الجمعة، 14 فبراير 2003

حرامي درجة سادسة

mohi_ibraheem

 

بقلم: محيي الدين إبراهيم
noonptm@gmail.com

كان ( عربي كفارة ) يثق في شخصيتي بشكل عجيب مازلت أتعجب له حتى الآن وربما كان منبع هذه الثقة هو جيبي حيث كنت الوحيد الذي يدفع ( جوز جنيهات ) ثمنا لكوب شاي في قهوته وهو في الأصل لا يساوي قرشاً واحدا لذلك صرت ( باشا ) 
( النص عواطف ) تعرفت عليه بالصدفة داخل قهوة أو ما يسمى بقهوة ( عربي كفّارة ) بمدافن الإمام الشافعي حينما كنت أتجول داخل قرى ونجوع مصر أتأمل أحوال الناس و أدون الغريب منها وربما الشاذ أيضا بحكم طبيعتي كرجل يهتم بهذه الانماط من البشر.
وأنا اعلم أن القارئ ينتابه الآن بعض الفضول لمعرفة معاني أسماء هؤلاء البشر كما انتابني أول مرة حين التقيت بهم، وعليه فالسيد عربي كفارة اسمه الحقيقي إسماعيل أبو محاسن من عرب قنا لذا اشتهر بعربي ولما كان دائما يدخل الحجز مرتين أسبوعيا لمشاغبته المستمرة فقد كان الناس يخرجون له مهنئين مرتان في الأسبوع خوفا من بطشة ويرددوا له كلمة ( كفارة ) حتى التصقت به هذه الكنية بمرور الزمن واصبح هو يعتبرها شرفا لنفسه ولعائلته تحت دعوى انه دوخ الشاوشية والعساكر والمخبرين في قسم السيدة عيشة.
وأنت تستطيع ببساطة أن تحدد ( عربي كفارة ) من وسط ملايين البشر لعظيم ( قفاه ) الذي ربما جاءت عظمته وفلطحته الاشبه بورقة الخروع من فرط ضرب الشاوشية والمخبرين عليه وعلى مدي سنين طويلة وبالحذاء، بل انه – وحسب تقديري المتواضع – يعتبر بحق ( القفا ) الإنساني الوحيد الذي تستطيع ان تقسم بالله وأنت مطمئن أليه انه ( قفا ) صاحب خبرة بل ويمكنك قراءة تاريخ السجون المصرية كلها عليه من خلال السجحات والأورام المنتشرة في ربوعه هنا وهناك وكأنها بالوعات مجاري طفحت فجأة في شارع شبرا وليس إطلاقا ( قفا ) بني آدم مثل بقية خلق الله، كما انه بالإضافة إلى ذلك يتميز بابتسامة تدفعك لأن تتمنى لو تطلق عليه الرصاص عدة مرات لعدة ايام متتالية لبشاعتها رغم طيبته المصطنعة التي أرغمته الحاجة وربما تقدم العمر إلى تخليقها صناعيا لجذب الساذجين أمثالي لقهوته للتمتع وربما التأمل والتحاور مع الشخصيات الغريبة التي تردادها والذين ليس لهم وجود في بر مصر كله إلا فيها.
كان ( عربي كفارة ) يثق في شخصيتي بشكل عجيب مازلت أتعجب له حتى الآن وربما كان منبع هذه الثقة هو جيبي حيث كنت الوحيد الذي يدفع ( جوز جنيهات ) ثمنا لكوب شاي في قهوته وهو في الأصل لا يساوي قرشاً واحدا لذلك صرت ( باشا ) ولا يناديني الرواد إلا بالباشا ربما أيضا لأنهم تعودوا على نطقها وترديدها من كثرة تعاملهم مع الضباط والمخبرين فى الأقسام ومراكز الشرطة نظرا لكون الغالب منهم يعمل في كار النشل.
والمدهش في الأمر اني كنت أجد متعة غريبة كلما انتابني حالة من حالات الاكتئاب في الذهاب الى ذلك المقهى وسماع حوارات رواده الذين اطمأنوا لوجودي واطمأنوا الى انني لست من ( إخواننا البعدا ) أصحاب البلاطي الشتوية السوداء والتي يرتدونها حتى في الصيف ويعرفون باسم المخبرين السريين وهم اصل معرفتي ( بالنص عواطف ) الذي بادرني ذات مرة بقولة :
 انا عارف انك مش مخبر ياباشا، وعلى فكرة بقى ياباشا المخبرين دول افتروا افتروا يعني، وانا بقولها ومش خايف والله العظيم.
وعلمت من سيادته ان اسمه ( عرفة توفيق ) وانه لا يعرف اكثر من هذا عن اسمه وان سبب تسميته بالنص عواطف كانت بسبب عشقه لعواطف بنت المعلم حسان ( التربي )، وقد كانت ذات جمال وقوام تحسد عليه كما ان مقام والدها كتربي سلطاني يعمل فقط في احواش الأمراء السابقين من أهل العائلة المالكة جعلتها مطمع لكثير من شباب الطرب في مدافن الامام، لكنها كانت أطول منه بكثير إذ يتميز هذا النص بقصر قامته وكانت كلما افضى لها بحبة سخرت منه واستهزأت و أقسمت بأنها لا تنوي حتى ان ماتت ان ترتبط بنصف بني آدم ( طوله شبرين ) ومن هنا جاءت تسميته بالنص وحينما تزوجت عواطف من رؤوف ( الحداد ) ثارت ثائرة النص فاشعل النار في صوان الفرح لتقضي الحته كلها بقية الليلة في التخشيبة بسبب جنان النص بعواطف ومن يومها ويطلق عليه الناس ( النص عواطف ).
والنص عواطف لم يولد لصا أو تم خطفه كما في أفلام انور وجدي على يد المعلمة ( شلا ضم ) ليتعلم كار النشل ولكنه تعلم النشل على كبر ونبغ فيه كما لم ينبغ أحدا من قبل:
 الله يسامحة بقى الواد ( جوره ) هو اللي قاللى القرش بيطول القصير وبيحللي الوحش، والبلد ضيقة مافيهاش شغل، وكان لازم أجيب فلوس علشان أبقى طويل في عين عواطف، اعمل أية بقى يا باشا وكل السكك مقفلة في وشي، اتعلمت النشل!، وبعدين ياباشا هو انا لوحدي اللى حرامي دحنا بنسمع في النشرة بلاوي، وحرامية كبار قوي بيسرقوا بالتليفون، صحيح ياباشا ازاي أتعلم كار النشل بالتليفون؟
ولما بادرته بسؤالى ان يذكر لى اسما واحدا من لصوص التليفون استخف بسؤالي وكأنني هبطت عليه من المريخ وقال:
 يا باشا أنا حرامي درجة سادسة، ايش جاب بقى الدرجة السادسة لحرامي بدرجة وكيل وزارة، العلام بيفرق برضه يا باشا.
وتأملت عبارة هذا النشال صاحب الفلسفة ( النشالية ) ووجدت فعلاً ان القدوة هي اصل السلوك في المجتمع وعليه فالنشال لم يصبح نشالا كنوع من الترف أو الفخفخة ولكنه صار نشالا من القدوة وهو يرى – من وجهة نظره - ان من العدل أن تتوافر له الحدود الدنيا من كرامة البني آدم في وطنه وان لم تتوافر فعليه أن يحلها هو بوعيه الخاص وربما الشاذ وغالبا ما تكون النتيجة هي الانحراف قال:
 انا مش منحرف ياباشا واللهي العظيم، أنا بعرف افك الخط و أقرا جرايد، ولو فيها قلة ادب يعني ياباشا انت مش كل يوم بتقرا عن المنحة والديون، و برضه في نفس الجرنان بتقرا عن خمسة ستة، اللى فيهم سرق بنك واللي فيهم اختلس شركة، يعني اللى بتجمعه النملة في سنة بياخده الجمل في خفه، مش كدة واللا ايه يا باشا؟
كانت الساعة تقترب من الثالثة بعد منتصف الليل حين اقسم لى ( النص عواطف ) بأنه حلف مائة يمين للشاويشية وعلى المصحف كمان اني لادخل لي إطلاقا ( بحوش تمبل ) وهو الحوش التي تقع فيه القهوة واقتحمته قوات الشرطة وقامت فيه بتعبئتنا جميعا كالنعاج داخل ( البوكس ).
اطل الشاويش النوبتجي من خلال النافذة الضيقة للتخشيبة ونادى بأعلى صوته على اسمي فوجدتني بحركة عفوية اتحسس مؤخرتي ولكن انتابني الاطمئنان حين عقب الشاويش بقوله اني افراج لثبوت اني مجرد زبون قهوة لاناقة لى في شئ ولاجمل.
عانقني ( النص عواطف ) بشدة وهو يصرخ في وجهي ( كفارة ياباشا ) فخرجت من باب قسم السيدة عائشة وانا اتحسس قفاي المتورم متذكرا قفا عم عربي كفارة!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق