سيد درويش إلى جانبها وأغدقت عليه لاجتذابه ليصبح سيد درويش ملحناً لجميع الفرق المسرحية بالقاهرة في وقت واحد ولتنضم لجذبه فرق الفطاحل أمثال نجيب الريحاني ، على الكسار ، منيرة المهدية.
وبعد انفجار ثورة 1919 تحول سيد درويش إلى فنان الشعب وصوت الأمة الذي يصرخ بطموحاتها وآمالها وقد أكد ذلك في أغنياته على وحدة وادي النيل التي تقول :
جالت لى خالتى أم أحمد
كلمايه فى متلايا
سرجوا الصندوق يا محمد
لكن مفتاحه معايا
بحر النيل راسه فى ناحيه
رجليه فى الناحية التانى
فوقانى يروحوا فى داهية
إذا كان سيبو التحتانى
وقد ساهم سيد درويش بالاشتراك مع بديع خيري ومحمد تيمور وببرم التونسي ومحمود مراد في عملية ميلاد ما يسمى بالمسرح الوطني الذي مهد بشكل فاعل في أحداث الثورة ( ثورة 1919 ) وزيادة لهيبها وبث القوة في ضمائر وقلوب أبناء مصر جميعا لصالح إنجاحها خاصة بعد نفي سعد زغلول ورفاقه، وفي عمر ثلاثة وثلاثين عاماً يخطف القدر عمر هذا الفنان الملهم الوطني وهو ينشد نشيد الوطن ليستقبل به سعد زغلول ورفاقه أثناء عودتهم من المنفى ، ولكن لم يحالفه القدر بلقاء سعد باشا ليغني له النشيد بنفسه إذ لم يكن يعرف أن انجلترا ستتخلص منه بالاغتيال أيضاً كما تخلصت من الخديوي عباس ومن مصطفى كامل ومن محمد فريد وغيرهم من خيرة ثوار مصر، واغتيل سيد درويش بجسده لكن ألحانه الثورية رددتها الملايين من بعده لسعد زغلول زعيم الوفد وثورة 1919 في ميدان المنشية، وأخذت ترددها حتى ثورة 25 يناير 2011 في ميدان التحرير.
بلادي بلادي بلادي
لك حبي وفؤادي
مصر يا أم البلاد
أنت غايتي والمراد
وعلى كل العباد
كم لنيلك من أيادي